ويستفاد من هذا الحديث بصيغه المختلفة عدة أمور :
الأول : أنه متواتر بمعناه إجمالاً ، بمعنى أنه روي عن صحابة متعددين بطرق متعددة بحيث يعلم أن هذا المضمون قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، وعمدة مضمونه : إخباره صلى الله عليه وآله بمظلومية أهل بيته عليهم السلام من بعده ، وأن إنصاف الأمة لهم يكون على يد قوم من المشرق يمهدون لدولة مهديهم عليهم السلام ، وأنه يظهر على أثر قيام دولة لهؤلاء القوم فيسلمونه رايتهم ويظهر الله به الإسلام على العالم ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً .
الثاني : أن المقصود بقوم من المشرق وأصحاب الرايات السود : الإيرانيون ، وهو أمر متسالم عليه عند جيل الصحابة الذين رووا الحديث الشريف وغيره فيهم ، وعند جيل التابعين الذين تلقوه منهم ، ومن بعدهم من المؤلفين عبر العصور ، بحيث تجده عندهم أمراً مفروغاً عنه ، ولم يذكر أحد منهم حتى بنحو الشذوذ أن المقصود بهؤلاء القوم وبهذه الرايات أهل تركيا الفعلية مثلاً ، أو أفغانستان ، أو الهند ، أو غيرها من البلاد . بل نص عدد من أئمة الحديث والمؤلفين على أنهم الإيرانيون . بل ورد اسم الخراسانيين في عدة صيغ أو فقرات رويت من الحديث ، كما سيأتي في حديث رايات خراسان .
الثالث : أن حركتهم تواجه عداء من العالم وحرباً ، وأنها تكون خروجاً على حاكمهم ثم قياماً قرب ظهور المهدي عليه السلام .
الرابع : أن نصرتهم فريضة على كل مسلم من الجيل الذي يعاصرهم ، مهما كانت ظروفه صعبة ، حتى لو أتاهم حبواً على الثلج .
الخامس : أن الحديث من أخبار المغيبات والمستقبل ، وإحدى معجزات النبي صلى الله عليه وآله الدالة على نبوته ، حيث تحقق ما أخبر به صلى الله عليه وآله من مظلومية أهل بيته عليهم السلام وتشريدهم في البلاد على مدى العصور ، حتى وصلوا الى أربع جهات العالم فلا نجد أسرة في العالم جرى عليهم من الإضطهاد والتشريد والتطريد مثل أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله من أبناء علي وفاطمة عليهم السلام .
هذا ، وقد تضمنت صيغة الحديث المتقدمة عن الإمام الباقر عليه السلام وصفاً دقيقاً لحركتهم ، والمرجح عندي أنه يتعلق بحديث النبي صلى الله عليه وآله المذكور . ( كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق ) يدل على أن هذا الحدث من وعد الله المقدر المحتوم ، وهو ما يعبر عنه النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بـ ( كأني بالشئ الفلاني أو الأمر الفلاني قد حدث ) فهو يدل على حتميته ووضوحه في أذهانهم ، ويقينهم به حتى كأنهم يرونه .
بل يدل على رؤيتهم له بالبصيرة التي خصهم الله بها ،المتناسبة مع مقام النبي صلى الله عليه وآله ومقام أهل بيته عليهم السلام .
كما يدل على أن حركة الإيرانيين هذه تكون عن طريق الثورة ، لأنه المفهوم من قوله ( قد خرجوا ) أي ثاروا .
( يطلبون الحق فلا يعطونه ، ثم يطلبونه فلا يعطونه . فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم ، فيعطون ما سألوا فلا يقبلون حتى يقوموا ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم ) .
وهذا التسلسل في حركتهم يعني أنهم ( يطلبون الحق ) من أعدائهم أي الدول الكبرى ، وهو أن لا يتدخلوا في شؤونهم ويتركوهم مستقلين عن دائرة نفوذهم فلا يعطونهم ذلك ، حتى يضطروهم إلى أن يضعوا سيوفهم على عواتقهم أي إلى الحرب فيحاربون وينتصرون ، فيعطيهم أعداؤهم ما سألوا أول الأمر فلا يقبلون ذلك ، لأنه يصير أمراً متأخراً بعد فوات الأوان وتغير الظروف .
( حتى يقوموا ) حيث تبدأ ثورتهم الجديدة المتصلة بظهور المهدي عليه السلام الى أن يظهر فيسلمونه الراية .
وقد ذكرت إحدى روايات الحديث أنهم يقاتلون بعد رفض مطالبهم الأولى ، وينتصرون فيها ، كالحديث المروي في البحار : 51 / 83 : ( فيسألون الحق فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون ، فيعطون ما سألوا فلا يقبلون . . الخ . ) .
وينبغي الإشارة الى أن تكرار قوله عليه السلام : ( يطلبون الحق فلا يعطونه ) يدل أن مطالبتهم به تكون على مرحلتين قبل الحرب وبعد الحرب ، وأن ثورتهم الشاملة ( حتى يقوموا ) تكون قرب ظهور المهدي عليه السلام .
وتعبيره عليه السلام عن بداية حركتهم بالخروج ، وعن حركتهم المتصلة بالظهور بقوله عليه السلام ( حتى يقوموا ) ، يدل على أن هذا القيام أعظم من خروجهم وثورتهم أول الأمر .
ويدل على أنه مرحلة نضج وتطور لهذه الثورة يصل فيها الإيرانيون إلى مرحلة النفير العام والقيام لله تعالى تمهيداً لظهور المهدي عليه السلام .
وقد يفهم من التعبير بـ ( حتى يقوموا ) وليس ( فيقوموا ) مثلاً أنه يوجد فاصل زمني بين إعطائهم مطالبهم وبين قيامهم الكبير ، أو على وجود مرحلة من التأمل والتردد عندهم ، بسبب وجود اتجاه في داخلهم يريد القبول بما كانوا يطالبون به فقط ، أو بسبب الظروف الخارجية التي تحيط بهم ، ولكن الاتجاه الآخر يغلب فيقومون من جديد قياماً شاملاً يتحقق فيه التمهيد للمهدي عليه السلام .
( قتلاهم شهداء ) هذه شهادة عظيمة من الإمام الباقر عليه السلام لمن يقتل في حركتهم سواء في خروجهم أو حروبهم أو قيامهم الكبير الأخير . .
وقد يقال إن شهادة الإمام الباقر عليه السلام بأن ( قتلاهم شهداء ) إنما تدل على صحة نية مقاتليهم و مظلوميتهم ، ولكنها لا تدل على صحة نية قادتهم وخطهم .
ولكن حتى لو سلمنا ذلك جدلاً ، وتجاوزنا قاعدة صحة عمل المسلم ونيته ، فإن مثل هذا التفسير لا يغير من الموقف شيئاً .
( أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر ) يخبر بذلك عن نفسه عليه السلام أنه لو أدرك حركتهم لحافظ على نفسه أن يقتل وإن كان قتلاهم شهداء ، لأجل أن يبقي نفسه إلى ظهور المهدي عليه السلام ونصرته . وفي ذلك دلالة على المقام العظيم للإمام المهدي عليه السلام ومن يكون معه ، بحيث يحرص على ذلك الإمام الباقر ، وهو تواضع عظيم أيضاً منه لولده المهدي الموعود عليهما السلام .
وفيه دلالة أيضاً على أن مدة حركة الإيرانيين إلى ظهور المهدي عليه السلام لا تزيد عن عمر انسان ، لأن ظاهر كلام الباقر عليه السلام أنه لو أدرك حركتهم لأبقى نفسه لنصرة المهدي عليه السلام بالأسباب الطبيعية ، وليس بالأسباب الإعجازية ، وهي دلالة مهمة على دخولنا في عصر الظهور واتصال حركتهم به ، وقربها منه .
ومن طريف ما سمعته من التعليق على حديث رايات المشرق وقوله صلى الله عليه وآله : ( فليأتهم ولو حبواً على الثلج ) أن أحد كبار علماء تونس وهو عالم جليل متقدم في السن لا نريد الإضرار به بذكر اسمه حفظه الله ، زار إيران في فصل الشتاء والثلج ، وبينما كان خارجاً من الفندق زلقت قدمه فوقع على الثلج . قال صاحبه : بادرت لأنهضه فقال لي : لا تفعل ، إصبر ، أريد أن أنهض أنا بنفسي ! ونهض على يديه ببطء ، حتى إذا استوى واقفاً قال : كنا عندما نقرأ هذا الحديث عن المهدي وأنصاره ونصل إلى قوله صلى الله عليه وآله : ( فليأتهم ولو حبواً على الثلج ) نتساءل : إن المهدي يخرج من الحجاز وأين الثلج في الحجاز أو الجزيرة حتى يأمرنا النبي صلى الله عليه وآله بهذا التعبير؟ والآن عرفت معنى قوله صلى الله عليه وآله فأردت ألمس الثلج وأنهض عنه بنفسي !
حديث رايات خراسان إلى القدس
رواه عدد من علماء السنة كالترمذي : 3 / 362 وأحمد في مسنده ، وابن كثير في نهايته ، والبيهقي في دلائله ، وغيرهم . وصححه ابن الصديق المغربي في رسالته في الرد على ابن خلدون . ونصه : ( تخرج من خراسان رايات سود فلا يردها شئ حتى تنصب بإيلياء ) .
وروت شبيهاً به مصادرنا كالملاحم والفتن لابن طاووس ص 43 و58 ويحتمل أن يكون جزء من الحديث المتقدم .
ومعناه واضح ، فهو يتحدث عن حركة عسكرية وجيش يزحف من إيران نحو القدس التي تسمى إيلياء وبيت إيل .
قال في مجمع البحرين : ( إيل بالكسر فالسكون ، اسم من أسمائه تعالى ، عبراني أو سرياني . وقولهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بمنزلة عبد الله وتيم الله ونحوهما . وإيل هو البيت المقدس . وقيل بيت الله لأن إيل بالعبرانية الله ) .
وقال صاحب شرح القاموس : ( إيلياء بالكسر ، يمد ويقصر ، ويشدد فيهما . اسم مدينة القدس ) .
وقد نص علماء الحديث على أن هذه الرايات الموعودة ليست رايات العباسيين . قال ابن كثير في النهاية تعليقاً على هذا الحديث : ( هذه الرايات ليست هي التي أقبل بها أبو مسلم فاستلب بها دولة بني أمية . بل رايات سود أخرى تأتي صحبة المهدي ) . ( فيض القدير : 1 / 466 ، ولم أجده في طبعة ابن كثير الفعلية ) .
بل وردت عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله تميز بين رايات العباسيين التي هدفها دمشق ، وبين رايات أصحاب المهدي عليه السلام التي هدفها القدس ، منها ما رواه ابن حماد في مخطوطته ص 84 و 85 وغيرها ، عن محمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله : تخرج من المشرق رايات سود لبني العباس فتمكث ما شاء الله ، ثم تخرج رايات سود صغار تقاتل رجلا من ولد أبي سفيان وأصحابه ، من قبل المشرق ، يؤدون الطاعة للمهدي ) .
وقد حاول بنو العباس استغلال أحاديث الرايات السود في ثورتهم على الأمويين ، وعملوا لإقناع الناس بأن حركتهم ودولتهم وراياتهم مبشر بها من النبي صلى الله عليه وآله وأن المهدي الموعود عليه السلام منهم ، وقد سمى المنصور ولده المهدي ، وأشهد القضاة والرواة على أن أوصاف المهدي الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله تنطبق عليه . . الخ . وللعباسيين قصص في ادعائهم المهدية واتخاذهم الرايات السود والثياب السود ، وهي مشهورة مدونة في كتب التاريخ .
وقد يكون ذلك نفعهم في أول الأمر ، ولكن سرعان ما كشف زيفه الأئمة من أهل البيت عليهم السلام والعلماء ورواة الحديث ، ثم كشف زيفه الواقع حيث لم يكن أحد منهم بصفات المهدي الموعود عليه السلام ، ولا تحقق على يده ما وعد به النبي صلى الله عليه وآله ، ولا ملأ أحد منهم حتى قصره عدلاً !
بل تذكر الروايات أن الخلفاء العباسيين المتأخرين قد اعترفوا بأن قضية ادعاء آبائهم للمهدية كانت من أصلها مجعولة ومكذوبة .
ويبدو أن ادعاء المهدية كان أشبه بالموجة في أواخر القرن الأول الهجري ، حيث رزح المسلمون تحت وطأة التسلط الأموي ، ولمسوا ظلامة أهل البيت عليهم السلام فانتشر بينهم تداول أحاديث النبي صلى الله عليه وآله عن ظلامة أهل بيته الطاهرين عليهم السلام والبشارة بمهديهم . فكان ذلك أرضية لادعاء المهدية لعديدين من بني هاشم ، وحتى من غيرهم أيضاً مثل موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي .
ويبدو أن عبد الله بن الحسن المثنى كان أبرع من ادعاها لولده محمد ، فقد خطط لذلك منذ طفولة ابنه فسماه محمداً لأن المهدي عليه السلام على اسم النبي صلى الله عليه وآله ، ثم رباه تربية خاصة ، وحجبه عن الناس وأشاع حوله الأساطير وأنه هو المهدي .
قال في مقاتل الطالبيين ص239 : ( لم يزل عبد الله بن الحسن منذ كان صبياً يتوارى ويراسل الناس بالدعوة إلى نفسه ويسمى بالمهدي ) !!
وقال في ص 244 : ( لهجت العوام بمحمد تسميه بالمهدي ) !
بل كان العباسيون أيضاً يروجون لهذا الإدعاء قبل أن ينقلبوا على حلفائهم الحسنيين! فقد روى المصدر في ص239 عن عمير بن الفضل الخثعمي قال : ( رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود وأبو جعفر ينتظره ، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد ، فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداً : من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه وسويت عليه ثيابه؟ قال : أو ما تعرفه؟! قلت : لا . قال : هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، مهدينا أهل البيت ) ! .
وأكثر الظن أن العباسيين تعلموا ادعاء المهدية من هؤلاء الحسنيين حلفائهم وشركائهم في الثورة على الأمويين . وليس هذا موضع التفصيل .
على أي حال ، لا شك عند أهل العلم بالحديث والإطلاع على التاريخ ، في أن الرايات السود الموعودة في هذا الحديث الشريف وغيره هي الرايات الممهدة للمهدي عليه السلام ، وهي غير رايات بني العباس حتى لو فرضنا صحة الروايات التي تخبر برايات بني العباس أيضاً ، لما عرفت من وجود أحاديث تميز بينهما ، ولشهادة الواقع وعدم انطباقها على مهدي العباسيين وغيرهم ، وقد أشرنا من أن هدف رايات العباسيين دمشق ، وهدف رايات أنصار المهدي عليه السلام القدس .
وبالرغم من اختصار هذا الحديث الشريف في الرايات السود ، إلا أن فيه بشارة بوصولها إلى هدفها مهما كانت العقبات التي تعترض طريقها إلى القدس .
أما زمن هذا الحدث فغير مذكور في هذه الرواية ، ولكن تذكر روايات أخرى أن قائد هذه الرايات يكون صالح بن شعيب الموعود ، كما في مخطوطة ابن حماد ص 84 عن محمد بن الحنفية قال : ( تخرج رايات سود لبني العباس ، ثم تخرج من خراسان أخرى قلانسهم سود وثيابهم بيض ، على مقدمتهم رجل يقال له صالح من تميم ، يهزمون أصحاب السفياني ، حتى ينزل ببيت المقدس فيوطئ للمهدي سلطانه ) .
ويبدو أن المقصود بها في هذه الرواية حملة الإمام المهدي عليه السلام لتحرير فلسطين والقدس ، ويحتمل أن تكون بدايتها قبل ظهوره عليه السلام
|