أدلة استحباب التطبير:
الأول: تحبيب الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) الجزع على الحسين (عليه السلام) فقد روى الشيخ في المصابيح مسندا عن أبي جعفر (عليه السلام) فيمن يزور الحسين عن بعد في يوم عاشوراء...
(وليقم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه) (27).
وقد جزع الإمام السجاد (عليه السلام) يوم الحادي عشر من المحرم كما في الزيارات من قوله (عليه السلام) لعمته العقلية (كيف لا أجزع ولا أهلع وقد أرى أبي وعمومتي وولد عمي صرعى لا يوارون) (28).
بل أن الإمام الصادق (عليه السلام) دعا بالرحمة لمن جزع على مصائب أهل البيت (عليهم السلام). ولم يكن الجزع محبوباً مرغوباً فيه في الشريعة السمحاء لما دعا الإمام (عليه السلام) للجازعين في رواية رواها المجلسي في مزار البحار باب (زيارة الحسين واجبة مفترضة) (29) عن ابن أبي عمير عن معاوية بن وهب قال:
دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو في مصلاه فجلست حتى قضى صلاته فسمعته وهو يناجي ربه ويقول: يا من خصنا بالكرامة ووعدنا بالشفاعة وحمّلنا الرسالة وجعلنا ورثة الأنبياء وختم بنا الأمم السالفة وخصنا بالوصية وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقى وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا اغفر لي ولإخواني وزوار قبر أبي الحسين بن علي (صلوات الله عليهما) الذين أنفقوا أموالهم واشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا...
اللهم ارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس وارحم تلك الخدود التي تقلبت على قبر أبي عبد الله (عليه السلام) وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا... الخ.
وقد مدح الإمام الصادق (عليه السلام) مسمع كردين بقوله:
(أما انك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا).
والرواية مفصلة رواها ابن قولوية في كامل الزيارات في الصفحة: (101)، أقول: ومعلوم أن الجزع في مقابل الصبر.. وليس التطبير وشج الرؤوس إلا من أهون معاني الجزع ومصاديقه.
ولعل من أجلى مصاديق الجزع على الحسين (عليه السلام) التي آلت إلى الموت والذي حظي بتقرير السجاد (عليه السلام) والعقيلة زينب (عليها السلام) هو موقف الرباب زوجة الحسين (عليه السلام).
فقد روى في الوافي عن الكافي (باب ما جاء في الحسين بن علي (عليهما السلام) الصفحة: 175) أنها بكت (رضوان الله عليها) على الحسين (عليه السلام) حتى جفت دموعها فأخبرتها بعض جواريها بأن السويق يسيل الدمعة فأمرت بذلك فصنع لها لاستدرار الدمع..
وواضح كم في البكاء حتى جفاف الدمع من الآلام والأوجاع.
وروي أنها ما استظلت من الشمس - حتى اقشعر جلدها وذاب لحمها وان الصديقة الصغرى (سلام الله عليها) كانت تسألها التحول من الشمس والجلوس مع النسوة في المأتم فكانت تأبى ذلك حتى لحقت بسيدها الحسين (عليه السلام).
وفي الكامل لابن الأثير الجزء الرابع (الصفحة 36):
(وبقيت بعده سنة لم يظلها سقف حتى بليت وماتت كمدا).
ومن كل هذا وذاك يعرف استحباب التطبير وإدماء الرؤوس والجبهات لأنها من معاني الجزع على شهيد كربلاء ومصاديقه.
التطبير نوع من الحجامة:
الثاني: وردت روايات عديدة في مصادرنا الروائية تؤكد على حجامة الرأس. وتجعلها من المستحبات الشرعية لما لها من الفوائد الصحية الجمة كوقاية من بعض الأمراض الخطرة أو كعلاج لبعضها الآخر، ننقل بعضها:
في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الحجامة في الرأس هي المغيثة تنفع من كل داء إلا السام، وشبر من الحاجبين إلى حيث بلغ إبهامه ثم قال هاهنا) (30).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الحجامة في الرأس شفاء من كل داء) (31).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الحجامة على الرأس على شبر من طرف الأنف وفتر من بين الحاجبين وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسميها بالمنقذة) (32).
وفي حديث آخر كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحتجم على الرأس ويسميه المغيثة أو المنقذة.
وعن زرارة قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليهم السلام) يقول: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحجامة في الرأس شفاء من كل داء إلا السام) (33).
وعن الصادق (عليه السلام): (الحجامة في الرأس شفاء من سبع من الجنون والجذام والبرص والنعاس ووجع الضرس وظلمة العين والصداع) (34).
ومن جملة هذه الروايات المتقدمة نستفيد أمورا:
الأول: إن فعل النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) للحجامة واحتجامه برأسه وحده كاف للدلالة على استحبابها كما ورد في الرواية انه (صلى الله عليه وآله) - بناء على أن أفعال الأنبياء لا تخرج عن الواجبات والمستحبات - كان يحتجم ويسميها المنقذة.
الثاني: كون الحجامة منقذة ومغيثة وشفاء من كل داء ونحو ذلك يؤكد استحباب فعلها حتى وان أصيب صاحبها ببعض الألم أو بعض الأضرار من قبيل الجروح وإسالة الدم ونحو ذلك، ولهذا أفتى جماعة من الفقهاء المتقدمين فضلا عن المتأخرين باستحباب حجامة الرأس (35).
منهم الشهيد الأول (قدس سره) في السرائر حيث قال: (يستحب الحجامة في الرأس فإن فيها شفاء من كل داء).
ومنهم العلامة المجلسي (قدس سره): حيث قال:
(فضل حجامة الرأس ومنافعها وردت في روايات الخاصة والعامة وقال بعض الأطباء الحجامة وسط الرأس نافعة جداً وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) فعلها).
ويفهم من كلام المجلسي (قدس سره) أيضا إن استحباب الحجامة في الرأس لا يقول به الشيعة فقط بل هناك روايات عند العامة أيضا تؤكد استحبابها.
الثالث: بعض الروايات المتقدمة عينت موقع حجامة الرأس منه وهي عادة في الربع الأول من قمة الرأس أي في مسافة فتر تقريبا ما بين رأس الأنف إلى نهاية ما يصل إليه الإبهام.. وواضح أن محل التطبير وضرب القامات والسيوف على الرأس يأتي في نفس هذا الموضع لمن أراد أن يعتني ويدقق في عمله..
وبهذا يمكن أن يكون التطبير نوعا من الحجامة فيكون مستحبا في نفسه لأن الحجامة مستحبة وان لم نقصد فيه أي عنوان آخر، وواضح أن استحباب التطبير يتأكد إذا أنضم إليه عنوان مستحب جديد وهو عنوان التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله) واتباع سنته في حجامة الرأس كما تقدمت الروايات في ذلك فإنه سوف ينطبق عليه عنوان الاقتداء والتأسي فضلا عن الاحتجام..
وقد ذكر الفقهاء انه إذا وجب شيء بالنص ثم انطبق عليه عنوان واجب آخر فإن هذا الوجوب يتأكد، فمثلا: لو نذر الإنسان إقامة الصلاة اليومية الواجبة، فإن وجوبها يتأكد بالنذر بمعنى تداخل الواجبين في وجوب واحد.
وهكذا إذا كان الشيء مستحبا في نفسه مثل الحجامة ثم انطبق عليه عنوان مستحب آخر وهو العمل بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والاقتداء به فإن الاستحباب يتأكد.
أقول: فكيف بشيعة علي والحسين سددهم الله تعالى إذا جمعوا في التطبير عناوين ثلاثة مستحبة وليس عنوانين وهي:
1- الحجامة.
2- التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله).
3- تعظيم الشعائر.
وقد قال الفقهاء إن تعظيم الشعائر وخاصة الشعائر الحسينية من المستحبات الشرعية (36) قال تعالى (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (37).
ومن مجموع هذه المستحبات الثلاثة يتأكد استحباب التطبير ويصبح كله مستحبا في مستحب، بل إذا قلنا بتداخل المستحبات فربما يتاخم الوجوب، ولعل من هنا أفتى جماعة من فقهاء السلف بوجوبه - أي التطبير - العيني كما سيأتي، وبعض الفقهاء المعاصرين بوجوبه الكفائي كما أخبرني بعض الثقاة أن بعض أعلام الأساتذة في الحوزة سأل في أحد المجالس عن رأيه في التطبير فأجاب أنه يرى أنه واجب عيني تخييري وستمر عليك بعض الإشارات إلى ذلك فانتظر.
مواساة الحسين (عليه السلام) عمل مستحب:
الثالث: قامت الأدلة الشرعية على استحباب المواساة بين المؤمنين في المصائب والآلام وخاصة مواساة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) حيث ورد عنهم (شيعتنا منا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا) كما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) (إن الله أطلع إلى أرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويبذلون أنفسهم وأموالهم فينا أولئك منا وإلينا) (38).
كما ورد عنهم (عليهم السلام) أنهم قالوا (إن ذلك - أي البكاء على الحسين - صلة منكم لنا وإحسان وإسعاد) (39) وصلة لرسول الله (40) وأداء لحقه وحقوق الأئمة، ففي الرواية أن الباكي قد أدى حقنا (41) وكذلك في البكاء نصرة للحسين وأسوة بالأنبياء والأئمة والملائكة، وفي هذا أيضا قال علماؤنا الأعاظم وعملوا به.
بل يظهر جملة من الأخبار أيضا أن الله عز وجل أحب مواساة الحسين (عليه السلام) في مصائبه، بل ساق سبحانه ركب أنبيائه وأوليائه إلى كربلاء ليواسوه في مصائبه ويذكروا ما دهاه من آلام وفجائع بالدماء والدموع قبل أن ينتهي إليها ركب الحسين بمئات الأعوام والسنين فأشرك الله سبحانه أنبياءه في أهوال هذه الأرض مع السبط الشهيد كما أشركهم معه في إسالة دمائهم على تربة كربلاء الزاكية حتى أولو العزم منهم (عليهم السلام)، ففي أخبار معتبرة: أن آدم (عليه السلام) لما وصل إلى كربلاء وبلغ مقتل الحسين عثر بصخرة فجرى الدم من قدمه ثم أوحى الله إليه: إن في هذه الأرض سيقتل ولدك الحسين فأدرت أن تشاركه في الألم والحزن ويراق دمك عليها كما يراق عليها دمه.
وإن سفينة نوح (عليه السلام) لما وصلت إلى كربلاء جاءها موج فاضطربت حتى كادت أن تغرق فنزل جبرائيل وقال: يا نوح أن هذه أرض يقتل فيها سبط نبي آخر الزمان وابن خير الأوصياء.
وان سليمان (عليه السلام) كان على بساط الريح يجوب الأفاق تجري به الريح رخاء حيث أصاب، إذ وصل إلى كربلاء فطافت به حول نفسه ثلاثا ولما عاتب سليمان الريح أجابت: بأن في هذا المكان يقتل سبط أحمد المختار.
وان إبراهيم (عليه السلام) كان يوما راكباً جواده ماراً بصحراء كربلاء إذ كبا فرسه وانقلب على الأرض فأصيب رأسه بصخرة وجرى منه الدم فبدأ إبراهيم (عليه السلام) بالاستغفار وقال يا إبراهيم لم يصدر منك ذنب ولكنه موضع يقتل فيه سبط محمد المصطفى ونجل علي المرتضى (عليه السلام) ظلما وجورا فأراد الله أن تواسيه ويراق دمك فيه.
وإن موسى بن عمران مر بصحراء كربلاء مع وصيه يوشع بن نون فلما دخلها انقطع شسع نعله وأدمت الأشواك قدمه فسأل الله عن سبب ذلك فأوحى الله إليه إن في هذه الأرض يراق دم عبدي الحسين فأردت أن يراق دمك فيها.
ولعل أصرح هذه الروايات دلالة ما رواه الصدوق في العلل وابن قولويه وفي الوسائل أيضا عن الإمام الصادق (عليه السلام):
(أن إسماعيل ابن حزقيل كان نبيا من أنبياء الله بعثه إلى قومه فسلخوا جلدة وجهه ورأسه فأتاه ملك يخبره: إن الله أمره بإطاعته فيما يريد فقال: لي أسوة بما يصنع بالحسين) (42).
وهناك روايات عديدة في هذا الشأن تركناها للاختصار، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب البحار للعلامة المجلسي الجزء (44) طبعة بيروت.
كما عقد المجلسي فصلا خاصا في الآيات المؤولة بشهادته (صلوات الله عليه) وأنه يطلب الله بثأره (في الجزء 44 ص: 217) واستعرض في ذلك آراء جملة من المفسرين وجملة الحديث كتفسير علي بن إبراهيم القمي والعياشي والصافي ونور الثقلين والخصائص الحسينية ونحوها.
ومن كل هذه الروايات المتقدمة نستخلص أمورا:
إن مصيبة الحسين (عليه السلام) لم تكن كباقي مصائب الأولين والآخرين بل كانت مصيبة فجع بها كل ما خلق الله مما يرى وما لا يرى وأصابت الناس والحيوانات والجمادات وبكته السماء والأرض وسرت المصيبة إلى الآخرة فبكى لها رضوان ومالك، ولطمت الحور العين، وبكى كل من يتقلب في الجنة والنار، وندب عليها الأنبياء والأوصياء قبل ميلاده، وأقيمت له المآتم يوم ولادته، كما في الأدلة المعتبرة، فلابد يقام لها مقياس آخر غير مقاييس بقية المصائب مهما عظمت وعظم من يصاب بها.
ومن هنا أحب الله سبحانه أن يشارك جميع أنبيائه الحسين ويواسونه في إراقة دمائهم على تربة كربلاء ولو كان عن غير قصد مع إن العديد من أنبيائه وأوليائه قتل على أيدي الكفر والإلحاد أيضا حتى إن يحيى ذبح وقطع رأسه، وإسماعيل سلخ جلدة وجهه ورأسه بالإضافة إلى أن أهل البيت (عليهم السلام) بما فيهم الرسول (صلى الله عليه وآله) تعرض لأشق الأحوال والآلام، حتى ورد عنهم (عليهم السلام) (ما منا إلا مسموم أو مقتول) (43) وورد عنه (صلى الله عليه وآله) (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) (44).
ومع كل هذا وذاك لا نجد مصيبة في هذا الوجود أفجعت الكون وأبكت أركانه و أبكت عين السماء والأرض كمصيبة المولى سيد الشهداء (عليه صلوات المصلين) مما يدل على أن الله سبحانه منح الحسين عناية خاصة ومقاما خاصا وأراد أن تكون مصيبته ممتازة على سائر المصائب والآلام.
أقول: إذا كان الأنبياء يواسون الحسين بدمائهم.. بل صبر إسماعيل على سلخ جلدة وجهه ورأسه أسوة بالحسين، مع أنه لم يقصد التأسي في بادئ الأمر بل سلخها قومه كرهاً ثم احتسبها تأسيا فقبلها منه الله سبحانه، فإن تطبير الشيعة من محبي الحسين وإسالة دمائهم بقصد التأسي بالحسين من أول الأمر ربما يكون من أنواع التأسي المحبوب المقبول بشكل أولى، بل إذا كان بكاء أحد على ميت مواساة لأهله وأداء لحقوقهم لأنه من مظاهر الحزن عليه، فإن الإدماء - الذي هو أظهر مصاديق الجزع المستحب على الحسين (عليه السلام) كما تقدم - أولى بأن يكون أسوة ومواساة ومشمولا بالحديث الذي رواه السيد ابن طاووس في كتابه (المقتل) عن الإمام السجاد (عليه السلام): (أيما مؤمن أذى مسه أذى فينا صرف الله عن وجهه الأذى يوم القيامة وأمنه من النار) (45).
إذن من مجموع الأخبار المتقدمة - وحدها - كفاية للدلالة على رجحان التطبير مواساة للحسين وأصحابه (عليهم الصلاة والسلام) بل مع لحاظ الفارق بين موقف الأنبياء وبين موقف سائر الخلق في إسالة الدم على الحسين (عليه السلام)، ربما يصبح رجحان التطبير من الأوليات، وذلك لأن الأنبياء واسوا الحسين (عليه السلام) بدمائهم قبل الواقعة ونحن نواسيه بعدها، بالإضافة إلى أن دماء الأنبياء أغلى وأهم عند الله من ساير الدماء، ومع ذلك تعد رخيصة في سبيل الحسين (عليه السلام)، فكيف بدمائنا إذن!!
|