عرض مشاركة واحدة
قديم 10-10-2014, 10:19 PM   #2
الشيخ محمد العبدالله
خادم الحسين


الصورة الرمزية الشيخ محمد العبدالله
الشيخ محمد العبدالله غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1
 تاريخ التسجيل :  May 2010
 أخر زيارة : 04-27-2022 (11:22 AM)
 المشاركات : 2,305 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



التصعيد و رفع مستوى الابتلاء :
ومما يرفع من مستوى وقيمة ما فعله إبراهيم ( عليه السلام ) ، أن كل هذا الذي لم نستطع أن نصفه إلا بهذا المستوى الباهت والمحدود : قد أضيف إليه أن إبراهيم ( عليه السلام ) ، رغم ذلك كله ، لم يله عن مسؤوليته ودوره تجاه ولده الوحيد حتى في هذه اللحظات الحرجة ، حيث إنه قد بادر إلى رفع مستوى الابتلاء ، إلى أقصى درجاته ، فلم يندفع لتنفيذ الأمر على حين غفلة من إسماعيل ( عليه السلام ) . . بل هو قد أخبر ولده بالأمر ، وطلب منه أن يرى رأيه . . فإن ذلك يعني :
1ـ إنه ( عليه السلام ) لم يفرض قراره على ولده ، ولم يكرهه على القبول به . . بل هو لم يمارس أي نوع من أنواع الإيحاء ، ولو بإظهار الميل إلى هذا الخيار أو ذاك . .
2ـ إنه ( عليه السلام ) قد أراد بذلك أن ينيل ولده أجر الطاعة لله سبحانه في مثل هذا الأمر العظيم ، الذي يستهدف حياته بهذه الطريقة الغريبة والصعبة ، وهو صبي في مقتبل عمره ، ينفر نظراؤه من كل ما يعكر عليهم صفو الحياة ، أو يصدّهم عن اهتماماتهم الطفولية ، وعن ممارسة ما يبعث في نفوسهم المزيد من المرح والابتهاج .
نعم . . إن إبراهيم ( عليه السلام ) لا يسعى لتخفيف الآلام عن نفسه ، بل هو يسعى لاكتساب المزيد من ثواب الله سبحانه ، حين يعرّض نفسه للمزيد من الآلام في سبيل رضا الله سبحانه وتعالى . .
3ـ أن يجعل من هذا التكليف وسيلة لتنمية الملكات الإيمانية ، وإعطائها المزيد من القوة والعمق في داخل نفس إسماعيل ( عليه السلام ) .
4ـ ثم هو إعلان للبشرية جمعاء أن ذبح ولده لا يمثل عدواناً عليه ، وإنما هو طاعة لله ، يشتركان معاً فيها عن رضا وعن اختيار . .
5ـ وهو أيضاً بيان للأمثولة ، والقدوة ، والأسوة للناس . . بصورة عملية وفعلية ، وعدم الاكتفاء بإصدار الأوامر والنواهي ، على سبيل التنظير للآخرين . .
6ـ ثم إن ذلك يبين ويظهر دراية ، وعقل ، وسمو نظر ، وعلو مقام إسماعيل ( عليه السلام ) ، وحقيقة ملكاته ، التي أوصلته إلى هذا المدى البعيد من المعرفة بالله سبحانه ، ومن الرضا والانقياد والطاعة له سبحانه ، وهو لما يزل طفلاً ، قد بلغ السعي لتوه . . وهو يستقبل الحياة بكل عنفوانها ، وهي تبتسم له ، وتعرض نفسها عليه بكل مباهجها ، وإذ به يزهد بها ، ويعرض عنها ، لأنه إنما يريدها ويطلبها لله ، ولا يريدها لأنها تستحق أن تطلب وتراد . .
وذلك يجعلنا نفهم بعمق طهر إسماعيل ( عليه السلام ) وصفاء نفسه ، ومدى استعداده للتضحية في سبيل الله ، وصبره على أعظم البلاء في سبيل رضاه جل وعلا . .
﴿ ... يَا بُنَيَّ ... 8 :
وإذا أردنا أن نستنطق كلمات الآيات المباركة نفسها ، فإنها تقول : ﴿ ... قَالَ يَا بُنَيَّ ... 8 .
وهي كلمة تنضح بالعاطفة ، وتفيض بالحب والحنان ـ يا بني ـ هذه الكلمة الحنونة ، تفهم إسماعيل ( عليه السلام ) أن أباه حين يقدم على هذا الأمر العظيم ، فإن ذلك ليس لأنه كان غاضباً عليه ، أو منزعجاً منه إلى الحد الذي أخرجه عن حالة التوازن ، بل هو بكامل وعيه ، وتبصره ، وهو راضٍ كل الرضا عن ولده . . ومشفق وحدوب عليه .
وهذا أيضاً يطمئن إسماعيل إلى أنه يستطيع أن يختار ما يشاء ، من دون أي إكراه أو قهر ، ومن دون أن يشعر بأي حرج من ذلك الاختيار . وربما يكون شعوره بهذا الحنان من أبيه مشجعاً له على اختيار ما ينسجم مع عاطفة أبيه ، وحبه ورضاه . .
لإسماعيل ( عليه السلام ) الخيار :
ثم إنه حين قال له : ﴿ ... إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ ... 8 قد أعلمه أن الرؤيا مستمرة ، ولم تنته ، وأنه إنما رأى خصوص عملية الذبح ، وهي ترتسم على صفحة الوجود بصورة تدريجية ، وهذا يشير إلى أنه لم ير أن الذبح قد اكتمل وانتهى . .
نعم . . لقد أعلمه بذلك ثم قدم له فرصة لاختيار ما يروق له ، ولم يحرضه على أي من الأمرين ، بل هو قد يسّرهما معاً له . . وهوّنهما عليه ، بالحديث عن أن الأمر لا يعدو أن يكون رؤيا منام ، مما يفسح له المجال أمام اختيار الرفض ، إذا أراد اعتبار القضية مجرد رؤيا ، قد تكون بسبب حديث النفس بالأمر بالنهار ، فيراه في منامه ليلاً . . وذلك يفسح المجال أمامه لكي يحتمل أنها رؤياً غير ملزمة له . وكما أن إبراهيم ( عليه السلام ) لم يشعره بوجود إلزام في البين ، فلم يقل له : إني ملزم بقتلك ، ليجد إسماعيل ( عليه السلام ) نفسه محرجاً أمام والده . .
ومن جهة ثانية : إن تكليف الأب بأمر ليس بالضرورة أن يكون ملزماً للابن . . فكيف إذا كان مجرد رؤيا ومنام؟!
ومن جهة ثالثة : يلاحظ هنا : أنه ( عليه السلام ) لم يقل لإسماعيل ( عليه السلام ) : قد أراني الله في المنام ذلك . كما أنه لم يقل له : إن الله أمرني أن أذبحك ، بل قال له : أرى في المنام أني أذبحك ، فنسب الرؤيا إلى نفسه . وذلك كي لا يحرجه بأية إلماحة إلى وجود قرار إلهي بذلك . . بحيث يكون ذلك سبباً في ميله نحو الخيار الأصعب .
ومن جهة رابعة : فإنه قد صرح له بأنه غير ملزم بقبول أي من الخيارين حيث قال له : ﴿ ... فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ... 8 في إشارة واضحة أيضاً إلى ثقة إبراهيم ( عليه السلام ) بحسن اختيار ولده . وبصحته وصوابيته . . وذلك حين أعطاه القيمة والدور الحاسم .
وبعد ذلك كله . . فإن ذلك الاختيار التاريخي سوف يبين قيمة إسماعيل ( عليه السلام ) ، ويظهر حقيقة مزاياه . .
إسماعيل ( عليه السلام ) ، يلزم أباه بالإقدام :
وقد أفهم الأب ولده بأن الأمر ليس مفروضاً عليه . . ولكن الابن يصر ويدفع بالأمر إلى حد إلزام الأب بالإقدام على ذلك الأمر العظيم . فلم يقل إسماعيل ( عليه السلام ) لأبيه : هذه رؤيا . . ولا قال له : أنت حر في أن تفعل أو لا تفعل . . كما أنه لم يطلب منه أن يتريث في الأمر ، انتظاراً للبداء الإلهي مثلاً . .
بل هو قد طلب منه بصورة الحتم والجزم . . فقال : ﴿ ... افْعَلْ ... 8 .
ولكن ذلك لا يلغي احتمال أن يكون إسماعيل ( عليه السلام ) قد قال ذلك لا عن رغبة في حصول الفعل ، بل مجاراة لأبيه ، وحباً بإرضائه ، فأتْبَع ذلك بالإلماح إلى ضرورة ، وحتمية ، أن يفعل ، حين قال له : ﴿ ... مَا تُؤْمَرُ ... 8 ولم يقل له : افعل وفق ما رأيت في منامك . . ، فهو بقوله هذا قد قدم له المبرر بل قدم له الدليل والسبب الذي يحتم عليه الإقدام ، وهو وجود أمر إلزامي ، لا بد لإبراهيم ( عليه السلام ) من امتثاله ، فألغى بذلك أي احتمال في أن تكون رؤياه غير ملزمة له .
كما أنه لم يقل له : إفعل ما يطلب منك . إذ قد يتخيل أن الطلب قد يكون إلزامياً وقد لا يكون كذلك . .
كما أنه لم يقل له : إفعل ما يحبه الله تعالى ، لأن الحب أيضاً قد لا يصل إلى درجة الحتم والجزم .
إختيار إسماعيل ( عليه السلام ) شرط للإلزام :
والأمر المتوجه إلى إبراهيم ( عليه السلام ) بالذبح ، مشروط في بلوغه حد الإلزام بقبول واختيار وموافقة إسماعيل ( عليه السلام ) ، أما لو اختار أن يرفض ذلك ، فإن الأمر يسقط عن إبراهيم ( عليه السلام ) والشاهد على ذلك إرجاعه الأمر إلى إسماعيل ( عليه السلام ) في قوله : ﴿ ... فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ... 8 .
أما إسماعيل ( عليه السلام ) نفسه ، فإنه ليس ملزماً باختيار هذا الطرف أو ذاك . واختيار أي منهما لا ينقص من مقامه ، ولا يوجب له أي مشكلة . وإن كان يحرمه من مقامات أجل وأسمى . .
وعلى هذا الأساس وإذا كان تكليف إبراهيم ( عليه السلام ) متوقفاً على ما يختاره إسماعيل ( عليه السلام ) . . فلو أن إسماعيل ( عليه السلام ) أرجع الأمر إلى أبيه ، فقال له : إفعل ما بدا لك مثلاً . . فإن بإمكان إبراهيم ( عليه السلام ) أن يعتبر نفسه نائباً ووكيلاً عن ولده ، ويجد نفسه ملزماً باختيار ما يرى أنه من مصلحة إسماعيل ( عليه السلام ) وهو الحياة, فيختار ذلك له . . ويكون معذوراً في هذا الاختيار ، بل يكون ملزماً بهذا الاختيار دون سواه . . لأنه إنما يفعل ذلك من موقع النيابة التي تفرض مراعاة مصلحة المنوب عنه .
وفي جميع الأحوال فإن إسماعيل ( عليه السلام ) قد ألغى ذلك كله ، من خلال كلمة ﴿ ... فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ... 8 .
وقد أكد ذلك بالإشارة إلى أنه لا يقول له هذا عن ضيق بهذا الأمر ، ولا يجد فيه أية غضاضة ، ولا يلمح فيه أية قسوة ، بل هو ـ مع ذلك كله ـ يراه الأب الرحيم الرؤوف المحب ، الذي يتعامل معه من موقع الأبوة الحانية العطوفة ، فقال له :
أولاً : ﴿ ... يَا أَبَتِ ... 8 . وهي كلمة تنضح بالمحبة والولاء ، والانقياد ، والطاعة والرضا ، وبالثقة بأبوته الحكيمة والمدبرة ، والحانية ، التي تتحمل مسؤولياتها بكل أمانة والتزام . .
وهنا تكمن عظمة إسماعيل ( عليه السلام ) ، في اختياره الحكيم ، والذي لم تتدخل فيه أي من العوامل غير الإلهية . . مع أن الباب كان مفتوحاً أمامه على مصراعيه ، ليبعد هذا الأمر عن نفسه ، وإذا به يظهر الإصرار على أبيه بهذا المستوى . لا يختار إلا طريق ذات الشوكة ، لنفسه ولأبيه ، رغم أن رفض إسماعيل ( عليه السلام ) لو حصل لأسقط التكليف عن إبراهيم ( عليه السلام ) . .
وعلى كل حال ، فقد أكد إسماعيل ( عليه السلام ) هذا الإصرار ، وهو يهون هذا الأمر على أبيه ، لكي لا يجد كبير حرج في الإقدام عليه ، حين قال له : ﴿ ... سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ 8 .
ولا شك في أن موقف إسماعيل ( عليه السلام ) هذا سيزيد من تعلق والده به ، ومن صعوبة التخلي عنه ، فكيف إذا كان هذا الأمر ـ القتل ـ سيتم على يديه ، وبصورة مؤلمة لقلبه ، وهي القتل بطريقة الذبح ، التي هي ممارسة فعلية ، وعن التفات ، ومع رؤية بصرية لأمر هو بنفسه بالغ الصعوبة على النفس ، حتى في حق غير البشر ، فكيف إذا كان بحق الإنسان ، وبحق الولد ، وبحق إسماعيل ( عليه السلام ) بالذات ومع التفات إسماعيل ( عليه السلام ) ، ومع اختياره ورضاه؟!


 

رد مع اقتباس