فخرج منها خائفاً يترقب
ذكرت الأحاديث الشريفة أن جيش السفياني يسيطر على المدينة المنورة ، ويستبيحها ثلاثة أيام ، ويعتقل كل من تصل إليه يده من بني هاشم ويقتل العديد منهم ، بحثاً عن الإمام المهدي عليه السلام .
ففي مخطوطة ابن حماد ص88 : ( فيسير إلى المدينة فيضع السيف في قريش ، فيقتل منهم ومن الأنصار أربع ماية رجل ، ويبقر البطون ، ويقتل الولدان ، ويقتل أخوين من قريش ، رجل وأخته يقال لهما محمد وفاطمة ، ويصلبهما على باب المسجد في المدينة ) !
وفي نفس الصفحة عن أبي رومان قال : ( يبعث بجيش إلى المدينة فيأخذون من قدروا عليه من آل محمد ( ص ) ، ويقتل من بني هاشم رجال ونساء ، فعند ذلك يهرب المهدي والمبيض ( المنصور ) من المدينة إلى مكة فيبعث في طلبهما ، وقد لحقا بحرم الله وأمنه ) .
وفي مستدرك الحاكم : 4 / 442 ، أن أهل المدينة يخرجون منها بسبب بطش السفياني وأفاعيله !
وعن الإمام الباقر عليه السلام في حديث جابر بن يزيد الجعفي قال : ( ويبعث ( أي السفياني ) بعثاً إلى المدينة فيقتل بها رجلاً ، ويهرب المهدي والمنصور منها ، ويؤخذ آل محمد صلى الله عليه وآله صغيرهم وكبيرهم ، ولايترك منهم أحد إلا حبس . ويخرج الجيش في طلب الرجلين ) 34 .
وهذا الرجل الذي يقتله جيش السفياني غير الغلام الذي ورد أنه يقتل في المدينة ، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال : ( يا زرارة لابد من قتل غلام بالمدينة . قلت : جعلت فداك أليس يقتله جيش السفياني؟ قال : لا ، ولكن يقتله جيش بني فلان ، يخرج حتى يدخل المدينة فلا يدري الناس في أي شئ دخل ، فيأخذ الغلام فيقتله ، فإذا قتله بغياً وعدواناً وظلماً لم يمهلهم الله عز وجل ، فعند ذلك فتوقعوا الفرج ) 35 ، وتسمي بعض الروايات هذا الغلام النفس الزكية ، وهو غير النفس الزكية الذي يقتل في مكة قبيل ظهور المهدي عليه السلام .
ويظهر من هذه الأحاديث وغيرها أن سلطة الحجاز الضعيفة تنشط في تتبع الشيعة في الحجاز وفي المدينة خاصة ، وتقتل الغلام النفس الزكية ، إما لمجرد أن اسمه محمد بن الحسن ، الذي يصبح معروفاً عند الناس أنه اسم المهدي عليه السلاموإما لأنه يكون من الأبدال المتصلين بالمهدي عليه السلام .
ثم يدخل جيش السفياني فيتابع نفس السياسة ولكن بإرهاب وبطش أشد ، فيعتقل كل من يحتمل أن يكون له علاقة ببني هاشم ، ويقتل الرجل الذي اسمه محمد وأخته فاطمة ، لمجرد أن اسمه محمد واسم أبيه حسن أيضاً !
وفي هذه الظروف الملتهبة يخرج الإمام المهدي روحي فداه من المدينة خائفاً يترقب ، على سنة موسى عليه السلام كما تذكر الروايات ، يرافقه أحد أصحابه الذي تسميه الرواية المتقدمة المنصور ، وفي رواية أخرى المنتصر ، ولعل اسم المبيض الذي ورد في الرواية المتقدمة تصحيف المنتصر .
وذكرت رواية أخرى أنه يخرج من المدينة بتراث رسول الله صلى الله عليه وآله وفيه سيفه ، ودرعه ، ورايته ، وعمامته ، وبردته .
ولم أجد في مصادرنا الشيعية تحديداً لوقت خروجه عليه السلام من المدينة إلى مكة ، ولكن المنطقي أن يكون ذلك بعد النداء السماوي في رمضان أي في موسم الحج . وأذكر أني رأيت في رواية أن دخول جيش السفياني إلى المدينة يكون في شهر رمضان .
وفي رواية المفضل بن عمرو الطويلة عن الإمام الصادق عليه السلام قال : ( والله يا مفضل كأني أنظر إليه دخل مكة ، وعلى رأسه عمامة صفراء ، وفي رجليه نعل رسول الله صلى الله عليه وآله المخصوفة ، وفي يده هراوته ، يسوق بين يديه أعنزاً عجافاً حتى يصل بها نحو البيت . ليس ثَمَّ أحد يعرفه ) 36 .
ومع ضعف سند هذه الرواية ، إلا أن استنفار أجهزة الأعداء في البحث عنه عليه السلام ، وكونه في غيبة واختفاء يشبه الغيبة الصغرى واختفاءها ، يجعل هذه الرواية وأمثالها أمراً معقولاً .
ومن الطبيعي أن يكون موسم الحج في سنة الظهور حيوياً ساخناً !
فما تذكره الأحاديث الشريفة عن وضع الصراع العالمي ، وأوضاع البلاد الإسلامية ، وتوتر الوضع في الحجاز ، وإعلان حالة الطوارئ فيه بدخول جيش السفياني . . كلها تجعل موسم الحج على الحكام عبئاً مخيفاً ، فلا بد أنهم سيخفضون عدد الحجاج إلى أقل عدد ممكن ، ويحشدون في مكة والمدينة ، من القوات والأجهزة الأمنية ، كل ما يستطيعون !
ولكن ذلك لايمنع الشعوب الإسلامية أن تركز أنظارها على مكة المقدسة ، تنتظر ظهور المهدي عليه السلام منها ، فيتحمس مئات الألوف ، وربما الملايين من المسلمين لأن يحجوا في ذلك العام ، ويتمكن عدد كبير منهم أن يصل إلى مكة رغم العقبات التي تضعها أمامهم دولهم ودولة الحجاز .
وسيكون السؤال المحبب بين الحجاج : ماذا سمعت عن أمر المهدي؟ ولكنه يكون سؤالاً خطيراً أيضاً يطرحه الحجاج بينهم سراً ، ويتناقلون آخر الأخبار والشائعات حوله همساً ، وآخر إجراءات حكومة الحجاز وجيش السفياني !
إن الرواية التالية تصور حالة المسلمين في العالم ، وحالة الحجاج ، في انشغالهم بأمر المهدي عليه السلام وبحثهم عنه .
ففي مخطوطة ابن حماد/95 قال : ( حدثنا أبو عمر ، عن ابن أبي لهيعة ، عن عبد الوهاب بن حسين ، عن محمد بن ثابت ، عن أبيه ، عن الحارث بن عبدالله ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( إذا انقطعت التجارات والطرق وكثرت الفتن ، خرج سبعة رجال علماء من أفق شتى على غير ميعاد ، يبايع لكل رجل منهم ثلاثماية وبضعة عشر رجلاً ، حتى يجتمعوا بمكة ، فيلتقي السبعة فيقول بعضهم لبعض : ما جاء بكم ؟ فيقولون جئنا في طلب هذا الرجل ينبغي أن تهدأ على يديه هذه الفتن ، ويفتح الله له القسطنطينية ، قد عرفناه باسمه واسم أبيه وأمه وحليته ، فيتفق السبعة على ذلك فيطلبونه بمكة فيقولون له : أنت فلان بن فلان ؟ فيقول : لا ، بل أنا رجل من الأنصار ، حتى يفلت منهم ، فيصفونه لأهل الخبرة والمعرفة به ، فيقال هو صاحبكم الذي تطلبونه وقد لحق بالمدينة ، فيطلبونه بالمدينة ، فيخالفهم إلى مكة ، فيطلبونه بمكة فيصيبونه فيقولون : أنت فلان بن فلان ، وأمك فلانة بنت فلان ، وفيك آية كذا وكذا ، وقد أفلت منا مرة فمد يدك نبايعك . فيقول : لست بصاحبكم ، أنا فلان بن فلان الأنصاري ، مروا بنا أدلكم على صاحبكم ، فيفلت منهم فيطلبونه بالمدينة فيخالفهم إلى مكة فيصيبونه بمكة عن الركن فيقولون : إثمنا عليك ودماؤنا في عنقك إن لم تمد يدك نبايعك ، هذا عسكر السفياني قد توجه في طلبنا ، عليهم رجل من حرام ، فيجلس بين الركن والمقام ، فيمد يديه فيبايع له ، ويلقي الله في صدور الناس ، فيسير مع قوم أسد بالنهار رهبان بالليل ) .
وفي هذه الرواية نقاط ضعف في سندها ومتنها ، من ذلك قضية فتح القسطنطينية التي بقيت لقرون عقدة عسكرية وسياسية أمام المسلمين ، ومصدر تهديد لجزء من الدولة الإسلامية ، حتى فتحها السلطان محمد الفاتح قبل نحو 500 سنة . وقد روى المسلمون عن النبي صلى الله عليه وآله روايات تبشر بفتحها ، تحتاج إلى تحقيق في صحتها وسقمها .
وما يخص موضوعنا منها الروايات التي تذكر أن فتحها يكون على يد المهدي عليه السلام كما في هذه الرواية ، فيحتمل أن يكون ذكر فتحها على يد المهدي عليه السلام من إضافة بعض الرواة باعتبار أنه عليه السلام يحل مشكلات المسلمين الكبرى ، وقد كانت القسطنطينية من مشكلاتهم الكبرى .
كما يحتمل أن يكون المقصود بالقسطنطينية في أحاديث المهدي عليه السلام ، عاصمة الروم التي تكون في زمان ظهوره عليه السلام ، والمعبر عنها في بعض الروايات بالمدينة الرومية الكبيرة ، والتي ورد أنه عليه السلام وأصحابه يحاصرونها ويفتحونها بالتكبير .
ولكن ، مهما يكن أمر هذه الرواية وحتى لو كانت موضوعة ، فهي نص لمؤلف معروف كتبه قبل نحو ألف ومئتي سنة ، فوفاة ابن حماد سنة 227 ، وقد نقله عن تابعين قبله ، فهو يكشف على الأقل عن تصور رواته للحالة السياسية العامة في سنة ظهور المهدي عليه السلام ، وعن انتشار خبره عند المسلمين وتطلعهم إليه وبحثهم عنه .
على أن أكثر مضامينها وردت في روايات أخرى ، أو هي نتيجة منطقية لأحداث نصت عليها روايات أخرى .
ومجئ هؤلاء العلماء السبعة إلى مكة في تلك الظروف يدل على شدة تطلع المسلمين إلى ظهوره عليه السلام من مكة ، وتوافد ممثليهم إليها للبحث عنه ، وأخذ كل واحد منهم البيعة من ثلاث مئة وثلاثة عشر من المؤمنين بالمهدي عليه السلام في بلده ، المستعدين للتضحية معه . . يدل على الموجة الشعبية في المسلمين ، وحماسهم لأن يكونوا أنصاره وأصحابه الموعودين ، على عدة أهل بدر .
وأما ما تذكره الرواية من إفلات المهدي عليه السلام منهم مرة بعد أخرى ، فلا يخلو من ضعف ، ولعل أصله ما ورد في مصادر الشيعة والسنة من أنه عليه السلام يبايع وهو كاره ، حتى أن أحد كبار أصحاب الإمام الصادق عليه السلام كان في نفسه شئ من هذه البيعة على إكراه ، الواردة في حديث النبي وأهل بيته صلى الله عليه وآله حتى فسر له الإمام الصادق عليه السلام معنى الاكراه بأنه غير الإجبار ، فاطمأن .
هذا عما يتعلق بحال المسلمين وتطلعهم إلى المهدي عليه السلام .
أما عن مجريات عمله عليه السلام في مكة ومبايعة أصحابه له ، فتدل الروايات على أنها تكون بنحو آخر ، يختلف عما ورد في هذه الرواية .
|