![]() |
مقدمات اصولية عامة " (2) ما هو الدّين؟ و ما هي جذوره في الفطرة الإِنسانية؟ ـ السبحاني
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم بقائمهم اصول عقائ 2 ـ ما هو الدّين؟ و ما هي جذوره في الفطرة الإِنسانية؟ لا يحاول الدّين إِرجاع البشر إلى الجهل و التخلف ، بل هو ثورة فكرية تقود الإِنسان إلى الكمال و الترقّي في جميع المجالات. و ما هذه المجالات إلى أَبعاده الأَربعة : أ ـ تقويم الأَفكار و العقائد و تهذيبها عن الأَوهام و الخرافات. ب ـ تنمية الأصول الأخلاقية. ج ـ تحسين العلاقات الإِجتماعية. د ـ إلغاء الفوارق العنصرَّية و القوميَّة. و يصل الإِنسان إلى هذه المآرب الأَربعة في ظل الإِيمان بالله الذي لا ينفك عن الإِحساس بالمْسؤُوليَّة ، و إليك توضيحها : أمّا في المجال الأَول ، أعني إصلاح الأَفكار و العقيدة فنقول : لا يتمكن الإِنسان المفكر من العيش بلا عقيدة ، حتى أولئك الذين يضفون على منهجهم طابع الإِلحاد ، و يرفعون عقيرتهم بشعار اللاَّدينية ، لا يتمكنون من العيش بلا عقيدة في تفسير الكون و الحياة. و إليك نظرية الدّين لواقع الكون و الحياة. إِنَّ الدين يفسر واقع الكون و جميع الأَنظمة المادية بأَنها إِبداع موجود عال قام بخلق المادة و تصويرها و تحديدها بقوانين و حدود ، و قد أخضعه لنظام دقيق ، فالجاعل غير المجعول ، و المعطي غير الآخذ. كما أَنَّه يفسر الحياة الإِنسانية بأَنها لم تظهر على صفحة الكون عبثاً و لميُخلق الإِنسان سدى ، بل لتكوّنه في هذا الكوكب غاية عليا يصل إليها في ظل تعاليم الأَنبياء و الهداة المبعوثين من جانب الخالق إلى هداية مخلوقَه. هذا هو تفسير الدين لواقع الكون سر الحياة ، غير أَنَّ المادّي يحاول تفسير الكون بشكل مغاير ، و هو يقول : إِنَّ المادة الأُولى قديمة بالذات و هي التي قامت فأَعطت لنفسها نظماً ، و أَنَّه لا غاية لها ، و لا للإِنسان القاطن فيها. و بعبارة أُخرى ، إِنَّ للكون في نظرية الإِنسان الإِلهي بداية و نهاية ، فإِنَّ نشوءه من الله سبحانه ، كما أَنَّ نهايتهـ باسم المعاد ـ إلى الله تعالى. غير أَنَّ الكون في نظرية الإِنسان المادي فاقد للبداية و النهاية ، بمعنى أَنَّه لا يتمكن من ترسيم بداية ، و أَنَّه كيف تحقق و تكوّن و وُجد؟ بل كلّما سأَلته يجيبك : ب ـ « لا أدري ». كما أَنَّه لا يتمكن من تفسير نهايته و غايته ، ولو سألته عن ذلك لأجابك ب ـ « لا أَعلم ». فهذا العالم عند الفيلسوف المادي أشبه بكتاب مخطوط مخروم قد سقطت من أوله و آخره أَوراق مما أَدخله في إِطار الإِبهام ، فلا يقف الإِنسان على بدئه ولا على ختامه فالفيلسوف الماديّ جاهل ببدء العالم و ختامه و ليس له هنا جواب سوى « لا أَدري ». و بعبارة ثالثة : لم تزل الأَسئلة الثلاثة التالية عالقة بذهن الإِنسان منذ أَنْ عرف يمينه من يساره ، و هي : 1 ـ إِنَّه من أَين؟ 2 ـ و إلى أَين؟ 3 ـ و لماذا خُلِق؟. و هذه الأسئلة الثلاثة يجيب عنها الفيلسوف الإِلهي بأجوبة رصينة تتضح من خلال هذه الرسالة ، و إجمالها أنَّ البداية من الله ، و أنَّ نهاية المطاف هي الله سبحانه ( إِنَّا لله وإنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ) (1) ، و أَنَّ الغاية هي التخلّق بالقيم و المثل الأخلاقية و الإِتصاف بأسمائه و صفاته سبحانه ، غير أنَّ المادي يَكِلُّ عند الإِجابة عن هذه الأسئلة و لا يأتي بشيء مقنع. و على هذا الأساس قلنا اءنَّ للدّين دوراً في تصحيح الأفكار و العقائد. و من خلال المقارنة بين الفكر الإلهي والمنهج المادي في الإِجابة على الأسئلة الثلاثة يعلم الإِنسان أنَّ التكامل الفكري إنما يتحقق في ظل الدين ، لأنه يكشف آفاقاً وسيعة أمام عقليته و تفكيره ، في حين أنَّ المادي يملأ الذهن بالجهل والاءِبهام ، بل يقوده إلى الخرافات. إذ كيف يمكن للمادة أن تمنح نفسها نُظُماً؟ و هل يمكن أن تّتحد العلّة والمعلول ، و الفاعل و المفعول ، والجاعل والمجعول؟. هذا ما يتعلق بدور الدين في مجال إِصلاح الفكر والعقيدة. وأمَّا في المجال الثاني ، و هو ما يتعلق بتنمية الدَّين للأصول السامية للأَخلاق فنقول : إِنَّ العقائد الدينية تعد رصيداً للأصول الأَخلاقية إِذ التقيد بالقيم ورعايتها لا ينفك عن مصاعب وآلام يصعب على الإِنسان تحملها إلاّ بعامل روحي يسهّلها ويزيل صعوبتها له ، وهذا كالتضحية في سبيل الحق والعدل ورعاية الأَمانة و مساعدة المستضعفين. فهذه بعض الأصول الأَخلاقية التي لا تنكر صحّتها ، غير أَنَّ تجسيدها في المجتمع يستتبع آلاماً و صعوبات ، كما يستتبع الحرمان من بعض اللذائذ ، فما هو ضمان تحقق هذه الأصول؟. إِنَّ الإِعتقاد بالله سبحانه وأنَّ في إِجراء كل أصل من الأصول الأخلاقية أَجراً كبيراً يصل إليه الإِنسان في الحياة الأخروية ، خير عامل لتحبيذ الإِنسان وتشويقه على إِجرائها والتلّبس بها في حياته الدنيويَّة ، و لولا ذاك الإِعتقاد لأَ صحبت الأَخلاق نصائح وعظات جافة لا ضمان لإِجرائها. 1 ـ سورة البقرة الآية 156. و في هذا الصدد يقول ويل ديوارانت المؤرخ المعاصر : « لولا الدّين لتجلت الاخلاق و كأَنها أَشبه بالمبادلات الإِقتصادية ، و لصارت الغاية منها الفوز بالنجاح الدنيوي بحيث لو كان النجاح و الفوز مضاداً للقيم لتمايل عنها ، لكون الغاية في جانب اللاقيم ، و إِنما هي العقيدة الدينية التي تترك الإِحساس بالمسؤولية في روح الإِنسان » (1). و أَما في المجال الثالث ، و هو ما يتعلق بتوطيده العلاقات الإِجتماعية ، فنذكر فيه ما ذكرنا في دعمه الأَخلاق السامية ، فإِنَّ العقيدة الدّينية تساند الأصول الاجتماعية لأنها تصبح عند الإِنسان المتديّن تكاليف لازمة ، و يكون الإِنسان بنفسه مقوداً إلى العمل و الإِجراء. غير أنَّ تلك الأصول بين غير المتديّنين لا تراعى إِلاّ بالقوى المادَّية القاهرة. و عندئذ لا تتمتع الأصول الإِجتماعية بأي ضمان تنفيذي و هذا مشهود لمن لاحظ حياة الأمم المادّية غير الملتزمة بمبدأ أو معاد. و أما المجال الرابع ، أعني إلغاءه الفوارق العنصرية و القومية المفروضة على عاتق المستضعفين بالقوة و السلطة و الإِغراء و الجهل و تشويه الحقائق. فنقول : إِنّ الدّين يعتبر البشر كلهم مخلوقين لمبدأ واحد ، فالكل بالنسبة إليه حسب الذات و الجوهر كأسنان المشط ، و لا يرى أي معنى للتمييز و التفريق و ترفيع بعض و تخفيض بعض آخر ، كما لا يرى معنى لوجود أناس اتخمهم الشبع و آخرين أهلكهم الجوع و الحرمان. فهذه هي المجالات الأربعة التي للدين فيها دور و تأثير واضح ، أَفيصح 1 ـ لذائذ الفلسفة ، ص 478. بعد الوقوف على هذه التأثيرات المعجبة أنْ نهمل البحث عنه ، و نجعله في زاوية النسيان؟ غير أن هنا نكتة نلفت نظر القارئ إليها ، و هي أنَّه ليست كل عقيدة تتسم باسم الدين قادرة على خلق هذه الآثار و إبداعها ، و إنما تقدر عليها كل عقيدة دينية تقوم على أساس العقل ، و تكون واصلة إلينا عن طريق الأنبياء الصادقين ، ففي مثل تلك العقيدة نجد الحركة و الحياة و في غير هذه الصورة يصبح الدين عقائد خرافية تتجلى بصورة الرهبانية و الميول السلبية إلى غير ذلك من الآثار السيئة التي نلمسها في العقائد الدينية التي لا تمت إلى الوحي و رجال الدين الحقيقي بصلة. فالمفكر الغربي إذ يتهم الدّين بأَنَّه عامل التخلف و الإنحطاط ، و مضاد للتقدم و الرقي ، فهو يهدف إلى أَمثال هذه العقائد الدينية. و هناك نكتة أخرى و هي : إِنَّ الدين الحقيقي يلغي الفوارق السلبية التي لا تمت إلى أَساس منطقي بصلة ، و أَما المميزات الإِيجابية التي لا تنفكّ عن أَفراد البشر فهي غير ملغاة أَبداً ، فكما أنَّ أَصابع اليد الواحدة تختلف كل واحدة منها عن الأخرى ، كذلك أَفراد البشر يتفاوتون من حيث العقل و الفكر و الحركة و النشاط. فالفوارق التي تنشأ من نفس طبيعة الإنسان غير قابلة للحذف و التغيير ، و ما يرفضه الدين و يحذفه عن مجال الحياة هو الإِمتيازات النابعة من القوة و السلطة. إلى هنا تعرفنا على الجوانب الحقيقية للدين و حان الآن وقت التعرف على جذوره في فطرة الإنسان الدين و الفطرة : الإِيمان بالمبدأ والتوجه إلى ما وراء الطبيعة من الأمور الفطرية التي عجنت خلقة الإِنسان بها ، كما عجنت بكثير من الميول و الغرائز. أقول بشكل عام إِنَّ إِدراكات الإِنسان تنقسم إلى نوعين : 1 ـ الإِدراكات التي هي وليدة العوامل الخارجة عن وجود الإِنسان بحيث لولاها لما وقف الإِنسان عليها بتاتاً ، مثل ما وقف عليه من قوانين الفيزياء و الكيمياء و الهندسة. 2 ـ الإِدراكات النابعة من داخل الإِنسان و فطرته من دون أن يتدخل في الإِيحاء عامل خارجي. كمعرفة الإِنسان بنفسه و إِحساسه بالجوع و العطش ، و رغبته في الزواج في سن معينة ، و الإِشتياق إلى المال و المنصب في فترات من حياته. تلك المعارف ـ و إِنْ شئت سميتها بالأَحاسيس ـ تنبع من ذات الإِنسان و أَعماق وجوده. و علماء النفس يدّعون أنَّ التوجه إلى المبدأ داخل تحت هذا النوع من العرفان. إِنَّ علماء النفس يعتقدون بأَنَّ للنفس الإِنسانية أَبعاداً أَربعة يكون كلُّ بعد منها مبدأً لآثار خاصة. أ ـ روح الإِستطلاع و استكشاف الحقائق ، و هذا البعد من الروح الإِنسانية خلاق للعلوم و المعارف ، و لولاه لما تقدم الإِنسان منذ أن وجد في هذا الكوكب ، شبراً في العلوم و استكشاف الحقائق. ب ـ حبّ الخير ، و النزوع إلى البرِّ و المعروف ، و لأَجل ذلك يجد الإِنسان في نفسه ميلا إلى الخير و الصلاح ، و انزجاراً عن الشر و الفساد. فالعدل و القسط مطلوب لكل إنسان في عامة الأَجواء و الظروف ، و الظلم و الجور منفور له كذلك ، إلى غير ذلك من الأَفعال التي يصفها كل إِنسان بالخير أو الشر ، و يجد في أَعماق ذاته ميلا إلى الأَول و ابتعاداً عن الثاني ، و هذا النوع من الإحساس مبدأٌ للقيم و الأَخلاق الإِنسانية. ج ـ عشق الإِنسان و علاقته بالجمال في مجالات الطبيعة و الصناعة فالمصنوعات الدقيقة و الجميلة ، و اللوحات الفنية و التماثيل الرائعة تستمد روعتها و جمالها من هذا البعد. إِنَّ كل إِنسان يجد في نفسه حبّاً أَكيداً للحدائق الغناء المكتظة بالأَزهار العطرة و الأَشجار الباسقة ، كما يجد في نفسه ميلا إلى الصناعات اليدوية المستظرفة و حباً للإِنسان الجميل المظهر ، و كلها تنبع من هذه الروح التي عجن بها الإِنسان ، و هي في الوقت نفسه خلاّقة للفنون في مجالات مختلفة. د ـ الشعور الدينى الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ ، فيدعو الإِنسان إلى الإِعتقاد بأَنَّ وراء هذا العالم عالماً آخر يستمد هذا العالم وجوده منه ، و أنَّ الإِنسان بكل خصوصياته متعلق بذلك العالم و يستمد منه. و هذا البعد الرابع الذي اكتشفه علماء النفس في العصر الأَخير و أَيدوه بالإِختبارات المتنوعة مما ركز عليه الذكر الحكيم قبل قرون و أَشار إليه في آياته المباركات ، نعرض بعضها : أ ـ ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (1). إِنَّ عبارة « فِطْرَةَ الله » تفسير للفظة الدّين الواردة قبلها ، و هي تدل بوضوح على أنَّ الدّين ـ بمعنى الإِعتقاد بخالق العالم و الإِنسان ، و أَنَّ مصير الإِنسان بيدهـ شيء خلق الإِنسان عليه ، و فُطر به كما خلق و فُطِر على كثير من الميول و الغرائز. 1 ـ سورة الروم : الآية 30. ب ـ ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (1). أيْ عرَّفْنا الإِنسان طريقَ الخير و طريقَ الشر. و ليس المراد التعرف عليهما عن طريق الأنبياء بل تعريفهما من جانب ذاته سبحانه ، و إن لم يقع في إِطار تعليم الأَنبياء ، و ذلك لأَنه سبحانه يقول قبله ( لَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَ ـ نَ فِي كَبَد * ... * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْنَ ـ هُ النَّجْدَيْنِ ) فالكل من معطياته سبحانه عند خلق الإِنسان و إبداعه. و هذا إنْ دلّ على شيء فإنما يدل على أنَّ النظرية التي اكتشفها علماء معرفة النفس مما ركّز عليها الوحي بشكل واضح ، و حاصلها إِنَّ الدين بصورته الكليَّة أَمر فطري ينمو حسب نمو الإِنسان ورشده ، و يخضع للتربية و التنمية كما يخضع لسائر الميول والغرائز. |
الساعة الآن 06:51 AM |
Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
Support : Bwabanoor.Com
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010