إليك ملخص الجلسة الثامنة من سلسلة محاضرات سماحة الشيخ بناهيان في موضوع «الطريق الوحيد والاستراتيجية الرئيسة في النظام التربوي الديني» حيث ألقاها في ليالي شهر رمضان المبارك عام 1434هـ. في مسجد الإمام الصادق(ع) في مدينة طهران.
مرور على ما سبق/نحن بصدد كشف برنامج لحياة وعبادة أفضل
نحن بصدد كشف برنامج لحياة وعبادة أفضل. ولابدّ لهذا البرنامج أن يكون كفوء كما لابدّ أن يكون عمليّا وأن يكون مؤثرا ومفيدا في نفس الوقت، وبالإضافة إلى ذلك ينبغي أن يتصف بشمولية وأن يكون شاملا لجميع الناس، لا المؤمنين فقط دون غيرهم. فإن كان البرنامج برنامجا عمليا صحيحا لتحقيق حياة وعبادة أفضل، لابدّ أن يكون مشتركا بين الصالحين وغير الصالحين من الناس. ونحن نصبو إلى كشف برنامج جادّ وعميق وصائب ليحسّن حياتنا لا عبادتنا فقط، فإنّ تحسين الحياة مقدمة لتحسين العبادة.
ما هي مواصفات البرنامج الجيد
ما هي مواصفات البرنامج الجيد؟ من مواصفاته هي أن يكون ذا محور واحد. فإن البرنامج التي يجعل الإنسان أمام مئة محور وعمل لا يؤدي إلى نتيجة؛ من قبيل ما لو كان البرنامج عبارة عن مجموعة من الأعمال والوصايا المتناثرة في ضرورة الصبر ووجوب الصدق وحسن التواضع وكراهية البخل وقبح الحسد وحرمة الحرص وأهمية العبادة وضرورة صلة الرحم وحرمة أكل الحرام إلى غيرها من الحسنات والسيئات. فإن هذا ليس ببرنامج، بل مجموعة من الأوامر والنواهي غير المنتظمة وغير المبرمجة. بيد أن هذه الوصايا لها نظام وهيكلية لابد من كشفها وإعطائها للناس، لكي تكون حياتهم على أساس برنامج منتظم.
من مواصفاته الأخرى هي أن يكون مستوحى من القرآن والروايات، وأن يكون منسجما مع أحاديث أهل البيت(ع)، فلا يمكن أن نبدع برنامجا من جيبنا. و من جانب آخر يجب أن يكون متناسبا مع وجود الإنسان، وحقائق حياة الإنسان. فلا يمكن أن يكون البرنامج بلا علاقة مع ما تحدثنا عنه في تعريف الإنسان وهويته وماهيته.
لقد خلق الإنسان من أجل جهاد داخلي روحي، أي مجاهدة الأميال والرغائب
على رأس الخصائص التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في تعريف الإنسان هي: «أن الإنسان قد خلق بأميال ونزعات مختلفة ومتضاربة، وبمقتضى هذه النزعات المختلفة غالبا ما يقف أمام طريقين أو أكثر في مراحل حياته، ولهذا قد منح الإنسان حقّ الاختيار وأصبحت اختياراته الصائبة ذات قيمة». وأما باقي خصائص الإنسان من قبيل قدرته على تحصيل العلم فهي قد منحت له لكي تمكنه من الاختيار الصائب.
فعندما يقف الإنسان في مقام اختيار إحدى رغباته من بين مختلف الرغائب، لابدّ له من أن يضحّي ببعض هذه الرغبات في سبيل بعض أخر. ومن هنا يبدأ موضوع جهاد النفس. ولهذا ندّعي أنّ عنصر «جهاد النفس» يمثل أحد عناصر تعريف الإنسان. يعني أن الإنسان هو كائن خلق من أجل جهاد داخلي وروحي، أي مجاهدة رغائبه. وقد قامت هذه المعركة بسبب وجود نزعات وأميال مختلفة في داخل الإنسان، ولو لا هذا الاختلاف والتعارض لكان الإنسان مَلَكا أو حيوانا.
لقد أودع الله في قلب الإنسان نوعين من الرغائب: 1. الرغائب السطحية والرخيصة، ولكنها جليّة 2. الرغائب العميقة والقيّمة ولكنها خفيّة
وفي سبيل أن يتحقق جهاد الإنسان لأهوائه بشكل صحيح، قد أودع الله في قلب الإنسان نوعين من الرغائب: إحداها هي الرغائب العميقة والقيمة ولكنها خفيّة، والأخرى هي الرغائب السطحيّة والرخيصة ولكنها جليّة. إن هذين النوعين من الرغائب ليست سواء، بل إن الرغائب الجيدة والقيّمة أقوى من الرغائب الرخيصة أو التي لا قيمة لها، ولكن بسبب خفائها لابدّ للإنسان أن يعبر من رغباته السطحية والرخيصة ويضحي بها في سبيل الوصول إلى الرغائب العميقة والقيّمة.
فلو كانت الرغائب الجيّدة والعميقة ظاهرة في داخل الإنسان، لكان الناس جميعهم قد اختاروا هذا النوع من الرغائب لقوتها في قلب الإنسان، ولما حصل جهاد النفس قط. ولهذا فقد أخفى الله هذه الرغائب الشديدة في أعماق قلب الإنسان، وأظهر الرغائب الضعيفة لكي تتوفر أرضية جهاد النفس.
في السنين السبع الأولى من عمر الإنسان تتبلور الرغبات السطحيّة، وتلك المرحلة هي وقت تجربة هذه الرغائب، فقد أوصانا الإسلام أن نجعل الطفل أميرا في البيت وندعه وشأنه يفعل ما يشاء، لتتبلور رغباته السطحية، فلابدّ أن يجرّب هذه الرغبات ويذوق طعمها قدر المستطاع ليعرف الطعم الحلو ويذوق الراحة ويأنس بالمحبة والحنان. كما تتبلور في وجوده الأنانية ويظهر في السنة الثالثة من عمره الحسد أيضا. ثم بعد سنتين يحاول أن يقلّد الكبار ويلبس ملابسهم لتكون علامة على بوادر حبّ العظمة وحبّ الكِبَر وحب المقام.
يزعم البعض أن رغباتهم الرخيصة والسطحيّة أشدّ من غيرها وإن مخالفتها صعب جدا
إن هذه الرغبات التي يتعرف عليها الطفل في السنين السبع الأولى من حياته، ليست برغبات سامية بل هي رغائب سطحية يميل إليها الإنسان كما يميل إليها الحيوان وجميع الحيوانات يدركون هذه الرغبات ويتحركون على أساسها وليس لهم شأن سواها ولا يفهمون شيئا وراءها. إن هذه الرغائب السطحية تظهر نفسها كرغائب شديدة، ولكنها ليست بشديدة. فإن هذه الرغائب السطحية التي تجربها وتعيشها لا تقدر على إمتاعك كثيرا إذ أنها سطحيّة ولم تمتدّ بجذورها إلى أعماق قلبك.
يزعم البعض أن رغباتهم الرخيصة والسطحية أشدّ من غيرها في وجودهم وإن مخالفة هذه الرغائب عمل عسير جدا. بينما إن يبدأوا بجهاد هذه الرغائب، سوف يلتذون بهذا الجهاد شيئا فشيئا وسوف لا يعيرون قيمة لهذه الرغبات السيئة والسطحية. لقد خفي تحت محيط وجود الإنسان سلسلة جبال مرتفعة جدا ولكنها غير ظاهرة، فهناك محلّ استقرار رغباتك الثقيلة جدا ولا سبيل لكشفها إلا بالغوص والغور في أعماق هذا المحيط.
ما هو الطريق للوصول إلى الرغبات الأعمق؟ هل الطريق هو أن يعمد الإنسان إلى عشق الله في أول خطوة؟! كلا. الخطوة الأولى هي أن تذبح رغباتك السطحية. فحاول أحيانا أن لا تأكل الطعام المحبذ لك، بل كل خبزا مع لبن. فابدأ بمنازعة نفسك ومخالفتها في رغباتها السطحيّة. تمرّن على جهاد النفس حتى تموت سبعين مرة في اليوم من شدة الجهاد. ولا تنطق بكل ما رماه هواك إلى لسانك، فكف عن الكلام بكثير مما يحلو لك التحدّث به، حتى إن كان ظاهر الكلام جيدا أو كان بصيغة نصح الآخرين أو إرشادهم، إذ أحيانا نلبّي شهوتنا في الكلام عبر ما يسمى بالكلام اللطيف والنصائح النافعة.
يتبع إن شاء الله...