ومن العجب : قول بعضهم لما أغضبه الحجاج : أنه ( صلى الله عليه وآله ) أعلمها فنسيت ، واعترضها الشك بعد علمها فطلبت ، وهذا مخالف للعادات ، لأنه لم يجر العادة بنسيان ما هذا سبيله ، لأنه قال لها : " لا ميراث لك مني ، وإنا معاشر الأنبياء لا نورث ، وما تركناه صدقة " ، كان الحكم في ذلك معلقا بها ، فكيف يصح في العادات أن تنسى شيئا يخصها فرض العلم به ، ويصدق حاجتها إليه حتى يذهب عنها علمه ، وتبرز للحاجة ، ويقال لها : إن أباك قال : إنه لا يورث ، ولا تذكر مع وصيته إن كان وصاها حتى تحاجهم بقول الله تعالى : ( وورث سليمان داود ) ( 1 ) ، وقوله تعالى حكاية عن زكريا : ( يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ) ( 2 ) ، ولا تزال باكية شاكية إلى أن قبضت ، وأوصت أن لا يصلي ظالمها وأصحابه عليها ، ولا يعرفوا قبرها ؟ ! ومن العجب : أن يعترض اللبس على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حتى يحضر فيشهد لها مما ليس لها ، مع قول النبي : " أنا مدينة العلم وعلي بابها " ( 3 ) ! ومن العجب : اعترافهم بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : " إن الله يغضب لغضب فاطمة ، ويرضى لرضاها " ( 4 ) ، وقال : " فاطمة بضعة مني يؤلمني ما يؤلمها " ( 5 ) ، ‹ صفحة 135 › وقال : " من آذى فاطمة فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله " ( 1 ) ، ثم إنهم يعلمون ويتفقون أن أبا بكر أغضبها وآلمها وآذاها ، فلا يقولون : هو هذا إنه ظلمها ، ويدعون أنها طلبت باطلا ، فكيف يصح هذا ؟ ومتى يتخلص أبو بكر من أن يكون ظالما وقد أغضب من يغضب لغضبه الله ، وآلم هو بضعة لرسول الله ، ويتألم لألمها ، وآذى من في أذيته أذية الله ورسوله ، وقد قال الله تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ) ( 2 ) ، وهل هذا إلا مباهتة في تصويب الظالم ، وتهور في ارتكاب المظالم ! ومن العجب : قول بعضهم أيضا : إن أبا بكر كان يعلم صدق الطاهرة فاطمة عليها صلوات الله فيما طلبته من نحلته من أبيها ، لكنه لم يكن يرى أن يحكم بعلمه ، فاحتاج في إمضاء الحكم لها إلى بينة تشهد بها . فإذا قيل لهم : فلم لم يورثها من أبيها ؟ قالوا : لأنه سمع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة " ( 3 ) . فإذا قيل لهم : فهذا خبر تفرد أبو بكر بروايته ، ولم يروه معه غيره ؟ قالوا : هو وإن كان كذلك فإنه السامع له من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولم يجز له مع سماعه منه وعلمه به أن يحكم بخلافه . فهم في النحلة يقولون : إنه لا يحكم بعلمه وله المطالبة بالبينة ، وفي الميراث يقولون : إنه يحكم بعلمه ويقضي بما انفرد بسماعه . ‹ صفحة 136 › والمستعان بالله على تلاعبهم بأحكام الملة ، وهو الحكم العدل بينهم وبين من عاند من أهله . ومن عجائب الأمور : تأتي فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تطلب فدكا ، وتظهر أنها تستحقها ، فيكذب قولها ، ولا تصدق في دعواها ، وترد خائبة إلى بيتها ، ثم تأتي عائشة بنت أبي بكر تطلب الحجرة التي أسكنها أباها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وتزعم أنها تستحقها ، فيصدق قولها ، وتقبل دعواها ، ولا تطالب ببينة عليها ، وتسلم هذه الحجرة إليها ، فتصرف فيها ، وتضرب عند رأس النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالمعاول حتى تدفن تيما وعديا فيها ، ثم تمنع الحسن ابن رسول الله بعد موته منها ، ومن أن يقربوا سريره إليها ، وتقول : لا تدخلوا بيتي من لا أحبه ( 1 ) ، وإنما أتوا به ليتبرك بوداع جده ، فصدته عنه ، فعلى أي وجه دفعت هذه الحجرة إليها ، وأمضى حكمها إن كان ذلك لأن النبي نحلها إياها فكيف لم تطالب بالبينة على صحة نحلتها كما طولبت بمثل ذلك فاطمة صلوات الله عليها ؟ وكيف صار قول عائشة بنت أبي بكر مصدقا ، وقول فاطمة ابنة رسول الله مكذبا مردودا ؟ وأي عذر لمن جعل عائشة أزكى من فاطمة صلى الله عليها وقد نزل القرآن بتزكية فاطمة في آية الطهارة وغيرها ، ونزل بذم عائشة وصاحبتها ، وشدة تظاهرهما على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأفصح بذمها ، وإن كانت الحجرة دفعت إليها ميراثا ، فكيف استحقت هذه الزوجة من ميراثه ولم تستحق ابنته منه حظا ولا نصيبا ؟ وكيف لم يقل هذا الحاكم لابنته عائشة نظير ما قال لبنت رسول الله : إن النبي لا يورث ، وما تركه صدقة ! على أن في الحكم لعائشة بالحجرة عجبا آخر وهو : أنها واحدة من تسع أزواج ‹ صفحة 137 › خلفهن النبي ، فلها تسع الثمن بلا خلاف ، ولو اعتبر مقدار ذلك من الحجرة مع ضيقها لم يكن بمقدار ما يدفن أباها ، وكان بحكم الميراث للحسن ( عليه السلام ) منها أضعاف بما ورثه من أمه فاطمة ومن أبيه أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) المنتقل إليه بحق الزوجية منها ! ثم إن العجب كله : من أن يمنع فاطمة جميع ما جعله الله لها من النحلة والميراث ونصيبها ونصيب أولادها من الأخماس التي خص الله تعالى بها أهل بيته ( عليهم السلام ) دون جميع الناس ، فإذا قيل للحاكم بهذه القضية : إنها وولدها يحتاجون إلى إنفاق ، جعل لهم في كل سنة بقدر قوتهم على تقدير الكفاف ، ثم برأيه يجري على عائشة وحفصة في كل سنة اثني عشر ألف درهم واصلة إليهما على الكمال ، ولا ينتطح في هذا الحكم عنزان !
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 134 ›
( 1 ) سورة النمل : 16 .
( 2 ) سورة مريم : 6 .
( 3 ) المستدرك على الصحيحين : 3 / 127 . تاريخ بغداد : 2 / 377 ، وج 4 / 348 ، وج 7 / 173 ، وج 11 / 48 و 204 . ترجمة الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من تاريخ دمشق : 2 / 464 - 480 ، ح 991 - 1007 . مجمع الزوائد : 9 / 114 . إتحاف السادة المتقين : 6 / 244 .
( 4 ) المعجم الكبير : 1 / 66 ، ح 182 . المستدرك على الصحيحين : 3 / 154 . ميزان الاعتدال : 2 / 492 ، ح 4560 . مجمع الزوائد : 9 / 203 . كنز العمال : 13 / 674 ، ح 37725 .
( 5 ) المستدرك على الصحيحين : 3 / 158 . السنن الكبرى : 10 / 201 - 202 . كنز العمال : 12 / 107 - 112 . إتحاف السادة المتقين : 6 / 244 .
‹ هامش ص 135 ›
( 1 ) علل الشرائع : 186 . المحتضر : 133 . بحار الأنوار : 43 / 80 و 204 .
( 2 ) سورة الأحزاب : 57 .
( 3 ) تقدمت تخريجاته في أول هذا الفصل .
‹ هامش ص 136 ›
( 1 ) إرشاد المفيد : 2 / 18 . الخرائج والجرائح : 1 / 242 ، ضمن ح 8 . بحار الأنوار : 44 / 154 و 157 .
‹ هامش ص 137 ›
( 1 ) تاريخ مدينة دمشق : 30 / 71 - 72 . الاحتجاج للطبرسي : 2 / 477 . أسد الغابة : 3 / 213 . الرياض النضرة : 3 / 196 . بحار الأنوار : 50 / 80 .
( 2 ) قال عمر : وددت أني شعرة في صدر أبي بكر . انظر : مناظرات في الإمامة : 182 ، نقلا عن الاحتجاج للطبرسي : 2 / 319 . وأخرجه أيضا في بحار الأنوار : 49 / 280 . وسيأتي الحديث ص 139 .
تم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
|