إن أهل جهاد النفس يجدون لذة في حياتهم لا يجدها أهل الفسق والفجور
إن مخالفة النفس أمر صعب في الظاهر، إذ تريد أن تخالف رغبة ونزعة ظاهرة، ولأنّها ظاهرة تشعر بأنّها رغبة شديدة، وهذا ما يجعلك تعتبر مخالفة هذه الأهواء أمرا عسيرا. ولكن هذه المخالفة في الواقع هي من أجل الوصول إلى الرغائب الخفيّة التي هي أعمق وأمتع وألصق بالفؤاد. ولهذا عندما نبدأ في هذا الجهاد ونخطو بعض الخطوات إلى الإمام ونذوق شيئا من رغائبنا العميقة، عند ذلك ندرك أن هذه المخالفة ليست بصعبة أبدا.
إن ماهيّة العسر والألم هو أن يكون الشيء مخالفا لهوانا وإنّ ماهيّة اللذة والسرور هو أن يكون الشيء موافقا لهوانا. إذن فعندما يقوم أحد بمخالفة أهوائه السيئة ويصحّي رغباته الجيّدة ويلبّي نزعاته العميقة والقيّمة، يشعر بلذّة لم يذقها أهل الفسق والعصيان في حياتهم قط.
إن عبادة الله يمثّل نزعة عميقة وممتعة جدا في وجود الإنسان. وإنه أقوى وأمتع بكثير من الميل إلى الشهوات، ولكنه أخفى من حبّ الشهوات. فمن هذا المنطلق إن من يلبي رغبته في عبادة الله ويرضي ربّه، يتمتع بلذة لن يجدها من يقوم بإرضاء هوى نفسه أبدا. فعلى سبيل المثال، من الذي يشعر بلذّة أقوى؛ هذا الذي يسبّ ويشتم إرضاء لهواه، أم الذي يسيطر على لسانه إرضاء لربّه؟ فلا شك في أن لا قياس باللذة التي يجدها الثاني تجاه لذّة الأوّل. وأيّهما أشدّ لذة؛ من يقابل السوء بالسوء والانتقام إرضاء لهوى نفسه، أم من يعفو عن الناس إرضاء لربّه؟
كل من تزداد لذته بعلاقته بالله، يزداد بالمقابل أجرا من الله
واللطيف هو أن الذي يحظى بمزيد من اللذة وأقواها بسبب إرضاء الله في حياته، يُفترَض أن يزداد دَيْنا لله بسبب زيادة اللذة التي عاشها في حياته، ولكنّ الله يزيده أجرا ويرفع درجاته في الجنان. إنّ من لطف الله وكرمه هو أن كلما ازداد الإنسان انتفاعا من الله، يزداد نصيبه من الله في الجنة. يعني كل من عاش لذة أشد وأقوى في ظلّ علاقته مع الله في هذه الدنيا، يزداد أجرا منه سبحانه وتعالى. غيّر رؤيتك عن الله، فإن الله لم يرد منك أن تضحّي برغباتك ولذاتك في سبيله، بل أراد أن تضحي بلذاتك السطحية والقليلة في سبيل لذاتك العميقة والشديدة!
عندما تطبخ أمّ لولدها طعاما، كلّما التذّ الولد بطعام والدته وأكل من الطعام أكثر، تزداد الأمّ فرحا. ولا شكّ في أن الله الذي خلق الأمّهات، هو أرحم بعباده منهنّ جميعا.
الإنسان الذي يجاهد نفسه لم ينجز شيئا
لا ينبغي للإنسان الذي يجاهد نفسه، أن يعتبر نفسه قد أنجز شيئا خارقا وقام بعمل شاقّ، إذ أن اللذة التي يجدها في خضمّ جهاد نفسه، لن يجدها الفسقة وشرابو الخمر أبدا. فهو لم يكن يطلب اللهَ شيئا بهذا الجهاد، بل يزداد دَينا له، إذ قد لبّى رغبات قلبه العميقة وحظى بمزيد من اللّذة، وقد نال ما يميل إليه ويرغب فيه واقعا، وبعد كل هذا سيثيبه الله بالجنة لكونه قد لبّى رغباته الحقيقية! وهذا من لطف الله، فلا ينبغي أن نتوهم بأننا قد أنجزنا شيئا كبيرا.
إن الذين يجاهدون أنفسهم يلتذون في حياتهم أكثر من أهل الفسوق والفجور/ إن مخالفة النفس إرضاء للنفس في الواقع
إن أهل الفسق والفجور لا يعيشون لذة أولئك الذين يقومون بتلبية رغباتهم العميقة والفطرية والخفية ولا يشعرون بسرورهم، إذ أن مخالفة النفس هي إرضاء للنفس في الواقع، وهي عبارة عن العبور من أميال النفس السطحية لتلبية الرغائب العميقة والجيّدة في النفس.
سألني أحد الإخوة وقال: «ألا يتعقّد الإنسان نفسيّا فيما إذا جاهد نفسه ليل نهار وحرمها عن لذّاتها؟». قلت له: بالتأكيد! فإن أدمن الإنسان على مخالفة نفسه وهواه يتعقّد نفسيا ويبتلى بمرض في أعصابه وتضعف قواه وقد يحقد على الناس ويصاب بستين مرض آخر! ولكن إنّ مخالفة النفس، ليست مخالفة جميع أبعاد النفس، بل إنما هي مخالفة الجانب السطحي والرخيص منها، وفي نفس الوقت الذي تجاهد فيه هذا البعد من النفس، تلبّي رغبة رائعة وعميقة جدا في نفسك.
يقول الرسول الأكرم(ص): «النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ فَمَنْ تَرَكَهَا خَوْفاً مِنَ اللَّهِ أَعْطَاهُ إِيمَاناً يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ»[جامع الأخبار/ص145]. وقال (ص): «النظر إلى محاسن النّساء سهم من سهام إبليس فمن تركه أذاقه الله طعم عبادة تسرّه»[مستدرك الوسائل/ج14/ص271]. فإن غضّ أحد النظر وترك اللذة ولم يجد تلك اللذة العميقة وطعم العبادة فليعلم أن لم يكن غضّه البصر في سبيل الله وإلا لوجد هذه اللذة.
في سبيل كشف رغائبنا العميقة والكامنة ولا سيما رغبتنا في عبادة الله، لابدّ لنا أن نضحي بأهوائنا ورغائبنا السطحية
في سبيل أن نكشف رغبتنا العميقة والكامنة المتمثلة بحب عبادة الله، لابد أن نجاهد رغائبنا السطحية والتافهة وأن نضحّي بها في سبيل الرغائب العميقة، أي لابدّ أن نقف أمام شهواتنا وأهوائنا. وعليه فلابد أن نخاطب ربنا في سجّادة الصلاة ونقول له: «إلهي! أنا الآن أسير بيد رغباتي السطحيّة ولا أدرك لذة عبادتك، ولكني سمعت أن هناك حقائق وراء هذه الظواهر فصدقت نبيّك، وأنا الآن أصلّي بين يديك بلا أن أشعر بلذة الصلاة...»
أساسا إن الصلاة تمثّل جهادا للنفس، إذ ليس فيها جذابيّة في بداية الأمر، وعادة ما نحاول أن نصلّي ونتمّ الصلاة تأدية للواجب وحسب، ولكن من أجل أن نرغم أنف نفسنا ونحارب أهواءنا، ينبغي أن نصلي باطمئنان وهدوء وبدون استعجال. فكلما أردت أن تستعجل في صلاتك وتكملها بسرعة، أبطئ في صلاتك وكرّر أذكارك لتلوي عنق نفسك وتقعدها في مكانها.
أتذكر في زمن كنّا نصلي خلف آية الله الشيخ الأراكي(رضوان الله عليه) حيث كان يصلّي في مسجد صغير جدا في جوار ضريح السيدة المعصومة(ع)، ولكن كانت صلاته طويلة جدّا ولا تقاس بصلاة الشيخ بهجت من حيث طولها. فكانت صلاته ترغم أنف النفس. فمن كان يريد أن يلوي عنق نفسه، كان يصلي خلفه. فإذا وجدتم إماما يصلي صلاة طويلة، اقصدوه بعض الأيام وصلّوا خلفه لتخالفوا بتلك الصلاة نفوسكم وترغموا أنفها.
يتبع إن شاء الله...