مواساة الحسين (عليه السلام) عمل مستحب:
الثالث: قامت الأدلة الشرعية على استحباب المواساة بين المؤمنين في المصائب والآلام وخاصة مواساة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) حيث ورد عنهم (شيعتنا منا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا) كما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) (إن الله أطلع إلى أرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أنفسهم وأموالهم فينا أولئك منا وإلينا) (38).
كما ورد عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا (إن ذلك - أي البكاء على الحسين - صلة منكم لنا وإحسان وإسعاد) (39) وصلة لرسول الله (40) وأداء لحقه وحقوق الأئمة، ففي الرواية أن الباكي قد أدى حقنا (41) وكذلك في البكاء نصرة للحسين وأسوة بالأنبياء والأئمة والملائكة، وفي هذا أيضا قال علماؤنا الأعاظم وعملوا به.
بل يظهر جملة من الأخبار أيضا أن الله عز وجل أحب مواساة الحسين (عليه السلام) في مصائبه، بل ساق سبحانه ركب أنبيائه وأوليائه إلى كربلاء ليواسوه في مصائبه ويذكروا ما دهاه من آلام وفجائع بالدماء والدموع قبل أن ينتهي إليها ركب الحسين بمئات الأعوام والسنين فأشرك الله سبحانه أنبياءه في أهوال هذه الأرض مع السبط الشهيد كما أشركهم معه في إسالة دمائهم على تربة كربلاء الزاكية حتى أولو العزم منهم (عليهم السلام)، ففي أخبار معتبرة: أن آدم (عليه السلام) لما وصل إلى كربلاء وبلغ مقتل الحسين عثر بصخرة فجرى الدم من قدمه ثم أوحى الله إليه: إن في هذه الأرض سيقتل ولدك الحسين فأدرت أن تشاركه في الألم والحزن ويراق دمك عليها كما يراق عليها دمه.
وإن سفينة نوح (عليه السلام) لما وصلت إلى كربلاء جاءها موج فاضطربت حتى كادت أن تغرق فنزل جبرائيل وقال: يا نوح أن هذه أرض يقتل فيها سبط نبي آخر الزمان وابن خير الأوصياء.
وان سليمان (عليه السلام) كان على بساط الريح يجوب الأفاق تجري به الريح رخاء حيث أصاب، إذ وصل إلى كربلاء فطافت به حول نفسه ثلاثا ولما عاتب سليمان الريح أجابت: بأن في هذا المكان يقتل سبط أحمد المختار.
وان إبراهيم (عليه السلام) كان يوما راكباً جواده ماراً بصحراء كربلاء إذ كبا فرسه وانقلب على الأرض فأصيب رأسه بصخرة وجرى منه الدم فبدأ إبراهيم (عليه السلام) بالاستغفار وقال يا إبراهيم لم يصدر منك ذنب ولكنه موضع يقتل فيه سبط محمد المصطفى ونجل علي المرتضى (عليه السلام) ظلما وجورا فأراد الله أن تواسيه ويراق دمك فيه.
وإن موسى بن عمران مر بصحراء كربلاء مع وصيه يوشع بن نون فلما دخلها انقطع شسع نعله وأدمت الأشواك قدمه فسأل الله عن سبب ذلك فأوحى الله إليه إن في هذه الأرض يراق دم عبدي الحسين فأردت أن يراق دمك فيها.
ولعل أصرح هذه الروايات دلالة ما رواه الصدوق في العلل وابن قولويه وفي الوسائل أيضا عن الإمام الصادق (عليه السلام):
(أن إسماعيل ابن حزقيل كان نبيا من أنبياء الله بعثه إلى قومه فسلخوا جلدة وجهه ورأسه فأتاه ملك يخبره: إن الله أمره بإطاعته فيما يريد فقال: لي أسوة بما يصنع بالحسين) (42).
وهناك روايات عديدة في هذا الشأن تركناها للاختصار، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب البحار للعلامة المجلسي الجزء (44) طبعة بيروت.
كما عقد المجلسي فصلا خاصا في الآيات المؤولة بشهادته (صلوات الله عليه) وأنه يطلب الله بثأره (في الجزء 44 ص: 217) واستعرض في ذلك آراء جملة من المفسرين وجملة الحديث كتفسير علي بن إبراهيم القمي والعياشي والصافي ونور الثقلين والخصائص الحسينية ونحوها.
ومن كل هذه الروايات المتقدمة نستخلص أمورا:
إن مصيبة الحسين (عليه السلام) لم تكن كباقي مصائب الأولين والآخرين بل كانت مصيبة فجع بها كل ما خلق الله مما يرى وما لا يرى وأصابت الناس والحيوانات والجمادات وبكته السماء والأرض وسرت المصيبة إلى الآخرة فبكى لها رضوان ومالك، ولطمت الحور العين، وبكى كل من يتقلب في الجنة والنار، وندب عليها الأنبياء والأوصياء قبل ميلاده، وأقيمت له المآتم يوم ولادته، كما في الأدلة المعتبرة، فلابد يقام لها مقياس آخر غير مقاييس بقية المصائب مهما عظمت وعظم من يصاب بها.
ومن هنا أحب الله سبحانه أن يشارك جميع أنبيائه الحسين ويواسونه في إراقة دمائهم على تربة كربلاء ولو كان عن غير قصد مع إن العديد من أنبيائه وأوليائه قتل على أيدي الكفر والإلحاد أيضا حتى إن يحيى ذبح وقطع رأسه، وإسماعيل سلخ جلدة وجهه ورأسه بالإضافة إلى أن أهل البيت (عليهم السلام) بما فيهم الرسول (صلى الله عليه وآله) تعرض لأشق الأحوال والآلام، حتى ورد عنهم (عليهم السلام) (ما منا إلا مسموم أو مقتول) (43) وورد عنه (صلى الله عليه وآله) (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) (44).
ومع كل هذا وذاك لا نجد مصيبة في هذا الوجود أفجعت الكون وأبكت أركانه و أبكت عين السماء والأرض كمصيبة المولى سيد الشهداء (عليه صلوات المصلين) مما يدل على أن الله سبحانه منح الحسين عناية خاصة ومقاما خاصا وأراد أن تكون مصيبته ممتازة على سائر المصائب والآلام.
أقول: إذا كان الأنبياء يواسون الحسين بدمائهم.. بل صبر إسماعيل على سلخ جلدة وجهه ورأسه أسوة بالحسين، مع أنه لم يقصد التأسي في بادئ الأمر بل سلخها قومه كرهاً ثم احتسبها تأسيا فقبلها منه الله سبحانه، فإن تطبير الشيعة من محبي الحسين وإسالة دمائهم بقصد التأسي بالحسين من أول الأمر ربما يكون من أنواع التأسي المحبوب المقبول بشكل أولى، بل إذا كان بكاء أحد على ميت مواساة لأهله وأداء لحقوقهم لأنه من مظاهر الحزن عليه، فإن الإدماء - الذي هو أظهر مصاديق الجزع المستحب على الحسين (عليه السلام) كما تقدم - أولى بأن يكون أسوة ومواساة ومشمولا بالحديث الذي رواه السيد ابن طاووس في كتابه (المقتل) عن الإمام السجاد (عليه السلام): (أيما مؤمن أذى مسه أذى فينا صرف الله عن وجهه الأذى يوم القيامة وأمنه من النار) (45).
إذن من مجموع الأخبار المتقدمة - وحدها - كفاية للدلالة على رجحان التطبير مواساة للحسين وأصحابه (عليهم الصلاة والسلام) بل مع لحاظ الفارق بين موقف الأنبياء وبين موقف سائر الخلق في إسالة الدم على الحسين (عليه السلام)، ربما يصبح رجحان التطبير من الأوليات، وذلك لأن الأنبياء واسوا الحسين (عليه السلام) بدمائهم قبل الواقعة ونحن نواسيه بعدها، بالإضافة إلى أن دماء الأنبياء أغلى وأهم عند الله من ساير الدماء، ومع ذلك تعد رخيصة في سبيل الحسين (عليه السلام)، فكيف بدمائنا إذن!!
مشاطرة الحسين في المصائب والآلام:
ومن هنا ورد في العديد من الأخبار أدلة على محبوبية مشاطرة الإمام الحسين في كافة مصائبه من الحزن والخوف والجوع والعطش وغيرها.
منها ما جاء في زيارة الناحية الواردة عن مولانا صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يخاطب جده المقتول المظلوم فيقول:
(السلام عليك فإني قصدت إليك ورجوت الفوز لديك السلام عليك سلام العارف بحرمتك المخلص في ولايتك المتقرب إلى الله بمحبتك البراء من أعدائك سلام من قلبه بمصابك مقروح ودمعه عند ذكرك مسفوح سلام المفجوع المحزون الواله المستكين سلام من لو كان معك في الطفوف لوقاك بنفسه حد السيوف وبذل حشاشته دونك للحتوف وجاهد بين يديك ونصرك على من بغى عليك ونصرك وفداك بروحه وجسده وماله وولده. وروحه لروحك فداء وأهله لأهلك وقاء، فلئن أخرتني الدهور وعاقني عن نصرك المقدور ولم أكن لمن حاربك محارباً ولمن نصب لك العداوة مناصباً فلأندبنك صباحا ومساء ولأبكين لك بدل الدموع دما حسرة عليك وتأسفا على ما دهاك وتلهفا حتى أموت بلوعة المصاب وغصة الاكتياب) (46).
والذي يتأمل في مضامين هذه الكلمات الشريفة علماً بأنها صدرت من إمام معصوم إلى إمام معصوم آخر، يجد في نفسه إن التطبير من أبسط ما يمكن أن يقدمه شيعي محب في سبيل إمامه مواسيا له في عزائه ومصابه. ونحن هنا نلفت نظر القارئ الشريف إلى عدة أمور ونترك جوابها إلى شروح الزيارات وكتب الكلام..
فما معنى أن يقول الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه):
إني قصدت إليك ورجوت الفوز لديك مع أنه إمام معصوم مثله؟
سلام العارف بحرمتك المخلص في ولايتك المتقرب إلى الله بمحبتك؟
سلام من قلبه بمصابك مقروح ودمعه عند ذكرك مسفوح سلام المفجوع المحزون الواله المستكين سلام من لو كان معك في الطفوف لوقاك بنفسه حد السيوف وبذل حشاشته دونك للحتوف وجاهد بين يديك ونصرك وفداك بروحه وجسده وماله وولده.. وروحه لروحك فداء...؟
ولأندبنك صباحا ومساء.. ولأبكين لك بدل الدموع دما... حتى أموت بلوعة المصاب وغصة الاكتياب؟
أليس كل ذلك مواساة من الإمام الحجة لجده المظلوم العطشان.
ولا أظن أحدا إذا تدبر وتبصر يشك في أن إدماء الرؤوس مواساة للمولى سيد الشهداء (عليه السلام) عمل غير جائز أو ليس بصحيح أو مستحب.
التطبير إحياء لأمرهم(عليهم السلام):
الرابع: ورد في بعض الروايات المعتبرة التأكيد على إحياء أمر أهل البيت وتذكره والتذكير به بل بعض الروايات تضمنت حث الشيعة وتحريكهم نحو هذا العمل، ففي البحار -كتاب العشرة - باب تزاور الأخوان (47).
ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) يخاطب خيثمة... ومن جملة ما يقول:
(..يا خيثمة أبلغ من ترى من موالينا السلام. وأوصيهم بتقوى الله العظيم.. وأن يتلاقوا في بيوتهم فإن لقيا بعضهم بعضا حياة لأمرنا رحم الله عبدا أحيا أمرنا..).
وفي قرب الإسناد الصفحة: (18) والبحار الحديث (18)..
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قائلا لفضيل: (تجلسون وتتحدثون؟ قال: نعم جعلت فداك قال: إن تلك المجالس أحبها فأحيوا أمرنا.. فرحم الله من أحيا أمرنا.. يا فضيل: من ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كان أكثر من زبد البحر).
وفي أمالي الطوسي الجزء الأول الصفحة: (59) عن العقرقوفي قال: سمعت أبا عبد الله يقول لأصحابه وأنا حاضر (اتقوا الله وكونوا أخوة بررة متحابين في الله متواصلين متراحمين تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا وأحيوا أمرنا).
وفي الخصال الجزء الأول الصفحة: (14) عن خيثمة قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): (تزاوروا في بيوتكم فإن ذلك حياة لأمرنا رحم الله عبدا أحيا أمرنا).
وفي بشارة المصطفى الصفحة: (133) عن معتب مولى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول لداود بن سرحان: (يا داود أبلغ موالي مني السلام وأني أقول: رحم الله عبدا اجتمع مع آخر فتذكر أمرنا فإن ثالثهما ملك يستغفر لهما وما اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر فإن في اجتماعكم ومذاكرتكم إحياء لأمرنا وخير الناس من بعدنا من ذاكر بأمرنا وعاد إلى ذكرنا). وغيرها عشرات الروايات التي جاءت في هذا المجال.
والظاهر أن هذه الروايات وأمثالها مطلقة تشتمل كل معاني الإحياء إذ هي تؤكد على ضرورة الإحياء وتدعو لمن قام به بالرحمة ولم تحدد بالخصوص الأساليب والسبل التي يتم بها الإحياء المندوب. ومن الواضح أن من مصاديق أحياء أمرهم (عليهم الصلاة والسلام) مجالس العلم والتفقه، ومنها الشعائر الحسينية ومنها التطبير، كما سنوضح في الاستدلال ولكن قبل ذلك هناك بعض النقاط لا بأس بالإشارة إليها.
الأولى: صحيح أن بعض الروايات قالت: (تزاوروا في بيوتكم) و (تجلسون وتحدثون) مما قد يفهم البعض منها أنها وردت في خصوص المجالس البيتية ونحو ذلك التي اعتاد عليها الشيعة منذ سالف الأزمان إلا أن الظاهر انه لا خصوصية للمجالس البيتية، وإنما الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) ذكروا ذلك من باب أجل المصاديق وأظهرها وقد ثبت في الأصول أن بيان المصداق لا يقيد الإطلاق كما لا يخصص العام، خاصة وأن الشيعة - عادة - كانوا في ظروف تقية لا تسمح لهم بإعلان ذلك في الأسواق والطرقات والمحافل العامة، فاضطراراً كانوا يعقدونها في البيوت والمحلات الخاصة حفاظا على أنفسهم وأعراضهم. وأنت إذا راجعت التأريخ وكتب الرجال تتلمس ذلك بوضوح.
|