5- ما جاء في حديث قدامة بن زائدة، عن أبيه قال: (قال علي ابن الحسين (عليهما السلام): بلغني يا زائدة أنّك تزور قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أحياناً؟ فقلت: إنّ ذلك لكما بلغك، فقال لي: فلماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمة من حقّنا؟ فقلت: والله ما أريد بذلك إلاّ الله ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه، فقال: والله إنّ ذلك لكذلك؟ فقلت: والله إنّ ذلك لكذلك، يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً. فقال: أبشر ثم أبشر ثم أبشر).
وقد مرّ عليك يا قارئي العزيز هذا الحديث الطويل بتمامه في الفصل الأول من هذا الكتاب الذي بين يديك نقلاً عن كامل الزيارات ب 88 من ص 273 إلى ص 278، فراجعه مرةً أخرى وأخرى تغتنم إن شاء الله تعالى.
6- (عن الأصمّ (35) قال: حدّثنا هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل، قال: أتاه رجل فقال له: يا ابن رسول الله هل يُزار والدك؟ قال: فقال نعم ويصلّى عنده، وقال: يصلى خلفه ولا يتقدّم عليه، قال: فما لمن أتاه؟ قال: الجنة إن كان يأتمّ به، قال: فما لمن تركه رغبةً عنه؟ قال: الحسرة يوم الحسرة، قال: فما لمن أقام عنده؟ قال: كلّ يوم بألف شهر، قال: فما للمنفق في خروجه إليه والمنفق عنده؟ قال: درهم بألف درهم، قال: فما لمن مات في سفره إليه؟ قال: تشيّعه الملائكة، وتأتيه بالحنوط والكسوة من الجنّة، وتصلّي عليه إذا كفّن وتكفّنه فوق أكفانه، وتفرش له الرّيحان تحته، وتدفع الأرض حتّى تصوّر من بين يديه مسيرة ثلاثة أميال، ومن خلفه مثل ذلك، وعند رأسه مثل ذلك، وعند رجليه مثل ذلك، ويفتح له باب من الجنّة إلى قبره، ويدخل عليه روحها وريحانها حتى تقوم الساعة، قلت: فما لمن صلّى عنده؟ قال من صلّى عنده ركعتين لم يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إيّاه، قلت: فما لمن اغتسل من ماء الفرات، ثمّ أتاه؟ قال: إذا اغتسل من ماء الفرات وهو يريده تساقطت عنه خطاياه كيوم ولدته أمه، قال: قلت: فما لمن يجهز إليه ولم يخرج لعلّةٍ تصيبه؟ قال: يعطيه الله بكلّ درهم أنفقه مثل أُحُد من الحسنات، ويخلف عليه أضعاف ما أنفقه، ويصرف عنه من البلاء مما قد نزل ليصيبه، ويدفع عنه، ويحفظ في ماله، قال: قلت: فما لمن قتل عنده، جار عليه سلطان فقتله؟ قال: أول قطرة من دمه يغفر له كلّ خطيئة، وتغسل طينته التي خلق منها الملائكة حتى تخلص كما خلصت الأنبياء المخلصين، ويذهب عنها ما كان خالطها من أجناس طين أهل الكفر، ويغسل قلبه ويشرح صدره ويملأ إيماناً فيلقى الله وهو مخلص من كلّ ما تخالطه الأبدان والقلوب، ويكتب له شفاعة في أهل بيته وألف من إخوانه، وتولّى الصلاة عليه الملائكة مع جبرائيل وملك الموت، ويؤتى بكفنه وحنوطه من الجنّة، ويوسّع قبره عليه ويوضع له مصابيح في قبره ويفتح له باب من الجنّة وتأتيه الملائكة بالطرف من الجنّة، ويرفع بعد ثمانية عشر يوماً إلى حظيرة القدس، فلا يزال فيها مع أولياء الله حتى تصيبه النفخة التي لا تبقي شيئاً. فإذا كانت النفخة الثانية وخرج من قبره كان أوّل من يصافح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين والأوصياء (عليهم السلام) ويبشّرونه ويقولون له: الزمنا، ويقيمونه على الحوض فيشرب منه ويسقي من أحبّ. قلت: فما لمن حبس في إتيانه؟ قال: له بكل يوم يحبس ويغتم فرحة إلى يوم القيامة، فإن ضرب بعد الحبس في إتيانه كان له بكلّ ضربةٍ حوراء وبكلّ وجع يدخل على بدنه ألف ألف حسنة ويمحى بها عنه ألف ألف سيّئة، ويرفع له بها ألف ألف درجة، ويكون من محدّثي رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يفرغ من الحساب، فيصافحه حملة العرش ويقال له: سل ما أحببت. ويؤتى ضاربه للحساب فلا يسأل عن شيء ولا يحتسب بشيء ويؤخذ بضبعيه حتى ينتهي به إلى ملك يحبوه ويتحفه بشربةٍ من الحميم، وشربةٍ من الغسلين، ويوضع على مقالٍ في النار فيقال له: ذق ما قدّمت يداك فيما أتيت إلى هذا الذي ضربته، وهو وفد الله ووفد رسوله ويؤتى بالمضروب إلى باب جهنّم فيقال له: انظر إلى ضاربك والى ما قد لقي فهل شفيت صدرك، وقد اقتصّ لك منه؟ فيقول: الحمد لله الذي انتصر لي ولولد رسوله منه).
وقد جاء هذا الحديث مروياً في:
1- كامل الزيارات ب 44 ح 2 ص 133 و ص 134.
2- بحار الأنوار ج 101 ص 79.
3- مستدرك الوسائل ج 2 ص 209 الطبعة الحجرية.
بيان:
بعد ذكر هذه الروايات والأحاديث التي لا يحتاج فهمها ومعرفة فحواها إلى جهدٍ جهيد، اُلخّص الكلام في النقاط التالية:
1- الروايات المتقدمة كلها منقولة من كتاب كامل الزيارات الذي يعتبر بين المحققين من العلماء والفقهاء والمحدّثين أنه من أوثق كتب الطائفة وأعلاها منزلة وأشدّها اعتباراً (36).
2- متون هذه الروايات تدلّ بوضوحٍ على:
أ- جواز بل استحباب إلحاق الضرر بالنفس لو استلزم ذلك في سبيل زيارة سيد الشهداء صلوات الله عليه.
ب - عظيم الثواب والأجر، وعظيم المنزلة والزلفى والقرب من الله سبحانه وتعالى بسبب ما يتحمّله الإنسان من أضرار تلحق به أو مخاطر عظيمة قد تودي بحياته في سبيل زيارة أبي عبد الله الحسين المظلوم صلوات الله وسلامه عليه) (37).
3- البعد الأهم في ملاك تشريع الزيارة الحسينية المقدّسة كما يبدو من كلمات المعصومين (عليهم السلام) هو بعد تربوي عقائدي: تربوي من حيث العبرة والأسوة الحسينية بكل كمالها وحقّها وهداها، وعقائدي من حيث تمتين وتشديد الرابطة الصحيحة بين الجماهير وقادتهم الربانيين وإذكاء شعلة الحق بإحياء القضية الحسينية، إضافةً لما يترتب على ذلك من عظيم الأجر والثواب، وتضاعف الحسنات، ومحو السيئات، وغفران الذنوب، وتوفيق الطاعة والعمل الصالح، ودفع البلاء في الدين والدنيا؛ لذا كان هذا الحثّ الأكيد من المعصومين (عليهم السلام) للتوجّه إلى زيارة سيد الشهداء صلوات الله عليه ولو استلزم ذلك قتل النفوس كما مرّ علينا في الأحاديث والروايات الشريفة التي ذكرت قبل قليل. فإذا جاز قتل النفس وتحمّل الأضرار والمخاطر الكبيرة في سبيل إحياء أمر الحسين (عليه السلام) بل يظهر الاستحباب بشكلٍ واضح من تلكم الروايات والأخبار. فما قيمة الضرر الهيّن على فرض وجوده في التطبير حزناً وجزعاً على سيد شباب أهل الجنّة صلوات الله وسلامه عليه إذاً؟! وما قيمة الاستهزاء والسخرية في مقابل ما يفعله الظالمون من تنكيل وتعذيب وتقتيل في سبيل إحياء أمر آل محمّد صلوات الله عليهم جميعاً؟! الجواب عندكم أيها المنصفون..
زبدة المخض:
من قصة يوسف (عليه السلام) القرآنية عرفنا جواز بل رجحان الإضرار بالنفس حتى درجة فقدان البصر شوقاً وحزناً على أولياء الله وما يجرى عليهم.
ومن خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) عرفنا جواز بل رجحان الموت أسفاً لأجل ما يجري من الأذيان والمحن على رعايا الدولة الإسلامية وان كانوا من أهل الذمة كما صار في واقعة غزو الأنبار من قبل أصحاب معاوية لعنة الله عليه وعليهم.
ومن أحاديث استحباب زيارة سيد الشهداء (عليه السلام) مع الخوف عرفنا جواز بل رجحان تحمل البلايا والمخاطر العظيمة حتى درجة القتل في سبيل ذلك.
فهل يبقى لذي قول مقال؟!
وهل بعد ذلك إلا القول بجواز بل رجحان واستحباب التطبير حزناً وجزعاً على أبي عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟!
وفي جوّ الإستدلال أيضاً:
شواهد ومؤيّدات
أ- من موارد الإدماء:
(عن مسلم الجصّاص قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا أجصصّ الأبواب وإذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة، فأقبلت على خادم كان معنا فقلت: مالي أرى الكوفة تضجّ؟ قال: الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد، فقلت: من هذا الخارجي؟ فقال: الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: فتركت الخادم حتّى خرج ولطمت وجهي حتّى خشيت على عيني أن تذهب، وغسّلت يدي من الجصّ وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلى الكناس. فبينما أنا واقف والناس يتوقّعون وصول السبايا والرؤوس إذ قد أقبلت نحو أربعين شُقّة تحمل على أربعين جملاً فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة (عليها السلام) وإذا بعليّ بن الحسين (عليهما السلام) على بعير بغير وطاء، دماً وأوداجه تشخب ، وهو مع ذلك يبكي ويقول:
يـــا أمــة السوء لا سقياً لربعكم يـــا أمّـــة لـــم تــــراع جدّنا فينا
لـــو أنّـــنا ورســــول الله يجمعنا يـــــوم القـــيامة ما كنتم تقولونا
بنـــي أمـية ما هذا الوقوف على تـــلك المــصائب لا تلبون داعينا
تصــــفّقون عـــلينا كفّــــكم فرحاً وأنتـــم في فجاج الأرض تسبونا
أليـــس جـــدّي رسول الله ويلكم أهدى البريّــة من سبل المضلّينا
يا وقعة الطـفّ قد أورثتني حزنا والله يهتك أســــتار المســـــيئينا
قال وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أمّ كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة إنّ الصدقة علينا حرام وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض، قال كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم. ثمّ إنّ أمّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم: صه يا أهل الكوفة تقتلنا رجالكم، وتبكينا نساؤكم؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء. فبينما هي تخاطبهنّ إذا بضجّة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (عليه السلام) وهو رأس زهريّ قمريّ أشبه الخلق برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولحيته كسواد السبج (38) قد انتصل منها الخضاب، ووجه دارة قمرٍ طالع والريح تلعب بها يميناً وشمالا فالتفت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدّم المحمل، حتّى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها وأومأت إليه بحرقة وجعلت تقول:
يــــا هــلالاً لمّـــا استتمّ كمالا غـــــاله خســــفه فأبدا غروبا
ما توهّمت يا شقــــيق فؤادي كان هذا مقدّراً مكتوبــا) (39)
وفي الزيارة المفجعة التي يقرأها زوّار العقيلة (عليها السلام) حين المثول بين يدي ضريحها المقدّس في مشهدها المبارك:
(السلام عليك يا من نطحت جبينها بمقدّم المحمل إذ رأت رأس سيد الشهداء، ويخرج الدم من تحت قناعها ومن محملها بحيث يرى من حولها الأعداء).
2- (عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال الرضا (عليه السلام): إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله حرمة في أمرنا. إنّ يوم الحسين أقرح (40) جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام.
ثمّ قال (عليه السلام): كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلى الله عليه) (41).
3- ومما جاء في زيارة الناحية المقدّسة، حيث يقول إمام زماننا (عليه السلام): (فلئن أخّرتني الدّهور، وعاقني عن نصرك المقدور، ولم أكن لمن حاربك محارباً، ولمن نصب لك العداوة مناصباً، فلأندبنّك صباحاً ومساء، ولأبكين لك بدل الدموع دماً، حسرةً عليك، وتأسّفاً على ما دهاك، وتلهّفاً حتّى أموت بلوعة المصاب، وغصّة الاكتئاب) (42).
4- وعن بحار الأنوار لشيخنا المجلسي (ره):
(إنّ آدم لمّا هبط إلى الأرض لم ير حوّا فصار يطوف الأرض في طلبها فمرّ بكربلا فاغتمّ وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الّذي قتل فيه الحسين، حتّى سال الدّم من رجله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي هل حدث منّي ذنب آخر فعاقبتني به؟ فإنّي طفت جميع الأرض، وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض. فأوحى الله إليه يا آدم ما حدث منك ذنب، ولكن يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلماً فسال دمك موافقة لدمه، فقال آدم: يا ربّ أيكون الحسين نبيّاً؟ قال: لا، ولكنه سبط النبيّ محمّد، فقال: ومن القاتل له؟ قال: قاتله يزيد لعين أهل السماوات والأرض. فقال آدم: فأيّ شيء أصنع يا جبرائيل؟ فقال: العنه يا آدم فلعنه أربع مرّات ومشى خطوات إلى جبل عرفات فوجد حوّا هناك) (43).
5- وعنه أيضاً:
(إنّ إبراهيم (عليه السلام) مرّ في أرض كربلا وهو راكب فرساً فعثرت به وسقط إبراهيم وشجّ رأسه وسال دمه، فأخذ في الاستغفار وقال: إلهي أيّ شيء حدث مني؟ فنزل إليه جبرائيل وقال: يا إبراهيم ما حدث منك ذنب، ولكن هنا يقتل سبط خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء، فسال دمك موافقة لدمه. قال: يا جبرائيل ومن يكون قاتله؟ قال: لعين أهل السماوات والأرضين، والقلم جرى على اللّوح بلعنه بغير إذن ربّه فأوحى الله تعالى إلى القلم إنّك استحققت الثناء بهذا اللّعن. فرفع إبراهيم (عليه السلام) يده ولعن يزيد لعناً كثيراً وأمّن فرسه بلسان فصيح فقال إبراهيم لفرسه:
أيّ شيء عرفت حتّى تؤمّن على دعائي؟ فقال: يا إبراهيم أنا أفتخر بركوبك عليّ فلما عثرت وسقطت عن ظهري عظمت خجلتي وكان سبب ذلك من يزيد لعنه الله تعالى) (44).
|