جلاء المفاهيم
وبدأ الأئمة المعصومون من أهل البيت(ع) يعانون أشدَّ المشاقّ والعقبات في سبيل إنقاذ الإسلام من هذه التركة الثقيلة التي خلّفتها الأوضاع الشاذّة التي قدّمنا الإشارة إليها، فقد كانت مهمتهم هي المحافظة على نصاعة الإسلام وإشراقه وجلاء مفاهيمه مهما كلّفهم الأمر، وكانت الظروف تشتدُّ حيناً وتنفرج أحياناً، وكانت لحظات الانفراج، أو فتراته، هي المجال الوحيد لنشر توجيهاتهم، وبثّ تعاليمهم المقدّسة..
وجاء عصر الصادق(ع) في فترة انفراج واسعة نسبيّاً، بسبب الظرف الذي كان يشكِّل فترة انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين، وانشغال كلا الطرفين بشؤونه وملكه عن الإساءة للإمام أو منعه عن ممارسة نشاطه في الدعوة إلى الحقّ، وتعريف النّاس به..
وبدأ الإمام(ع) ثورته التثقيفيّة بين المسلمين بأساليب متعدّدة ـ كما مرّ في الأبحاث السابقة ـ تختلف حسب اختلاف عقليّة السائلين والمجادلين، فقد يكون الجواب إقناعيّاً حيناً وجدلياً بعض الأحيان.. وانتشرت أحاديثه انتشاراً هائلاً، وكثُر الرواة لها في جميع الطبقات من شيعته وغيرهم، لا سيما وقد أصبح الحديث والرواية علماً مستقلاً بذاته في ذلك الوقت، وقد أفرد الحافظ أبو العباس أحمد بن عقدة الكوفي الزيدي كتاباً فيمن روى عنه جمع فيه أربعة آلاف رجل(27)، وذكر مصنّفاتهم ولم يذكر جميع مَنْ روى عنه، ويقول الحسن بن علي الوشاء في ما رُويَ عنه: "أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد"(28).
وأعطت هذه الثورة ثمارها، فقد بدأت المفاهيم الإسلامية تأخذ طريقها إلى الوضوح بسبب ما أُثير حولها من جدل وسؤال، وبدأت الحركة العلميّة تزدهر وتنمو، وبدأ الجمود الذي سيطر على أذهان المسلمين وتفكيرهم يتلاشى تدريجيّاً.. كلُّ ذلك بفضل الحركة التي أثارها الإمام الصادق(ع) في مجتمعه في تلك الفترة الانتقالية في شتّى الجوانب والقضايا في إطار إسلاميّ رائع.
|