عرض مشاركة واحدة
قديم 10-10-2014, 10:20 PM   #3
الشيخ محمد العبدالله
خادم الحسين


الصورة الرمزية الشيخ محمد العبدالله
الشيخ محمد العبدالله غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1
 تاريخ التسجيل :  May 2010
 أخر زيارة : 04-27-2022 (11:22 AM)
 المشاركات : 2,305 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



حضور الله في القلب :
ولمزيد من التوضيح ، نقول : إن الإقدام على أي عمل يحتاج إلى حوافز ، ودواع ، فمثلاً : لو أن رجلين كانا يقتتلان ، فقد يمر من هناك شخص ، فيضحك ، ولا يهتم لما يجري ، لكن يمر شخص آخر ، فيبادر إلى حل الإشكال ، مع علمه بأنه قد يتعرض للضرب والأذى ، ولكنه لا يتراجع ، بل هو يواصل ذلك ، في استجابة عفوية منه لنداء ضميره ووجدانه . .
وكذلك الحال بالنسبة للتكاليف الشرعية الإلهية ، فإنك قد تجد لدى بعض الناس رغبة في مخالفتها ، لأنهم يسقطون أمام الدوافع الغريزية ، أو المصلحية ، أو العشائرية ، أو الفئوية ، أوغيرها . .
وذلك مثل التكليف بالصوم ، أو ببذل بعض الأموال ، فإن حب الراحة وحب المال قد يدعو بعض الناس إلى المخالفة وكالجهاد في سبيل الله ضد العشيرة ، أو ضد الأصدقاء والأحبة . . وما ذلك إلا لأن إيمانه بالله كان يقتصر على الاعتراف بوجوده ، من خلال الدليل الذي فرض عليه هذا الإيمان والاعتراف ، وقد تجده يستدل ويدافع ويثبت لك صحة ما يؤمن به ، ولكن هذا الإيمان لا يؤثر في ممارسته العملية ، ولا يخضع قلبه له ، ولا يحصنه من مخالفة أوامره تعالى . .
وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله : ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ... 9 .
وقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ ... 10 .
فلا فرق بين هذا الشخص في ذلك وبين من ينكر وجوده سبحانه من الناحية العملية ، فيحتاج لكي يلتزم بالأمر إلى روادع أخرى ـ كالتخويف من العقاب ، أو دوافع وحوافز من قبيل الترغيب بمصالح ، أو إثارة مشاعر عاطفية ، أو طرح شعارات وطنية ، أو إثارة عصبيات عنصرية ، أو عشائرية ، أو ما شابه . .
ولكن الأمر بالنسبة لإبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) لم يكن كذلك ، بل كان نفس حضور الله تعالى في قلبيهما هو الداعي لهما إلى ذلك . . ولم يكن ثمة أي إكراه ولا إجبار ، بل كان هناك سعي منهما إلى تحقيق رضا الله سبحانه ، ولو لمجرد إدراكهما لذلك عن طريق منام يحكي لهما ما يحبه الله . . بل حتى لو لم يكن هناك أمر ولا زجر ، فإنهما سيريان نفسيهما أيضاً في موقع المطيع ، والملزم بتحقيق ذلك الأمر .
وذلك كله يعطينا : أنه لا بد في الطاعة الحقيقية من إدخال الله سبحانه إلى قلب الإنسان المؤمن ، وإلى وجدانه ليتفاعل مع فطرته ، ومع كل كيانه . .
فطبيعة قتل الإنسان لولده ـ وفقاً للمواصفات والحالات التي ذكرناها تدفع الإنسان إلى رفض هذا الأمر ومقاومته . . ولكن حضور الله سبحانه في قلب إبراهيم ( عليه السلام ) ، وهيمنته على كل ذرات وجوده قد قلب الصورة ، ليكون الله وحده هو المؤثر في كل حركاته وسكناته ، من دون انضمام أي داع آخر إليه . . وهذه هي عظمة إبراهيم ( عليه السلام ) حقاً . .
وتلك أيضاً هي عظمة إسماعيل ( عليه السلام ) الذي آثر الخيار الأصعب رغبة في الحصول على مقام القرب من الله ، رغم أن أباه قد جرد له القضية عن أي دافع ، حتى دافع الرغبة الشخصية ، فضلاً عن دافع الخوف والرهبة والمراقبة لمقام الألوهية ، فلم يتحدث له عن الله سبحانه ، بل لقد أبعد عن مخيلته حتى صورة الأمر والزجر ، الذي ربما يوجد درجة من الإحساس بالإلزام ، واكتفى بقوله : ﴿ ... إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ ... 8 فنسب الرؤية لنفسه ، فلم يقل أُرِيت في المنام . لكي لا يذكره بما يحرجه ، ولو في مستوى إرجاع الضمير ، الذي يكون لفظ الجلالة أحد محتملاته ، فضلاً عن أن يقول له : لقد أراني الله . . كل ذلك لكي لا يجد إسماعيل ( عليه السلام ) نفسه أمام أي إلزام يدعوه إلى الاستسلام ، مهما كان نوعه ، ومن أي جهة كان مصدره .
وهكذا يتضح أيضاً : أنه لم يكن دافع إسماعيل ( عليه السلام ) إلا قناعاته الفكرية ، ولم تكن هذه القناعات بحاجة إلى تعزيز موقعها بحوافز أخرى أبداً . .
﴿ ... سَتَجِدُنِي ... 8 :
واللافت للنظر هنا : أن إسماعيل ( عليه السلام ) لم يقل لأبيه : سأصبر ، بل قال له : ﴿ ... سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ 8 .
فاختار كلمة {تَجِدُنِي} لأنه لم يرد أن يقدم لأبيه وعداًً بالصبر ، لأن الوعد قد يوحي له بأن ما يعد به غير حاصل بالفعل . . وقد تمنع الموانع من حصوله في المستقبل . . أو قد يحصل البداء فيما يرتبط بالوفاء به ، لأكثر من سبب . بل أخبر أباه بأن الصبر داخل في كينونته ، وفي حقيقة وجوده ، وما عليه إلا أن يتلمسه وأن يثيره فيه وأن يستفيد منه ، فليس هو إذن من الأمور العارضة التي أثارها الانفعال أو أي عامل آخر . وسوف تزول بزوال ذلك العامل . .
وذلك من شأنه أن يسهم في تشجيع أبيه على الإقدام على هذا الأمر ، ويزيد من الترغيب به ، ويبعد شبح التردد فيه . .
﴿ ... إِن شَاء اللَّهُ ... 8 :
ثم زاد إسماعيل ( عليه السلام ) في التأكيد على هذا الجانب حين بالغ في طمأنة والده إلى أنه لا يعتمد في صبره هذا على جهده البشري . بل هو فعل إلهي ، ومرتبط بمشيئته تعالى . . فالله هو المتكفل إذن بهذا الصبر ، وباستمراريته وجدواه . وهذا من شأنه أن يوجد حوافز لدى أبيه تدعوه لاتخاذ قراره بالتنفيذ ، ويبادر إليه برضا وطمأنينة وسلام ، ولذلك قال له : ﴿ ... إِن شَاء اللَّهُ ... 8 .
وهكذا . . يتابع إسماعيل ( عليه السلام ) محاولته إقناع أبيه بالإقدام على هذا الأمر ، فيطمئنه إلى أن الله سبحانه سيكون معه ، حين يجعله صابراً على هذا الأمر ، وإذا كان الله هو الذي يمده بالصبر ، فليس على الوالد أن يتوقف كثيراً أمام حسابات حجم الآلام التي سوف يواجهها ولده . .
﴿ ... مِنَ الصَّابِرِينَ 8 :
وتأتي كلمة ﴿ ... مِنَ الصَّابِرِينَ 8 لتبين لنا كيف أن إسماعيل ( عليه السلام ) يزيد في تهوين الأمر على أبيه ، حين يلمح له إلى أن أمثال هذه الأعمال الشاقة قد تعرّض لها كثيرون ، وقد صبروا عليها . . فلم لا يكون إسماعيل ( عليه السلام ) واحداً من هؤلاء الصابرين . .
إذن ، فليس هذا الأمر فوق طاقة البشر ، ليخشى منه أبداً ، أو ليستعظمه ، ويستفظعه . .
وقد أظهر إسماعيل ( عليه السلام ) في كلامه هذا أنه لا يرى نفسه أهلاً لأن ينسب هذا الإنجاز لنفسه ، بل لعله لا يرى ذلك إنجازاً مميزاً يحق له أن يتباهى به ، كما نراه من الآخرين . بل هو تكليف من مالك الأمر والنهي ، لا بد له أن يطيعه ، وهو مبادرة إلى إنجاز ما يحبه الله سبحانه ، حتى لو لم تكن هناك صورة عينية لهذا الأمر ، وذلك كما لو كان هناك مانع يمنع من تسجيله وإنشائه ، وقد اطلعنا على إرادة المولى له ، ورغبته وترجيحه لإيجاده ولو عن طريق الرؤيا الصادقة ، وهي رؤيا الأنبياء . .
وعلى كل حال ، فإن على العبد أن يحقق مراد مولاه . . وذلك بمقتضى عبوديته ومملوكيته له . . وليس له أن يتعلل أو أن يترقب مكافأة منه . . ما دام أن كل شيء يعود إلى ذلك المولى ومصدره منه . . ولذلك لم ينسب إسماعيل ( عليه السلام ) إلى نفسه أية بطولة ، فلم يقل : ستجدني صابراً ، بل نسب صبره إلى الله سبحانه ، فقال : ﴿ ... إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ 8 فإن كان ثمة من صبر فهو من الله تعالى تبعاً لمشيئته سبحانه . .
كما أنه لم يقدم نفسه على أنه قد جاء بما لم يأت به غيره . . بل قدم نفسه على أنه واحد من كثيرين . . قد قاموا بمثل هذه الأمور العظيمة ، وصبروا عليها . .
واضح : أن هذا الوعي العظيم ، وهذه الروح الطاهرة الفانية في الله ، ستجعل أباه ( عليه السلام ) أعمق إدراكاً لمزايا ولده إسماعيل ( عليه السلام ) ، وستجعله أكثر تعلقاً به ، وسيزيد ذلك من صعوبة القيام بالأمر الذي هو بصدد الإقدام عليه . .
إنه إبراهيم :
وكل هاتيك المؤثرات لا بد أن تشد الإنسان إلى الوراء ، وتمنعه من تنفيذ المهمة ، لولا أن الذي يتصدى لهذا الأمر هو إبراهيم ( عليه السلام ) . . شيخ الأنبياء ، وأفضلهم ، وأكرمهم عند الله بعد نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) . . إنه إبراهيم ( عليه السلام ) الذي لم يكن ليستجيب لهيجان العاطفة ، وكوامن الحب والمشاعر ، ودواعي الإعجاب التي تزيد من صعوبة الأمر عليه ، والتي أججها إسماعيل ( عليه السلام ) وهو طفل صغير بموقفه الإيماني الرائع ، ويقينه الراسخ ، ودرجة وعيه وخلوصه . .
إنه إبراهيم ( عليه السلام ) الذي كان يرى الله ، والله فقط . . فما كان من هذا الأب الرحيم إلا أن باشر مهمته ، واندفع في الحدث إلى الذروة ، فجذب ولده ، وألقاه على الأرض ، وباشر تنفيذ الأمر الإلهي برضا وثبات . . ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ 11 وتجلى مقام إبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) في الإسلام والاستسلام لله سبحانه ، الذي خلده الله تعالى له مثلاً عملياً حياً لكل جيل ، وفي كل عصر ، يعلمهم أن القيادة ليست مجرد أوامر ونواهٍ ، تصدَّرُ للآخرين وليست مجرد شعارات وانتفاخات ، واستعراضات إعلامية ، من قبل من يستولي على مقاليد الأمور بالمال أو بالجاه أو بالقوة . .
بل القيادة والإمامة هي اختيار من الله لمن بلغ هذا المستوى من الرضا والتسليم والاستسلام لله سبحانه . ومن هو على أتم الاستعداد للتضحية بكل غال ونفيس ، حتى بالنفس والولد في طاعة الله سبحانه ، حتى لو كان الولد هو إسماعيل ( عليه السلام ) في ميزاته وفي خصائصه .
﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا ... 12 :
وهذا بالذات هو ما يفسر لنا سبب التفريع بالفاء في قوله تعالى : ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا ... 12 حيث إن هذا الامتحان الصعب هو الذي جسّد إسلامهما واستسلامهما على صفحة الواقع ، وأخرجه من مجرد القول والشعار ليكون هو الخلق ، وهو الممارسة وهو الموقف والسلوك . .


 

رد مع اقتباس