إن الدين برنامج للتضحية بالنفس والنفيس
يروي الإمام الصادق(ع): «أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ (ص) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُكَ أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (ص) أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ أَبَاك. فَقَبَضَ الرَّجُلُ يَدَهُ فَانْصَرَفَ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُ عَلَى أَنْ أُبَايِعَكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ أَبَاكَ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّا وَ اللَّهِ لَا نَأْمُرُكُمْ بِقَتْلِ آبَائِكُمْ وَ لَكِنْ الْآنَ عَلِمْتُ مِنْكَ حَقِيقَةَ الْإِيمَان...»[المحاسن/ج1/ص248]. ذات مرة قرأت هذه الرواية في إحدى المحاضرات، فأوشك أحد الشخصيات أن يصدر حكم إعدامي بسبب قراءتها، إذ كان يرى أن هذه الرواية تنفّر الناس من الدين. ولعله كان يتصوّر أنّ باقي محاضراتي جيّدة وإنما كانت هذه الرواية فلتة في محاضراتي، فلو كان يعرف أن كل محاضراتي من هذا القبيل، لما تعلّل في إصدار حكم الإعدام [قالها ممازحا]، لأنني عمّمت هذه الرواية على كل الناس، وأقول إن كل من أراد أن يسلك هذا الدرب لابدّ أن يتحمل العناء والكبد والشدائد والمحن. طبعا بعد ذلك أقول: فإن فررت من هذا الطريق خوفا من شدائده ومحنه، سوف تلاقي أمرّ من ذلك في الطرق الأخرى. هذا هو أسلوبنا في المحاضرات، إذ أردنا أن نكون صادقين مع الناس، وقد تعلمنا هذا الأسلوب من أمير المؤمنين(ع) حيث كان صادقا مع ابنه.
لماذا أراد النبي(ص) أن يبايع الرجل على أن يقتل أباه مع أنه لن يأمره به أبدا؟! لأنّ الدين هو برنامج للتضحية بالنفس والنفيس. فإن التضحية بالنفس، ليست فضيلة إلى جانب باقي الفضائل، بل هي المحور والمخ. نحن إن شاء الله سوف نتطرق في الجلسات القادمة إلى نطاق أهواء النفس وأنواع تجلياتها بإذنه وحوله وقوته.
الدين برنامج لمخالفة الأهواء والدنيا أيضا مبرمجة على أساس مخالفة الأهواء
إن نقطة انطلاقك هي أن تعرف السبب الذي خلقت من أجله. فقد خلقت للعناء والمحن وتحمل الأذى والألم. فالبهائم لا تتألم وكذلك الملائكة لا تتألم، أما أنت فقد حظيت برغائب متضاربة وهذا ما شرحناه في الليالي السابقة وقلنا إنك مجبور على ترك بعض الرغائب من أجل بعض أخر.
ثم يأتي الدين ويقول لك أن دع رغباتك واسع لنيل رغباتك الخفيّة والعميقة. ولا شك في أن هذا العبور صعب، إذن الدين صعب. لقد قال أمير المؤمنين(ع): «وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي كُرْهٍ وَ مَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي شَهْوَة»[نهج البلاغة/ خ176]. فهل قد أرحتُ بالك أم لا؟ هذه معلومة لابد أن نجعلها نصب أعيننا وهي أن الدين برنامج لمخالفة الأهواء.
طبعا لا يخلو الدين من لذائذ وليست مرارته بقدر مرارة كلامي، ولكن الكلام المعسول الذي يصوّر أجواء درب الحق كلها أجواء جمال وراحة واستقرار وأزهار وبلابل وعصافير فهذا كلام فارغ لا صحّة له. بل ليس الدين برنامجا لمخالفة الأهواء فحسب، بل باعتبار أن أنسانيتك مرهونة بمخالفة الأهواء، فقد انطوت الدنيا أيضا على هذا البرنامج. فهي تفرض عليك المعاناة ومخالفة الأهواء بأشكال ثابتة ومتغيرة.
من أشكالها الثابتة هو الشيخوخة. ومن أشكالها الثابتة الأخرى هو فقد الحبيب، كما قال أمير المؤمنين(ع): «الْهِجْرَانُ عُقُوبَةُ الْعِشْق»[بحار الأنوار/ ج75/ ص11]. لا أدري هل أقول هذه الحقائق بصراحة، أو أراعي مشاعركم وقلوبكم، ولكنها حقائق نعيشها في حياتنا الدنيوية، فلابد أن نطلع عليها، بل لابدّ أن ننطلق منها في حركتنا الدينية. وهي أن كل ما تعشقه في هذه الدنيا، فلابد لك من مفارقته يوما، وإن الله يفرق بينك وبين أحبائك في هذه الدنيا.
كان لي صديق قبل سنين، ثم انقطعت عنه ولم أعرف أخباره. بعد فترة قال لي أحد الإخوة: «هل سمعت أن فلان قد توفيت زوجته؟» فسألته هل كان يعشقها كثيرا؟ قال: من أين عرفت ذلك؟ قلت: إن هذا العشق هو أحد أسباب الفقد والفراق في هذه الدنيا؛ إذ «الْهِجْرَانُ عُقُوبَةُ الْعِشْق»، هذه هي إحدى مرارات الحياة الدنيا وهي سنّة من سنن الله. فإذا أردت أن تكون حياتك الزوجية في غاية العشق والغرام، فقل من الذي تريد أن يموت أسرع؛ زوجتك أم أنت؟! لعلك تقول: شيخنا كلامك مرّ جدا. أقول: أخي كلامي جادّ ومستوحى من قواعد هذه الدنيا، فلا تخدعك أكاذيب الأفلام. بل هذا هو الواقع. طبعا لا أريد أن أقول أنه قانون شامل، لا استثناء له، ولكنه يمثل إحدى القواعد التي لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار في معرفة هذه الدنيا.
أعرف أسرة، كان أهلها حساسين جدا في اختيار الزوج لبنتهم، إذ كانوا يريدون نسيبا بمستوى تدينهم وبمستوى مكنتهم الاقتصادية العالية، وبمستوى إناقتهم العالية، وأن يكون جميلا بمستوى جمالهم، وأن يكون مثقفا جدا يليق بثقافتهم العالية، وأن يكون ألفا وباء وجيما ودالا وكذا وكذا. ولهذا كانوا يرفضون الخطّابة واحدا بعد الآخر. بعد فترة، قالوا: الحمد لله، لقد جاءنا خطيب ينسجم معنا في كل شيء؛ في إناقته، في غناه وثروته، في جماله، في تدينه وبكلمة واحدة «كامل مواصفات». يشهد الله أني خفت عليهم. وسرعان ما أنجبوا طفلا وإذا به كان مشلولا.
هذا هو واقع حياتنا جميعا. ولا يمكن أن يكون هذا الكلام كذبا، بل هو عين الواقع. طبعا هناك نماذج واضحة جدّا من هذه الابتلاءات فنستشهد بها في أبحاثنا، وإلا فالكل محكومون بهذه السنن. وإذا تمعّن الإنسان الفطن في حياته يستطيع أن يكشف هذه القواعد.
يتبع إن شاء الله...