![]() |
خطبة لعلي ع حول الفتن
[ خطبة واضاءة ] مطارحات في الفكر والعقيدة - مركز الرسالة - ص 9 - 15 خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام حول بدء وقوع الفتن : قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام : ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان : اتباع الهوى ، وطول الأمل . أما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة . ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة ، وأن الآخرة قد ترحلت مقبلة ، ولكل واحدة بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وأن غدا حساب ولا عمل . وإنما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع ، وأحكام تبتدع يخالف فيها حكمالله ، يتولى فيها رجال رجالا . ألا إن الحق لو خلص لم يكن اختلاف ، ولوأن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث ، فيمزجان فيجللان معا ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ،ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى . . . . " أشهر مصادر الخطبة : هذه الخطبة من مشهورات خطب أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام ،‹ صفحة 10 ›وهي طويلة ، \ اكتفينا بإيراد بعضها لموضع حاجة البحث ، وقد أو ردهاالعامة والشيعة ، وممن أخرجها - كلا أو بعضا - عن الإمام علي عليه السلام : 1 - أحمد بن محمد بن خالد البرقي ( ت 274 وقيل : 280 ه ) ( 1 ) . 2 - الكاتب العباسي ابن واضح اليعقوبي ( ت 284 ه ) ( 2 ) . 3 - ثقة الإسلام ، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني ( ت 329 ه ) فيأصول الكافي وروضته ( 3 ) ، وقد نقلناها عن الكليني بصفته أوثق الناس في الحديث وأثبتهم عند الشيعة الإمامية ( 4 ) ، وبصفته الأخرى مجددا على رأس المائة الثالثة من الهجرة بشهادة علماء العامة ، فقد ذكره المبارك محمد بن الأثير من مجددي المائة الثالثة ( 5 ) ، وأطراه آخرون ( 6 ) .‹ صفحة 11 › 4 - أبو حيان التوحيدي ( ت 400 ه ) ( 1 ) . 5 - السيد الشريف الرضي ( ت 404 ه ) في ما جمعه من خطب وكلمات الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة ( 2 ) . 6 - سعيد بن هبة الله الشهير بالقطب الراوندي ( ت 573 ه ) ( 3 ) . 7 - ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي ( ت 656 ه ) ( 4 ) . ‹ هامش ص 10 ›الفهرس ( 1 ) المحاسن ، للبرقي 1 : 330 / 74 باب النهي عن القول والفتيا بغير علم ، و 1 : 343 / 113 باب الدين . ( 2 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 136 . ( 3 ) أصول الكافي 1 : 54 / 1 باب البدع والرأي والمقائيس . وروضة الكافي 8 : 50 / 21 ( ونص الخطبة منه ) . ( 4 ) رجال النجاشي : 260 / 1026 . ( 5 ) جامع الأصول ، لابن الأثير 12 : 220 . ( 6 ) ابن ماكولا ( ت 475 ه ) في الإكمال 4 : 575 . وابن عساكر الشافعي ( ت 571 ه ) في تاريخ دمشق الكبير 16 : 37 . وعز الدين ابن الأثير ( ت 630 ه ) في الكامل في التاريخ 8 : 364 . وأبو الفداء ( ت 732 ه ) في المختصر في أخبار البشر 2 : 87 . والذهبي ( ت 748 ه ) في المشتبه 7 : 337 . وسير أعلام النبلاء 15 : 280 رقم الترجمة 125 . وتاريخ الإسلام : 250 رقم الترجمة 416 في حوادث سنة 328 ه . والصفدي ( ت 764 ه ) في الوافي بالوفيات 5 : 266 . وابن حجر العسقلاني ( ت 852 ه ) في لسان الميزان 5 : 433 . وتبصير المنتبه 3 : 1219 وغيرهم . |
إضاءات حول الخطبة
إضاءات حول الخطبة : وسوف ننطلق من أجواء هذه الخطبة الشريفة - التي عينت داء المسلمين وشخصت لهم الدواء - لبحث ما يمس واقع عقائدهم وأحكامهم في الصميم ، عسى أن تكون في ذلك عبرة لمعتبر ، وذكرى لذوي الألباب ، من الذين يسعون إلى معرفة الحق ، ولا يخشون في الله لومة لائم ، فنقول : لا إن تاريخ الأديان السماوية دل على بعثة الله تعالى - بين حين وآخر -نبيا مبشرا ومنذرا وهاديا إلى صراط مستقيم ، حتى إذا ما عبثت يد الهوىبما جاء به من الحق ، أو أشرفت دعوته الناس إلى الحق على انتهاء أمدهاالمقدر في حكمة الله عز وجل ، قفى عليه الله تعالى بنبي آخر يدعو إلى مادعا إليه الأنبياء والمرسلون عليهم السلام قبله . ‹ صفحة 12 › وهكذا سار موكب النور قرونا موغلة في القدم ، يبلغ رسالات ربه ، وكل شعاع منه أضاء لقوم في زمن محدود . حتى إذا ما بلغ الظلام أشدهوالجهل منتهاه ، واتخذ الناس أربابا من دون الله ، وسجدوا سفاهة لكلحجر ومدر ! ! بعث خاتم الأنبياء والمرسلين أبو القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبشرا ، ومنذرا ، وهاديا مهديا ، وداعيا إلى صراط مستقيم ، ومنقذاللناس كافة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( 1 ) ، فلا نبي ولا رسولبعد ( رسول الله وخاتم النبيين ) ( 2 ) ، ولا يقبل غير دينه العظيم ( ومنيبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ( 3 ) . ولا يخفى على أحد أن للمسلمين تجاه هذا الدين القويم مذاهب ومشارب شتى ، وطبقا لحديث ( الفرقة الناجية ) ( 4 ) فإن جميعها - من غيرهذه ( الفرقة ) - لا يعبر عن واقع الدين ، لاستحالة ترسمها جميعا محضالحق ، لما اشتملت عليه من تناقضات لا يتعقل كونها من الدين الخاتم . والدين متى ما أدخل فيه ما ليس منه ، أو أخرج عنه ما هو منه بفتنةعمياء ، لم يكن دينا ملبيا لحاجات الإنسان ، ولا مخاطبا لعقله وسموتفكيره ، لأنه دين اختلط فيه السليم بالسقيم الذي هو من صنع أهل البدعوالأهواء . وأما الدين الحق الذي لم تكن فيه لأهل البدع والأهواء يد ، فلا شك ‹ صفحة 13 ›ولا شبهة في كونه دين أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه من صنع الله المتقن ،وتبليغ الصادق المؤتمن صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأنهم عليهم السلام عيبة علمه صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعدنحكمته ( 1 ) ، وفي المثل السائر : " أهل البيت أدرى بالذي فيه " . وإذا عدنا إلى دين أهل البيت عليهم السلام - الذي هو الدين الحق الذي أمر اللهتعالى به - وجدنا أجزاءه مرتبطة برباط وثيق محكم ، يشتمل على سلسلةمن المعارف العقائدية أولها المبدأ وما يتصل به ، وآخرها المعاد . ثمهناك العبادات والمعاملات التي أخذت من طريق الوحي والنبوة الثابتصدقها بالبرهان . والمجموعة التي أخبر بها الصادق صادقة ، واتباعها اتباع للعلم ، لأنالمفروض العلم بصدق مخبرها . ولقد أوجب أتباع أهل البيت عليهم السلام على أنفسهم أن لا يقبلوا من سلسلة المعارف تلك حلقة واحدة من غير تدبر ونظر في المنقول والمعقولفيها ، وسيرتهم معروفة بذلك ، ولهذا كانوا من أكثر المسلمين قاطبة تأليفافي العقائد ( 2 ) . ولهم في تطبيق الأحكام الشرعية تقليد الفقيه الأعلم ( 3 ) . ‹ صفحة 14 › حتى مع فرض الاكتفاء في مقام الفتوى بالاجمال الشرعي لو لم يتم العثورعلى دليل الحكم تفصيلا . وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أتباع أهل البيت عليهم السلام هم الشيعة الإماميةالاثنا عشرية دون سائر المسلمين ، ويدل على ذلك احتفاظهم بتراث أهلالبيت عليهم السلام ، ولولاهم لما وجدت من هذا التراث إلا القليل النادر الذيلا يفي - مع فرض سلامته من الدس والتزوير على أهل البيت عليهم السلام – بتغطيةالاستدلال في العقائد والأحكام . ولهم على وجوب الاقتداء بأهلالبيت عليهم السلام والتمسك بهم عشرات الأدلة التي يشاركهم في نقلها جميعالمسلمين ، وليسهنا محل تفصيلها ، ولو لم يكن منها إلا ( حديث الثقلين ) لكفى . ولكن شحة النفوس وخشونة طبعها تجرأت على النبيالأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، فأساءت إلى مقامه الشامخ في أهل بيته قبيل وبعيد وفاتهحتى منع صلى الله عليه وآله وسلم في ساعاته الأخيرة من تأكيد وصيته بهم عليهم السلام ، فودعوه بأغلظ الألفاظ حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحاح القوم : قوموا عني !إنهم أدركوا القصد جيدا من : إئتوني بدواة ( 4 ) في ذلك الحين ،‹ صفحة 15 ›وهكذا لم يلبث الدين أن اصطبغ بغير صبغته ، أو كما يقول الكاتبالمصري الشافعي المعروف ( عبد الفتاح عبد المقصود ) عن أحداثالسقيفة المروعة التي مني بها الإسلام والمسلمون فيما بعد : " كفاهاخطورة أن غيرت اتجاه تاريخ الإسلام ، أو لونت صورته السياسية بغيرما كان ينبغي ، أو - بأرفق تعبير - بغير ما كان يظن أن تكون الصورة ، وتكون الألوان " ( 1 ) . ! |
فهرس ما تقدم
‹ هامش ص 11 › ( 2 ) نهج البلاغة ، الخطبة رقم 50 . ( 3 ) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ، للراوندي الخطبة رقم 50 . ( 4 ) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 3 : 240 / 50 . ‹ هامش ص 12 › ( 1 ) الأنبياء 21 : 107 . ( 2 ) الأحزاب 33 : 40 . ( 3 ) آل عمران 3 : 85 . ( 4 ) جاء في الروايات المتظافرة " أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة ناجية والباقي في النار . . " راجع هذه الرواية في الاعتصام ، للشاطبي 2 : 189 . ‹ هامش ص 13 › ( 1 ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : تركت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا تتقدموا عليهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض راجع هذه الأحاديث في : إحياء الميت بفضائل أهل البيت ، للسيوطي الشافعي ، تحقيق الشيخ كاظم الفتلي : 57 . الصواعق المحرقة ، لابن حجر : 93 . المستدرك على الصحيحين ، للحاكم النيسابوري 3 : 162 فقد صحح هذه الأحاديث على شرط البخاري ومسلم . ( 2 ) راجع ما كتبه الشيخ المفيد ( ت 413 ه ) ، والشيخ الطوسي ( ت 460 ه ) ، والعلامة الحلي ، وأخيرا العلامة شرف الدين الموسوي ، والعلامة عبد الحسين الأميني صاحب كتاب الغدير ، والشهيد الصدر قدس سره في بحث حول الولاية والموجز في علوم الدين ، وبحث حول المهدي وغيرها . ( 3 ) وتقليد الأعلم عليه المشهور والفتوى لدى الشيعة الإمامية . ‹ هامش ص 14 › ( 4 ) إشارة إلى الحديث المتواتر الذي نقلته صحاح القوم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الأخير : " إئتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي ولكنهم اختلفوا ، فقال عمر إن النبي غلبه الوجع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " قوموا عني لا ينبغي عند نبي تنازع . صحيح البخاري 6 : 11 - 12 / باب مرض النبي ، 9 : 137 / باب كراهة الخلاف ، كتاب الاعتصام . ‹ هامش ص 15 › ( 1 ) السقيفة والخلافة ، لعبد الفتاح عبد المقصود : 30 . |
[ خطبة واضاءة ] وكيف لا ، وقد أخرج عن الدين ما كان من لبه ، وأدخل فيه ما ليس هو منه ، وسار الخلف على ما رسم السلف إلى اليوم ، فترى - وتلك هي المأساة الكبرى - بعض الناس يدعو باسم الدين إلى هدف ليس من أهدافه ، وأدب غير أدبه ، وحكم غير حكمه ، حتى عاد المنكر معروفا يتعصب له ، لموافقته هواهم وشهوات أنفسهم ، والمعروف منكرا ليس له حام يحميه ولا واق يقيه ، وعاد الدين غريبا كما كان ، لما نشاهده من مفتريات عليه باسمه . وهكذا كان بفضل اجتهاد من اجتهد في إبعاد الحق عن أهله أن انهدمت - عبر اختلاف الرأي بتعاقب القرون - الوحدة الدينية وبدت الفرقة ، ونفدت القوة ، وذهبت الشوكة ! والأنكى من كل ذلك ، أنك إذا ما أوقفت طلاب الحق والحقيقة على موطن الداء ، رجع بعضهم إلى مقولة السفهاء : ( رافضي خبيث يسب الصحابة ) وسرعان ما يبرر تلك الموبقات على أساس من الاجتهاد ، وأن لكل مجتهد أن يجتهد ولو في منع النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من كتابة الكتاب ‹ صفحة 16 › الذي لن تضل الأمة فيما لو تمسكت به بعده ( 1 ) ، وله أن يجتهد في إبعاد وصيه ( 2 ) وباب علمه ( 3 ) ، وله أيضا أن يغضب بضعة المختار ، ويهدد منفي الدار بالحرق بالنار ( 4 ) وإن كانت فيها من يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها ( 5 ) وله فوق هذا وذاك أن يغضبها حقها ، وأن يجتهد في تقريب الطريد ، وطرد القريب ( 6 ) ، ومصاهرة أعداء الله لا ورسوله ، والتفريط بحدود الله بإسقاطها وجلد الشهود العدول ( 7 ) ، وصرف الخمس في الأقارب ( 8 )دون القربى ، ومنع المتعتين ( 9 ) ، وإسقاط حي على خير العمل ( 10 ) ، ‹ هامش ص 15 › ( 1 ) السقيفة والخلافة ، لعبد الفتاح عبد المقصود : 30 . ‹ هامش ص 16 › ( 1 ) إشارة إلى حديث الكتف والدواة المتقدم ، ومنعهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من الكتابةالمصرحة بالخليفة . ( 2 ) إشارة إلى حديث الدار المشهور قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من يؤازرني على هذا الأمر فيكونونوصيي وخليفتي ووزيري من بعدي . . فكان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام . تاريخ الطبري 2: 63 - 64 . ( 3 ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا مدينة العلم وعلي بابها . المستدرك على الصحيحين ، للحاكم 3 : 137 - 138 . وأسد الغابة ، لابن الأثير 4 : 100 . ( 4 ) الإمامة والسياسة ، لابن قتيبة 1 : 12 . وشرح ابن أبي الحديد 2 : 56 . وتاريخ الطبري 3 :198 . ( 5 ) إشارة إلى الحديث الشريف : إن الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها . . وهو متواترعند المسلمين . صحيح البخاري 5 : 83 / 232 باب 43 . وسنن الترمذي 5 : 699 .والصواعق المحرقة : 190 . ( 6 ) هذه أعمال عثمان بن عفان ، وهي مشهورة عنه . والملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 32 الخلافالتاسع من المقدمة الرابعة . ( 7 ) المصدر نفسه . ( 8 ) المصدر نفسه . ( 9 ) هذه أعمال عمر بن الخطاب ، وهي مشهورة عنه . راجع سيرته في تاريخ الخلفاء للسيوطي . ( 10 ) سنن البيهقي 1 : 524 . |
‹ صفحة 17 › وحرق الحديث والمنع من تدوينه ( 1 ) والتطليق بغير السنة ، وإبداع العول والتعصيب ، ورضاعة الكبير ولو كان ذا لحية وشهد بدرا كما سيوافيك ! والتلاعب بمقدرات الأمة بتولية الفساق على بيوت الأموال بعد طرد الأمناء الأبدال ، وتمهيد السبيل أمام الشجرة الملعونة ( 2 ) ، وقطع الطريق أمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بإبعادهم إلى الربذة ( 3 ) ! ! بل وله أن يجتهد فيشرع كصلاة الضحى المبتدعة ، ولست أدري ما الذي أوجب على من ابتدعها مدحها بقوله : " نعمت البدعة هي " ( 4 ) ! ! . ومن هنا ينبغي على طالب الحقيقة أن يعلم أن الإمام علي عليه السلام قد ألمح في خطبته الشريفة المتقدمة إلى كل هذا ، وذلك بإشارته إلى أن مبدأ الباطل في تاريخنا الإسلامي إنما كان هوى يتبع ، وبدعا يخالف فيها كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، مع خلط ذلك بشئ من الحق لكي ينطلي على الأتباع والمؤيدين كما نلحظه في واقع المسلمين ، حتى لكأنه عليه السلام كان ينظر إلى هذا الواقع من ستر رقيق ! ولا شك أن المتمسكين اليوم بحبل الباطل ، لم يتعمدوا ذلك ، لأن كل باطل وكذب ما لم يكن فيه شئ من الحق والصدق لم يقبله عاقل ، كما أن كل مزيف فاسد وكاسد ما لم يكن بنقد رائج لم يصر رائجا في سوق ذوي الأبصار ، فالباطل الصرف لا يقع في توهم ذي حجى إلا إذا اقترن بالحق أو ‹ صفحة 18 › شبهه ، وكذلك الكذب المحض مما لا يصدق به ذو عقل إلا إذا امتزج بالصدق واستتر فيه . ومن هنا أشار الإمام علي عليه السلام إلى أنه لو خلص الباطل عن لبس الحق لم يشتبه على عاقل ، ولو تجرد الحق عن مخالطة الباطل لما وجد اختلاف ، ولم يكن للشيطان الرجيم سبيل إلى إيقاع الفتنة ، ولأذعن الكل إلى الحق بعد خلوصه من مزج الباطل إلا من غوى وعلا في الأرض واستكبر وركب رأسه عنادا وصلفا . ثم اعلم - أخي المسلم - أن أمير المؤمنين عليه السلام أشار إلى حقيقة ثابتة ،وسنة لن تجد لها تبديلا ، وهي أن الدنيا دار اشتباك بين النور والظلمة ،وامتزاج بين الحق والباطل ، وأخذ للأقوال من الأولياء والأشقياء . وهذا هو عين الواقع الذي يعيشه كثير من المسلمين ، فكم تراهم يأخذون بضغث من أقوال الأولياء الناهجين سبل الهدى ، وبضغث آخر من أقوال المضلين أرباب الهوى ، حتى إذا ما امتزج الضغثان استولى على أوليائه الشيطان . وأما من علم أن البيوت لا تؤتى إلا من أبوابها ، واقتصر على السليم دون السقيم ، فلا شك أنه سبقت له العناية بالحسنى وهو مبعد عن شراك الشيطان . ترى فهل يدرك اليوم من يدعو الناس بإخلاص إلى معرفة الحق- ويزعم أنه ساع إليه بكليته وكما يجب لاستفراغ ما في ذمته - أن المذاهب التي يفتتن بها الناس اليوم هي من خلط هذين الضغثين ، ولو محصت أكثرها لوجدتها ندا للثقل الأصغر ، ونصيرا للشيطان ، وإن ‹ صفحة 19 › أخذت عن الأول ضغثا فقد أخذت عن الآخر أضغاثا ، ثم صد التابع عن استعلام حال المتبوع وحقيقته على طبق مشيئة وإرادة السياسات المتعاقبة في صياغة النظرية السياسية في الإسلام . ‹ هامش ص 17 ›حتى صار التابع اليوم على استعداد كاف لتقبل الجهل ، وتمرن عجيب على اتباع الهوى ، وزهد في تحقيق الأمور على وجوهها ، وبعد عن أهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، تقليدا منه للأسلاف ، ومحبة ورغبة لاتباع ما ألفه الآباء والأجداد ! ثم يجب أن يعلم أن قصد أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الخطبة العظيمة ، لم لم يكن إلا شكاية منه عليه السلام عما آل إليه أمر هذا الدين في عصره ، إذ يرى أغلب الناس من أبناء الدنيا قد تركوا الدخول بسفينة النجاة واعتصموا بمن لاعاصم له من الغرق ، ولو أنهم اقتدوا بربان تلك السفينة لحملهم على المحجة الواضحة كما قاله عمر ، ولو تمسكوا به لاستمسكوا بالعروةالوثقى في دينهم وأنفسهم كما قاله الرازي في تفسيره ( 1 ) ( 1 ) تاريخ الخلفاء : 137 . والطبقات الكبرى ، لابن سعد 3 : 281 . ( 2 ) الشجرة الملعونة في القرآن هم بنو أمية . ( 3 ) قام عثمان بن عفان بإبعاد الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري إلى الربذة كما في الملل والنحل / السابق . ( 4 ) صحيح البخاري 1 : 233 كتاب صلاة التراويح . وصحيح مسلم 1 : 383 باب الترغيب . ‹ هامش ص 19 › ( 1 ) التفسير الكبير للرازي 1 : 205 و 207 في بحث المسائل الفقهية المستنبطة من سورة الفاتحة . |
لكنهم - والحديث ذو شجون - تركوا الهادي بعيد وفاةالمنذر ! !
وكأنهم لم يسمعوا قوله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا المنذر وعلي الهادي ، وبك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي ( 2 ) وقوله : اللهم أدر الحق مع علي حيث دار فتركوا الفارق بين الحق والباطل بحيث لا اشتباه عنده بينهما قط لوضوحهما لديه ، كوضوح الشمس وهي في رائعة النهار عن ظلمة الليل الحالك البهيم الأليل ، كما يدلك قوله عليه السلام : عزب رأي امرئ تخلف ‹ صفحة 20 › عني ، ما شككت في الحق مذ أريته " ( 1 ) نعم . . إنها شكاية من أولئك الذين بخبخوا له بالأمس القريب ( 2 ) ، ومن أنصارهم وأعوانهم الذين قال فيهم عليه السلام : " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة " ( 3 ) ، فصرفوها عنه وتقمصوها بآرائهم ، بعد أن حليت الدنيا بأعينهم ، وراقهم زبرجها ، وقد علموا - وأيم الله - محله منها كمحل القطب من الرحا ، مما صار ذلك سببا لوقوع الفتن حيث ابتدأت بأهواء اتبعت ،وأحكام ابتدعت مع ما ضم إليها في العاجل والآجل من متخيلات الأوهام ، ومخترعات الأفهام ، حتى حملت النصوص على غير وجوهها . فترى أحدهم إذا ما مر بقوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربهاناظرة ) ( 4 ) غفل عن قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) ( 5 ) . واعتقد بما ذهب إليه قوم موسى عليه السلام ، لما في تراثهم من أضغاث الباطل كما في في كذبهم على النبي بأنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه بصورة شاب أمرد ! ! وليتهم تأملوا قوله تعالى : ( ما كذب وآله وسلم رأى ربه بصورة شاب أمرد ! ! وليتهم تأملوا قوله تعالى : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ( 6 ) أسندت إلى الفؤاد ، لكن العقول القاصرة ، والأفهام المبتسرة لم تقف على حقيقة الحال ، ومن أمارة قلة تدبرهم أن الرؤية في الآية السابقة قد ‹ صفحة 21 › أسندت إلى الوجوه ، لا إلى العيون ولا إلى الأبصار المنفية بآية صريحةأخرى ، كما أن الآية الكريمة وما بعدها تتحدثان عن صنفين من الناس يوم القيامة : صنف فرح مسرور ينتظر رحمة الله تعالى ، وهم المؤمنون ، وصنف آخر ينتظر العذاب المهين ، وهم ممن استحق العذاب . ألا ترى قوله تعالى بعد ذلك ( ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة ) ( 1 ) أي :عبوسة تعلم أنه سيفعل بها ما يقصم الظهر . فالمزاوجة بين حال هذه الوجوه وتلك يعلم منها أن المقام مقام انتظارلا نظر . انتظار من رضي الله تعالى عنه لرحمة ربه . وانتظار من سخط الله تعالى عليه لنقمته . ومن ظريف ما وقع في عهد أمير المؤمنين عليه السلام ، أن زنديقا سأل الإمام( صلوات الله تعالى وسلامه عليه ) قائلا : أجد الله يقول : ( وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ) وأجده يقول : ( لا تدركه الأبصار وهو يدركالأبصار ) فقال عليه السلام : إن المؤمنين يؤمرون بدخول الجنة ، فمن هذاالمقام ينظرون إلى ربهم كيف يثيبهم ، أي : النظر إلى ما وعدهم - عز وج لفذلك قوله تعالى : ( إلى ربها ناظرة ) . والناظرة : المنتظرة . ثم قال عليه السلام : ألم تسمع قوله تعالى : ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) ( 2 ) ‹ صفحة 22 › أي : منتظرة ( 1 ) . وهذا من روائع الاستدلال . وكم يعجبني قول ابن رشد في فصل المقال ، قال : " إن ما من منطوق في الشرع مخالف في ظاهره لما أدى إليه البرهان ، إلا إذا اعتبر وتصفحت سائر أجزائه ، وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد " ( 2 ) . هامش ص (19) ( 2 ) نظم درر السمطين للمدني : 89 / 80 ، وكنز العمال للمتقي الهندي الحنفي 11 : 620 / 13012 . ( 3 ) التفسير الكبير 1 : 205 . والتاج الجامع للأصول ، للشيخ علي منصور ناصف 3 : 333 . ‹ هامش ص 20 › ( 1 ) نهج البلاغة الخطبة رقم 4 . ( 2 ) بخبخوا : قالوا له بخ بخ لك يا علي أصبحت مولانا ومولى كل مؤمن ومؤمنة . مسند أحمد بن حنبل في حديث الغدير المتواتر 4 : 281 . ( 3 ) نهج البلاغة ، شرح الشيخ محمد عبدة 1 : 126 . ( 4 ) القيامة 75 : 22 - 23 . ( 5 ) الأنعام 6 : 103 . ( 6 ) النجم 53 : 11 . ‹ هامش ص 21 › ( 1 ) القيامة 75 : 24 - 25 . ( 2 ) النمل 27 : 35 . ‹ هامش ص 22 › ( 1 ) بحار الأنوار 90 : 98 . ( 2 ) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، لابن رشد : 33 . ( 3 ) الشورى 42 : 11 . ( 4 ) مقدمة ابن خلدون : 463 . |
وتتأكد صحة قول ابن رشد من خلال تتبع الآيات المتشابهة في تفسير أهل البيت عليهم السلام التي تدل بظاهرها على التشبيه أو التجسيم ونحوهما . فإنالأصل في تفسيرها ردها إلى المحكم كقوله تعالى : ( ليس كمثلهشئ ) ( 3 ) وفي ذلك يقول ابن خلدون : " إن الآي القليلة التي توهم التشبيه اتبعهامبتدعة العصر ، وتوغلوا في التشبيه فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفةآي التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة " ( 4 ) . وعلى الرغم من ذلك تجد من يتعصب لتلك الآراء الفاسدةوالمعتقدات الباطلة التي ليس لها نصيب من واقع الدين ، ويدافع عنها الأتباع في كل عصر وجيل ، لأنهم كما وصفهم أمير المؤمنين عليه السلام : همجرعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق ‹ صفحة 23 › ( 1 ) وكيف لا ؟ وهم لم يفرقوا بين قول الأولياء وقول الأشقياء ، لابتعادهمعن أهل بيت الوحي ومعدن الرسالة ، ومهبط التنزيل ، ولهذا قال أميرالمؤمنين - كما مر في خطبته عليه السلام - : فهنالك استحوذ الشيطان علىأوليائه . وأما العارفون بالله ( عز وجل ) بعين الحقيقة ، والسالكون إليه بنورالبصيرة من أهل الإسلام ، فهم العلماء الربانيون الذين عرفوا الحقفاتبعوه ، ولم ينازعوا فيه أهله ، والراجعون إليهم بعدما اختلط الحابلبالنابل ، والآخذون عنهم بعدما امتزج الحق بالباطل . أولئك هم المؤمنون حقا الذين سبقت لهم العناية بالحسنى ،لاقتدائهم بمن خلف فيهم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم راية الحق ، من تقدمهامرق ، ومن تخلف عنها زهق ، ومن لزمها لحق . وكيف لا ؟ وقد هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روحاليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منهالجاهلون ، وصحبوا الدنيا - بعد طلاقها ثلاثا - بأبدان أرواحها معلقةبالمحل الأعلى . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 22 › ( 1 ) بحار الأنوار 90 : 98 . ( 2 ) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، لابن رشد : 33 . ( 3 ) الشورى 42 : 11 . ( 4 ) مقدمة ابن خلدون : 463 . ‹ هامش ص 23 › ( 1 ) نهج البلاغة ، قصار الحكم : 147 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . مطارحات في الفكر والعقيدة - مركز الرسالة - ص 22 – 23 |
السلام عليكمـ بارك الله بكم مولانا على النقل الموفق بانتظار جديدكمـ |
الساعة الآن 11:55 PM |
Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
Support : Bwabanoor.Com
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010