![]() |
شرح الخطبة الفدكية للشيخ اليزدي
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الذي بين أيديكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آية الله مصباح اليزديّ (دامت بركاته) ألقاها في مكتب سماحة وليّ أمر المسلمين في شهر رمضان المبارك من العام 1431ه يوم 13 آب 2010م نقدّمها من أجل أن تزيد توجيهات سماحته من بصيرتنا وتكون نبراساً ينير لنا درب هدايتنا وسعادتنا. الوحدة والاختلاف مدخل نبارك لجميع محبّي الإسلام ونهنئهم بحلول شهر رمضان المبارك سائلين العليّ القدير بحقّ الوجود المقدّس لوليّ العصر (أرواحنا فداه) أن يشملنا جميعاً في هذا الشهر الشريف بعناياته الخاصّة. لقد اقتُرح علينا التطرّق إلى بحث خطبة السيّدة الزهراء(عليها السلام) في هذا الشهر الفضيل وكذا في السنة القادمة إن شاء الله تعالي. في الحقيقة منذ أكثر من 25 عاماً وأنا أحضر في خدمة الأخوة الأعزّاء من طلبة العلوم الدينية وغيرهم أحياناً في كلّ ليلة خميس لنستعرض آيات من الذكر الحكيم وأقوال عن أهل البيت (عليهم السلام) آمل من خلالها أن أحظى بلياقة نيل شفاعتهم(عليهم السلام). إنّه لطالما راودتني فكرة الخوض في بحث حول كلمات السيّدة الزهراء(عليها السلام)؛ لكنّ الذي كان يمنعني من ذلك غالباً هو شبهة أنّ طرح خطبهاقد يثير حساسيّة الاُخوة من أهل السنّة بل قد يؤجّج المزيد من الخلاف؛ لكن بعدما تمّ توثيق خطبة السيّدة فاطمة الزهراءهذا العام وطُبعت ونُشرت بأعداد ضخمة، وبعد أن أيّدها وأمضاها مراجع التقليد العظام (حفظهم الله) فقد تبادر إلى ذهني في مقابل ذاك السؤال سؤال آخر وهو أنّه: بعد انتشار هذه الخطبة بين عامّة الناس، فهل يبقى هناك مبرّر معقول للإعراض عن شرحها وبيانها؟ أساساً كيف يمكن تحقّق تلك «الوحدة» التي هي مطلوبة أصلاً؟ هل لابدّ أن تبقي الكثير من الحقائق في طيّ الكتمان ولربّما تجابَه بالإنكار بعد تقادم العصور؟ أم إنّه ينبغي للمسائل العلميّة التي تتطلّب البحث والتحقيق أن تُبيَّن بمعزل عن التعصّبات وبدافع الإفادة من المعارف؟ إنّ هذه الحقائق هي التي تنهض بدور جوهريّ في حفظ الإسلام وأهدافه ويجب أن تُطرح في المحافل العلميّة على طاولة البحث باُسلوب حياديّ كي تُمهّد الأرضيّة لخروج المشتبهين والملتبسة عليهم الاُمور من دائرة الشبهة والالتباس. إنّه لَيساورني شعور بأنّ قلب الزهراء (سلام الله عليها) سيكون أكثر سروراً إذا تناولنا في بادئ الأمر البحث في أصل مسألة حفظ الوحدة. إذن فلنكرّس بضع محاضرات نتناول فيها قضيّة الوحدة والاختلاف ثمّ نُتبعها بالبحث حول نفس الخطبة الشريفة، التي تُعدّ من أفصح وأبلغ الكلمات المرويّة عن أهل البيت (صلوات الله عليهم) والتي لم يعد أيضاً أيّ مجال للتشكيك فيها من الناحية التاريخيّة، علّنا نُشمَل بالعنايات الخاصّة لهذه السيّدة الطاهرة. الثورة التي أحيت اسم الزهراء في الحقيقة إنّ إحدى بركات الثورة الإسلاميّة هي عودة اسم فاطمة الزهراء إلى الحياة في أوساط المجتمع. لقد أمضينا نحن الجانب الأكبر من شبابنا في مرحلة ما قبل الثورة ولم يكن آنذاك، حتّى في مدينة يزد التي تُصنّف ضمن المدن الدينيّة، ما يسمّى بالعشرة الفاطميّة أو ما شاكلها. إنّ هناك عوامل متعدّدة هي التي أدّت إلى عودة اسم الزهراءإلى الحياة في مجتمعنا على وجه الخصوص الأمر الذي أتحف العالم الإسلاميّ أجمع بعظيم البركات. فمن جملة العوامل التي أعرفها أنا شخصيّاً هي أقوال الإمام الراحل (رضوان الله تعالى عليه) بخصوص السيّدة الزهراءالتي يندر صدور نظيرها من شخص آخر. في الحقيقة لقد كان رحِمَه الله من الأشخاص الذين أحيوا اسم الزهراءفي هذا العصر، الأمر الذي اقترن بما غمر صفوف المجاهدين في ذلك الوقت من انجذاب معنويّ نحو شخصيّة الزهراءوهو ما لا يسعني تفسيره عبر الأسباب العاديّة. وإلى جانب ذلك يكمن عامل آخر أيضاً ألا وهو مبادرة عدد من مراجع الدين العظام في مدينة قمّ إلى إحياء أيّام العشرة الفاطميّة حيث يشاركون بأنفسهم، بل وحفاة الأقدام أحياناً، في مجالس العزاء المقامة بالمناسبة. حتّى آلت الاُمور أخيراً في هذا العام إلى توثيق خطبة الزهراءعلي أنّها سند تاريخيّ وقد أيّدها وأمضاها مراجع الدين على نحو منقطع النظير، ولعلّ هذا هو السبب من وراء اقتراح البعض تقديم بحث حول هذه الخطبة. الوحدة؛ تقوية للملاكات المشتركة يتبادر إلى الذهن هنا سؤال هو: هل إنّ التعريف بأهل البيت(عليهم السلام) وبمواقفهم وتاريخهم يخالف الوحدة يا ترى إذا ما طُرح هذا الموضوع على نحو صحيح وعلميّ وبحثيّ؛ أم على العكس من ذلك، إنّ عامل وحدة الاُمّة الإسلاميّة أساساً هو مسألة الإمامة والولاية؟ على خلفيّة هذا النمط من التساؤلات أحسستنوعاً ما بتكليف شرعيّ يدفعني الي عرض بحث جامع فيما يتعلّق بمسألة «الوحدة والاختلاف» ليتمّ في خضمّ البحث طرح أسئلةٍ يکون الهدف منها هو متابعتها من قبل الأعزّاء من أصحاب البحث والتحقيق علّهم يصلون من خلالها إلى النتيجة المرجوّة. إنّ المعنى الحقيقيّ للوحدة هو أمر بديهيّ لا مجال للإبهام فيه، لكن من أجل أن يتّسم البحث بالجامعيّة نطرح فيما يلي بعض الاحتمالات. إذا كان المراد من إيجاد الوحدة هو أن يكون جميع الناس شيئاً واحداً تماماً، أي أن لا يكون فيهم أيّ تعدّد، فالكلّ يعلم أنّ شيئاً كهذا هو أمر غير ممكن بتاتاً. فالفردان من الإنسان هما موجودان اثنان ولن يكونا موجوداً واحداً على الإطلاق. فمن غير الممكن مطلقاً أن تحصل وحدة حقيقيّة بين جميع أفراد المجتمع. وهناك مسألة طرحها علماء الاجتماع وهي: هل يمكن لمجموعة البشر الذين يشكّلون مجتمعاً واحداً أن تكون لهم وحدة حقيقيّة؛ أي أن تكون لهم هويّة جديدة هي غير هويّة الأفراد؟ وهذا البحث هو ممّا ينبغي طرحه في نطاق فلسفة الاجتماع، لکنّ هذه المسائل ليست محلّ بحثنا حاليّاً. فالوحدة التي هي مدار البحث هنا هي كالتالي: إلى أيّ مدى يتعيّن علينا، نحن الناس الكثيرين الذين نؤلّف مجتمعاً واحداً ولكلّ واحد منّا وجوده المستقلّ، إلى أيّ مدى يتعيّن علينا السعي لجعل ميولنا وحدويّة مع كلّ ما لدينا من اختلافات؟ فالمراد من إيجاد الوحدة هنا ليس هي الوحدة الحقيقيّة الفلسفيّة؛ بل المقصود هو تشخيص الملاكات المشتركة بيننا ثمّ نسعى إلى تقوية تلك الملاكات من جانب، وتقليل وتضعيف العوامل التي من شأنها أن تؤدّي إلى التشتّت والعداوة من جانب آخر. فالمقصود من إيجاد الوحدة هنا هو الوحدة بالمصطلح الاعتباريّ، وليس المراد بها حذف أشكال الكثرة والاختلافات بالكامل. وهذا يشبه ما نصبوا إليه في قضيّة وحدة الحوزة والجامعة، ووحدة الشيعة والسنّة، ووحدة جميع الطوائف التي تتقاسم العيش المشترك في البلاد، وهو أن نشخّص الملاكات المشتركة بين الأطراف ثمّ نحاول أن نجعل تلك الملاكات تحظى باهتمام أكبر، وأن تكون أكثر قوّة، لتتضاءل في ظلّ تقوية تلك الملاكات دواعي الاختلاف وموجباته. فهذا المقدار من مدلول الوحدة معلوم؛ لكنّه تُطرح أحياناً مسائل لا ندري إن كانت الوحدة تقتضي صرف النظر عنها أم إنّ المطلوب هو شيء آخر؟ ومن جملة المسائل المرتبطة ببحثنا والتي كانت تشغل ذهني واهتمامي هي أنّه عندما نتحدّث عن الوحدة بين الشيعة والسنّة فهل يُقصد من ذلك حذف المسائل الخلافيّة بين الشيعة والسنّة من الأساس وأن نركّز البحث على أصل حقّانية الإسلام، والنبوّة، والمعاد بذريعة أنّ طرح المسائل الخلافيّة يورث تفريق القلوب؛ ولذا علينا أن نترك الخوض فيها أساساً؟ هل هذا هو المراد من الوحدة يا ترى؟! أنواع الاختلاف الوحدة في المباحث العقليّة تُطرح في مقابل «الكثرة»؛ أمّا في بحثنا هذا فإنّه يتمّ طرحها في مقابل «الاختلاف». فالوحدة هنا تعني عدم الاختلاف. وعندما ندعوا إلى الوحدة فإنّنا نصبوا في الواقع إلى وضع الخلافات جانباً؛ إذن فلابدّ في الحقيقة أن نقيس مفهوم الوحدة مع مفهوم الاختلاف. وبما أنّ الوحدة في بحثنا هذا تقع في مقابل الاختلاف فدعونا أوّلاً نتعرّض لمناقشة معنى الاختلاف. من الممكن أن يكون هناك موجودان متماثلان تماماً؛ كالأشياء التي تُصنع في المصانع طبق اُصول فنّية معيّنة عادةً. فمن الصعب بمكان أن نميّز أيّ هذين الشيئين هو «أ» وأيّهما «ب»؛ لأنّ هناك «كثرة» لكنّه ليس ثمّة «اختلاف»، إذ أنّ الشيئين متماثلان. إذن فالوحدة هنا لا هي متنافية مع المثليّة ولا هي متعارضة مع الكثرة والتعدّد. أمّا الاختلاف فيعني عدم التماثل، فحينما لا يكون الشيئان متماثلين يُقال إنّهما مختلفان. ولا يعني الاختلاف في هذا الباب القتال والنزاع، بل هو وجود التفاوت والتباين. فهل وجود مثل هذا الاختلاف أمر مذموم؟ وهل وجود الفرق التكوينيّ بين شيئين هو أمر قبيح؟ أو فلنطرح السؤال بصورة اخري: لو لم يكن هناك اختلاف، فهل كان سيوجَد عالَمٌ أصلاً؟ فإن لم تكن هناك اختلافات تكوينيّة فإنّه لن يتمكّن إنسان من العيش ولن يتشكّل مجتمع بشريّ أساساً. وأساس هذا الكون هو هكذا أيضاً؛ فلو لم تكن هناك اختلافات تكوينيّة لم يكن هذا الكون ليتحقّق من الأساس. وإذا لم توجد اختلافات تكوينيّة بين الرجل والمرأة لن يصبح الجيل قابلا للبقاء. ولهذا فإنّ أصل الاختلافات التكوينيّة التي لا صلة لها بأعمالنا واختيارنا هي من لوازم وجود هذا العالم؛ فلو أنّها لم تكن لاُغلق الباب أمام الفيض الإلهيّ. انّ بقاء هذا العالم بكلّ ما يحويه من عناصر الجمال رهن باختلافاته، وهذا هو عين الجمال: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ»1. وتأسيساً على ذلك فإنّ هذا المعنى من الاختلاف ليس هو محطّ بحثنا. هناك لون آخر من الاختلاف بحيث يكون لاختيار الأشخاص في الجملة دور فيه، والنموذج البارز لذلك هو الإفادة من المواهب الطبيعيّة لهذا العالم والتي نتيجتها أن تتمتّع جماعة بالثراء وتُبتلى اُخرى بالفقر. فبقطع النظر عن المسائل القيميّة الاُخرى، هل إنّ نفس هذا الاختلاف في طاقات وقدرات الأشخاص والذي يكون مدعاةً لحصولهم على منافع اختياريّة واكتسابيّة جديدة هو أمر حسن أم سيّئ؟ فإرادة الناس وأفعالهم مؤثّرة أيضاً؛ بيد أنّ منشأ هذه الاختلافات الطبيعيّة هو من الله عزّ وجلّ. فالذي يتمتّع بذكاء أوفر، وطاقة أعظم يكون أكثر قدرة على توظيف قواه البدنيّة، وأشدّ قدرة على الابتكار والإبداع، وهذا كلّه يوفّر أرضيّة خصبة لحصول هذا الإنسان على المزيد من المكاسب المادّية. هذا الأمر بعيد كل البعد عن الجبر قطعاً، لكنّه في الوقت ذاته مأخوذ بنظر الاعتبار في نظام الخلقة وتدبير الكون. فالله جلّت آلاؤه يقول: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَ?ئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَ?تٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَ?كُمْ»2؛ فالله قد جعلكم مختلفين من حيث المواهب التكوينيّة عبر جعل بعضكم أعلى درجة من البعض الآخر كي تتوفّر بيئة لامتحانكم وابتلائكم. فإذا حاز أشخاص على مواهب مادّية أكثر تعلّقت بهم تكاليف خاصّة، الأمر الذي يمهّد لامتحانهم. فهذا العالَم أصلاً مبنيّ على جعل مختلف الناس في معرض امتحانات شتّى ليختاروا مسيرتهم بأنفسهم ويُعلم مدى طاعتهم لربّهم. فإنّ ما أعطاه الباري عزّ وجلّ لنا هو موهبة ذاتيّة. فهذه الاختلافات الموهوبة من قبل الله ستشكّل أرضيّة لحصول أفراد المجتمع على فرص متفاوتة تقتضي تكاليف مختلفة وهذا بدوره يعني أرضيّات للامتحان. فهذا هو لون من ألوان الاختلاف. فهل الاختلاف من هذا القبيل هو حسن أم قبيح؟ فلو لم توجَد مثل هذه الأرضيّات لما تحقّقت تلك الامتحانات وإنّ عدم تحقّق الامتحانات يتسبّب في عدم التكامل، وفي هذه الحالة لا يتحقّق الغرض من الخلقة. إنّ الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان أساساً من أجل أن يختار مسيرة حياته بنفسه ويبلغ ذلك الكمال الذي جعله الله جلّ وعلا في ظلّ عبوديّته وطاعته. فلو لم تكن هذه الاختبارات، لم يكن بالإمكان العثور على تلك الكمالات. فاختيار الإنسان هو في الجملة مؤثّر في ظهور هذه الاختلافات التي تشكّل بدورها جزءاً من عناصر جمال الخلقة وهي مأخوذة بالحسبان في أصل الهدف منها ولابدّ من وجودها. وهناك أيضاً نوع آخر من الاختلافات التي يكون سهم اختيار الإنسان فيها أوفر. وهذا النوع يرتبط بالهدف النهائيّ للخلقة ألا وهو مسألة العبادة والطاعة لله تعالى. وهنا بالتحديد تُطرح قضيّة الدين. وهذه الاختلافات لا تكون تكوينيّة وجبريّة؛ بمعنى أنّ القضيّة ليست هي أنّ المرء ابتداءً يأتي إلى الدنيا حاملاً ديناً معيّناً بشكل جبريّ. فاختيار الدين والطريقة تتعّلق بالأشخاص أنفسهم حيث تؤثّر على ذلك عوامل عديدة وتوجد لذلك صيغ معقّدة للغاية. وقصدنا من الدين هنا هو تلك السلسلة من المعتقدات التي تُطرح تبعاً لها مجموعة من القيم وتؤدّي الأخيرة إلى أعمال وسلوكيّات معيّنة؛ فالمراد من الدين هو مجموعة المعتقدات والقيم، والسلوكيّات الناتجة عنها. فعندما تُطرح مسألة انتخاب العقيدة، والقيم، والأحكام والعمل بالأحكام تتفاقم الاختلافات إلى حدّ كبير ويتّسع نطاقها يوماً بعد آخر. ففي الدول الغربيّة قد لا يمضي يوم من دون أن تنشأ فرقة دينيّة جديدة. ففي كلّ عام عادةً تظهر للوجود في الغرب، ولاسيّما في أمريكا، المئات من الفرق الدينيّة! وهنا تأتي قضيّة المؤاخَذة والتكاليف الشرعيّة أيضاً. يقول القرآن المجيد: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَ?بَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ»3؛ فقد كان الناس اُمّة واحدة يتمتّعون باقتضاءات واحدة من الناحية الفطريّة؛ لكنّه حصل الاختلاف فيما بينهم. وهذه الاختلافات أدّت شيئاً فشيئاً وبعيداً عن المسائل العقائديّة إلى طرح قضايا قيميّة؛ ذلك أنّ بعض الناس يحاولون انطلاقاً من دوافع وأغراض شخصيّة الحصول على منافع أكثر من غيرهم والاعتداء على الآخرين. وهنا تظهر مدى أهميّة مسائل العدل، والظلم، والقانون، وما إلى ذلك. لكنّ نفس اُولئك الأشخاص الذين يريدون سنّ القانون لا تخلوا نفوسهم من دوافع الاختلاف أيضاً، الأمر الذي يؤدّي إلى انعكاس تلك الدوافع على قوانينهم. لذا فإنّه من غير الممكن لأحد وضع قانون حقيقيّ إلاّ أن يكون منزّهاً عن دوافع الاختلاف وغير محتاج لها أساساً. وهنا تأتي قضيّة: «فبعث الله النبيّين...»؛ فالله هو الذي يبعث النبيّين في سبيل رفع تلك الاختلافات. وحيث إنّ ابن آدم هو موجود عجيب فإنّه يزرع الاختلاف في نفس العوامل التي من شأنها ان تمحو الاختلافات. فالله عزّ وجلّ قد بعث النبيّين وأرسل معهم الكتب السماويّة من أجل إزالة ما وقع بين الناس من اختلافات؛ أي إنّه فعل ذلك كي يرضخ الجميع للقانون، و حينئذ ينفّذون ما هو حقّ ولا يظلم بعضهم بعضاً لينعموا بحياة هانئة سعيدة؛ لكنّ هذا الإنسان الناكر للجميل يأتي ليزرع الاختلاف في نفس الدين: «وما اختلف فيه إلّا الذين اُوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم». إنّ تأكيد الآية الشريفة ينصبّ علي الاختلاف الذي يأتي عن بغي واعتداء وعصيان وظلم. «فالبغي» هنا هو في مقابل الحقّ؛ أي: الأشخاص الذين أحدثوا الاختلاف في الدين عن غير حقّ. هؤلاء الأشخاص يزرعون الاختلاف في الدين عن طُرق شتّى. فمنها أن يقول أحدهم: إنّ قصد الله هو هذا، ويقول الآخر: لا إنّ قصده هو ذاك! بل إنّ الأمر قد بلغ إلى أن ينسبوا إلى الله ما اختلقته أيديهم: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَ?بَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَ?ذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ»4. فإنّ ما أحدثوه في كتاب الله من هذه التحريفات هو أكثر شيوعاً من غيره، و هذا هو التحريف المعنويّ؛ بمعنى أنّهم حرّفوا مقصود آيات الله. وهذا الأمر هو ما يلقى اليوم رواجاً تحت شعار تعدّد القراءات. وهذا هو من فنون إبليس الذي ربّى التلاميذ من قبيل هؤلاء و هم الذين بحثوا عمّا أراده الله عزّ وجلّ سبباً للوحدة، وسبيلاً لبلوغ الحقّ، ومدعاةً لنيل السعادة، ثمّ جعلوا منه وسيلة وأداة لبثّ الاختلاف، ونشر الضغينة، وإشعال النزاعات، والتسبّب بالشقاء في الدنيا والآخرة: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى? عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَ?تِهِ»5؛ فأيّ عمل أشنع من هذا؟ ففي مرحلة ما قبل نزول الدين والكتاب كان في أيديهم العذر، فقد كان بإمكانهم القول نحن لا نميّز بين الحقّ و الباطل، وما هو الأمر الذي يُرضي الله؛ لكن بعدما أنزل الله الكتاب وبعث الأنبياء، وقام الأنبياء بهداية البشر، فلماذا أحدثوا الاختلاف في نفس وسيلة الوحدة تلك؟! فهذا هو أسوأ ألوان الاختلاف التي ظهرت على وجه البسيطة. أمّا المرتبة الأدنى من تلك فهي أن يقبلوا بالدين و ان يكونوا فعلاً على استعداد لأن يعلنوا عن الحقّ في مقام الإفتاء؛ لكنّهم لا يراعونه في مقام العمل. فعندما يأتي الدور إلى العمل يتدخّل الهوى فلا يسمح للإنسان أن يعمل بما يعلم. فهذه جملة من الاختلافات التي تظهر في المجتمع البشريّ. توصية القرآن؛ الوحدة حول محور الحقّ الآن، وبالالتفات إلى الاختلافات المشار إليها، ما الذي ينبغي فعله؟ انّ الطريق الوحيد الذي يضعه القرآن الكريم نصب أعيننا هو الوحدة على أساس الحقّ. فالقرآن يدعوا اُولئك المتصدّين لإصلاح المجتمع، والذين يشفقون على حالهم وحال الآخرين على السواء، وينتابهم الهمّ لکسب دنياهم وآخرتهم معاً، ويكابدون المعاناة لما يشاهدونه من المفاسد ويريدون السعي لمواجهتها، نقول القرآن يدعوا هؤلاء إلى الوحدة على أساس الحقّ. فالكثير من الآيات القرآنيّة تصرّح بالقول: إنّ العنوان الرئيسيّ لدين جميع من بعثناهم من الأنبياء هو: «أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ»6؛ أي: أقيموا الدين ولا تحدثوا الاختلاف والفرقة فيه. اعرضوا الدين بمضامين واحدة وشفّافة وقواعد مسلّمة غير قابلة للتشكيك كي لا يكون سبباً للاختلاف بين الناس. فإذا كان هناك دين واحد وسليم كان بإمكانه أن يفصل في اختلافات الناس ويحلّ مشاكلهم؛ لكنّه إذا وجد الاختلاف في الدين ذاته، فأيّ عامل سيبقى لتولّي حفظ الوحدة؟ إنّ الوحدة المطلوبة هي التي تكون على أساس الحقّ وليست أيّ وحدة كانت. فهل من الحَسَن أن يتّحد الناس جميعا على الظلم؟ وهل هذا هو ما دعى إليه الأنبياء فعلاً؟ وهل هذه هي الوحدة التي يقول بها جميع العقلاء يا ترى؟ ألِمجرّد كونها وحدة فانّه لا إشكال إذن على الإطلاق؟! إنّ الوحدةفي الحقيقة هي وسيلة غايتها اتّساع رقعة الحقّ، والإفادة منه أكثر ما تكون الإفادة، وأن لا يقف أحد عقبة أمام الاستفادة من هذه النعمة الإلهيّة التي جعلها الباري تعالى لجميع العباد. فهل يا ترى طُبّقت هذه النصيحة الإلهيّة على أرض الواقع؟ كلّنا يعلم أنّ الاختلافات ظهرت من أوّل لحظة، وفي نهاية المطاف حتّى في الدين الخاتم، الذي هو آخر موهبة إلهيّة إلى الناس، والذي لابدّ له أن يكون المرهم الشافي لكلّ الآلام والجروح الاجتماعيّة للبشر إلى يوم القيامة، حتّى في هذا الدين نشب الاختلاف منذ اليوم الأوّل لوفاة النبيّ الأكرم(صلي الله عليه و آله). فإن أحبّ امرؤ أن يكون وفيّاً لهذا الدين وان يقف أمام تلك الاختلافات، فأيّ سبيل يتحتّم عليه سلوكه؟ لقد برزت هذه الاختلافات عندما أخذت عروق الباطل تنبض في جسد الدين. فلو كان الحقّ محضاً لما حصل الاختلاف. وإن أرادوا إزالة الاختلاف فما عليهم إلاّ قطع عروق الباطل تلك كي يصبح الدين الخالص والذي أنزله الله لجميع البشر واضحاً ومهيمناً؛ فالوحدة لا تكون مطلوبة إلاّ إذا كانت على أساس الحقّ. لذا يتعيّن علينا أن نسعى لتبيين الحقّ ووضعه بين أيدي الناس وان نعرّف الناس بعروق الباطل كي لا يُبتلى أحد بها. فهذه هي فكرة عامّة وأساسيّة يجب أوّلاً على الأنبياء انفسهم: «أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه»، وثانياً على أتْباعهم: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَميعاً وَلَا تَفَرَّقُوا»7 أن يكونوا في صدد العمل بها. والمسألة التالية هي أنّه إذا لم يحصل ذلك ونشب الاختلاف فما الذي ينبغي فعله؟ سوف نطرح هذا الموضوع في المحاضرة التالية بمشيئة الله تعالى. وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين -------------------------------------------------------------------------------- 1. سورة السجدة، الآية 7. 2. سورة الأنعام، الآية 165. 3. سورة البقرة، الآية 213. 4. سورة البقرة، الآية 79. 5. سورة الأعراف، الآية 37. 6. سورة الشورى، الآية 13. 7. سورة آل عمران، الآية 103. للشيخ اليزدي يتبع |
شرح الخطبة الفدكية / فدك ذريعة لبيان الحقائق ( المحاضرة الرابعة )للشيخ اليزدي دام ظله العالي
بسم الله الرحمـٰن الرحيم هذا الذي بين أيديكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آية الله مصباح اليزديّ (دامت بركاته) ألقاها في مكتب سماحة وليّ أمر المسلمين بتاريخ 16 آب 2010م الموافق لليلة السادسة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزيد توجيهات سماحته من بصيرتنا وتكون نبراساً ينير لنا درب هدايتنا وسعادتنا. فدك؛ ذريعة لبيان الحقائق قصّة فدك بتوفيق من الله تعالى نستهلّ البحث حول الخطبة المعروفة للسيّدة الزهراء (سلام الله عليها)؛ وبمناسبة تسمية هذه الخطبة بالخطبة الفدكيّة فإنّه من المناسب أن نقدّم بادئ ذي بدء شرحاً موجزاً عن قصّة «فدك»، إذ أنّ أغلب شباننا ليس لديهم الاطّلاع الكافي على هذه القضيّة. فدك هي اسم بلدة تقع إلى الشمال من المدينة المنوّرة قرب حصون خيبر وتفصلها عن المدينة حوالي مائة كيلومتر. سكّان هذه البلدة وتلك الحصون كانوا طوائف من اليهود. وفيما يتعلّق بنزوح اليهود إلى أرض الحجاز وتوطّنهم في المدينة فهذا يعود إلى قرون قبل ظهور الإسلام. لقد سمع علماء اليهود من أنبيائهم (سلام الله عليهم أجمعين) وقرأوا في كتبهم أنّه سيُبعث في آخر الزمان نبيّ يصدّق مَن سبقه من الأنبياء، وسينتشر دينه في العالم بأسره. فهاجر اليهود إلى أرض الحجاز على أمل إدراك نبيّ آخر الزمان والإيمان به، وتوطّنوا في أطراف المدينة؛ إذ كانوا يعلمون أنّ عاصمة ذلك النبيّ الموعود ستكون المدينة. كان اليهود في ضواحي المدينة يشكّلون ثلاث طوائف (وهم بنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو النضير) وكانوا يمتازون بخصوصيّات أوّلها أنّهم كانوا حالهم حال غيرهم من اليهودـ شديدي الشغف بالمال ويتمتّعون بعقليّة اقتصاديّة. وثانيها التفکر للمستقبل البعيد والتأمل في العواقب. فعندما جاءوا المدينة سعوا إلى تشخيص الأراضي التي تتمتّع بالخصوبة والأماكن الاستراتيجيّة وبناء القلاع الحصينة. أمّا ميزتهم الثالثة فهي أنّهم كانوا أهل علم ومعرفة ويمتازون بحضارة تفوق حضارة عرب الجزيرة. وقد نال اليهود بما يمتلكونه من خصوصيّات مكانة مرموقة بين العرب. وبعد هجرة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) إلى المدينة ونجاحه عمليّاً في تأسيس الدولة الإسلاميّة، وقّع النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) مع مختلف طوائف اليهود معاهدة تقضي بعدم تعرّض اليهود للمسلمين أو مدّ يد العون لأعدائهم؛ لكنّ أيّاً من تلك الطوائف لم تف بعهدها وراح اليهود يبنون علاقات سرّية مع مشركي مكّة من جانب، وفيما بعد مع منافقي المدينة من جانب آخر بل وتآمروا في التخطيط لشنّ حرب على نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله). وقد عاهدهم المنافقون بأنّكم إن اجتحتم المدينة فإنّنا سنكون ظهيراً لكم لأنّ عددنا يقترب من الألفين. يشير الباري تعالى إلى هدف المنافقين هذا في سورة «المنافقون» في قوله: «يَقُولُونَ لَئِنْ رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ»1؛ فهم يزعمون بأنّهم أعزّاء، والمسلمون ليسوا إلاّ مشرّدين من مكّة أذلاّء وإنّنا سوف نطردهم من المدينة. وحينما وصل خبرهم هذا إلى مسامع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تجهّز لقتالهم فنشبت في نهاية المطاف حروب كانت إحداها واقعة خيبر. في هذه الواقعة تمّ فتح حصون خيبر، التي كانت من أهمّ حصون اليهود الاستراتيجيّة: «وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ»2، على يد أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) المقتدرة. فبلغ خبر فتح خيبر أهالي فدك، ومن أجل حقن دمائهم ووقاية أنفسهم ممّا نزل بأهل خيبر من البلاء اقترحوا على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الصلح، وعرض كبراء فدك على النبيّ إعطاءه أراضيهم وأموالهم في مقابل تركهم أحياء. فقبِل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بعرضهم وقام كلّ واحد منهم فأخذ لنفسه من أمواله بمقدار بعير وسلّم الباقي للنبيّ (صلّى الله عليه وآله). يشير القرآن الكريم في أوّل سورة الحشر إلى تلك القصّة بالقول: «وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلـٰكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»3؛ ومضمون هذه الآية هو أنّ هذه الأرض التي استوليتَ عليها من دون استخدام قوّة عسكريّة والتي وهبها أهاليها بأنفسهم للنبي (صلّى الله عليه وآله)، تختلف عن أموال الغنائم التي يحصل عليها المسلمون في الحرب. ففي العادة عندما ينتصر جند الإسلام في الحرب على الكفّار ويحصلون على الغنائم فإنّ خمس تلك الغنائم يكون من حصّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ»4. أمّا الأموال التي تقدَّم خصيصاً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) فهي كلّها تعود له. هناك في الفقه بحث حول أقسام أموال غنائم الحرب. فواحد من تلك الأقسام هو ذلك الذي تشير إليه الآية السادسة من سورة الحشر حيث تقول: «ما أعطا الله من أموالهم لرسوله ممّا لم تستخدموا في الحصول عليه لا خيلاً ولا جمالاً». فليس سوى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من له صلاحيّة التصرّف في تلك الأموال وما من أحد غيره على الإطلاق له حقّ فيها. فأهالي فدك هم الذين سلّموا أراضيهم للنبيّ كي يحقنوا دماءهم. وطبقاً لما تنقله بعض الروايات فإنّه عندما أصبحت تلك الأراضي ملكاً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) نزلت هذه الآية: «وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ»5؛ فصحيح أنّك حرّ في التصرّف في تلك الأموال كيف تشاء؛ لكنّه «لذوي القربى» حقّ فيها. أي لقد صدر الأمر في الحقيقة بأنّه: صحيح أنّ لك كامل الحرّية في التصرّف في تلك الأموال، لكن عليك أن تعطي هذا القسم من الأراضي لذوي القربى. وقد جاء في الخبر أنّ المراد من «ذا القربى» هو فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)6. وتنفيذاً للأمر الوارد في الآية الشريفة فقد قام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) باعطاء فدك للزهراء (عليها السلام) وعيّن في حياته متولّياً عليها ليدير شؤونها. فكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يأخذ من ريعها ما يعادل قوته وقوت الزهراء لسنة ثمّ يوزّع الباقي بين الفقراء بعنوان هدية فاطمة الزهراء (سلام الله عليها). وما دام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على قيد الحياة كانت الاُمور تجري على هذا المنوال. لكن بعدما رحل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الي ربّه وفي غضون بضعة أيّام لا غير جرت على الأمّة الإسلاميّة من التحوّلات العظيمة ما يصعب تصديقه للغاية. كلّ تلك القصص التي نسمعها كلّ يوم وكلّ ليلة فتُدمَى لها قلوبنا كانت قد جرت أحداثها في تلك الأيّام القلائل. فبعد عشرة أيّام من وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أخرج خليفة ذلك الزمان وكيلَ الزهراء (سلام الله عليها) من فدك وعيّن غيره مكانه، فصادر بذلك ريع تلك الأراضي الذي قيل إنّه كان يصل حتّى إلى 120 ألف دينار، محتجّاً بأنّ تلك الأموال كانت توزَّع في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على الفقراء؛ ونحن أيضاً نأخذها ونوزّعها على الفقراء، والحال أنّ فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) كانت تنفق على الفقراء من ملكها الخاصّ ولم يكن المال متعلّقاً بالدولة. ولم تمض على تلك الأحداث غير شهرين وبضعة أيّام حتّى رحلت الزهراء (سلام الله عليها) عن هذه الدنيا. في هذه الفترة بالتحديد كان للزهراء (عليها السلام) بضع خطب وحوارات كانت إحداها هذه الخطبة المشهورة التي تُعدّ من مفاخر الإسلام ومن الوثائق التي يظلّ صداها يدوّي إلى يوم القيامة معلنة عن حقّانية الإسلام، والتشيّع، وأهل بيت الرسول (صلّى الله عليه وآله). ومن حُسن الحظّ أنّ هذه الخطبة بقيت، بهمم الشيعة، محفوظة إلى يوم الناس هذا بل وثُبّتت أيضاً حتّى في كتب المخالفين. ما نصنع بفدك؟! يتصوّر البعض أنّ الذي آلم الزهراء (عليها السلام) إلى أبعد الحدود كان غصبهم لأموالها! بل ويُذكَر في بعض المراثي أحياناً أنّها (سلام الله عليها) قالت: «لقد سلبتم قوت عيالي!». فإن قلنا إنّ هذا الكلام هو من أعظم ألوان الظلم الذي مارسناه نحن الشيعة في حقّ أهل البيت (عليهم السلام) لم نكن قد بالغنا. فكيف يمكن لمَن لا تساوي كنوز الدنيا كلّها في أعينهم أكثر من كومة رماد أن يغتمّوا لفقد مال دنيويّ؟! فهذا أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) يقول في نهج البلاغة: «وما أصنع بفدك وغير فدك»7؟! أيكون حقيقةًـ كلّ ذلك البكاء، والأنين، والتظلّم من أجل مال الدنيا؟! إنّ تصوّراً كهذا لا يعدوا كونه تصوّراً ساذجاً في غير محلّه، وليس هو من العقل في شيء. فحقيقة الأمر أنّ هذه المسألة كانت ذريعة اتّخذتها سيّدتنا الزهراء (سلام الله عليها) لتعلن عن حقائق أرادت لها أن تظلّ على درجة كبيرة من الوضوح والجلاء إلى يوم القيامة فلا يتمكّن أحد من إخفائها والتستّر عليها. لم يكن من أحد، بما فيهم شخص أمير المؤمنين (عليه السلام)، باستطاعته أن يبيّن تلك الحقائق بمثل تلك الصراحة غير السيّدة الزهراء (سلام الله عليها)! فأمير المؤمنين (عليه السلام) كان هو نفسه طرفاً في النزاع مع الخلفاء على قضيّة خلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ ومن أجل ذلك فإنّه ما كان يتفوّه بكلمة حتّى يقولوا له: «إنّك تريد الكلام لمصلحتك!». لكنّ فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) كانت قد أعلنت عن تلك الحقائق باُسلوب لا يجرؤ أحد اليوم على التكلّم عن هؤلاء الأشخاص بمثله. في تلك الظروف كان هذا العمل الوحيد الذي تستطيع الزهراء (سلام الله عليها) القيام به وبالإفادة من فرصة الأيّام القليلة تلك كانت (عليها السلام) قد أسدت إلى الإسلام خدمة تعادل خدمة أعوام وقرون متمادية. ذريعة لبيان الحقائق فيما يخصّ اُسلوب الحوار الذي جرى بين السيّدة الزهراء (عليها السلام) من جانب وخليفة ذلك الزمن والمتصدّين لقضيّة الخلافة من جانب آخر هناك نقاط تقع أحياناً محطّ غفلة أو قلّة إنصاف، كما ويطرحها البعض أيضاً بعنوان الشبهة، وهي أنّ هذه المزرعة في الواقع كانت قد وُهبت من قبل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) خصّيصاً للزهراء (سلام الله عليها)؛ لكنّ مسألة الإرث قد اُقحمت في القضيّة بعد ذلك حيث طالبته الزهراء (عليها السلام) بإرث أبيها، فبادرها بالجواب قائلاً: إنّ النبيّ قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث!». هذا الحديث الذي نقله الخليفة لفاطمة (سلام الله عليها) هو من الموارد التي يؤخذ فيها بعض الكلام ويُسكَت عن البعض الآخر الذي يتضمّن القرينة، ممّا يؤدّي إلى الالتباس في فهم المعنى. نحن أيضاً لدينا روايات تحمل هذا المضمون نقلها أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث درهماً ولا ديناراً» أو أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال بنفسه في مقام الحثّ على طلب العلم: «إنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمَن أخذ منه أخذ بحظّ وافر»8؛ والغاية منه هو أنّ عليكم أن تقدروا العلم حقّ قدره فهو ميراث الأنبياء. لكن هناك فرقاً بين: ما الذي تركه الأنبياء للناس من ميراث، وبين: ما الذي تركه الأنبياء من أموالهم كإرث لوارثيهم. فأحياناً ننظر إلى الأنبياء «بما هم أنبياء»، أو كما يُصطلح عليهـ من زاوية شخصيّاتهم الحقوقيّة، ففي هذه الحالة يتمّ طرح الأنبياء في مقابل الاُمّة. هاهنا يمكننا التساؤل: ما الذي تركه النبيّ للاُمّة من إرث؟ حيث يكون الجواب: إنّ النبيّ لا يورّث اُمّته مالاً؛ بل يورّثها العلم، والمعرفة، والدين. لكنّه عندما يُطرح شخص النبيّ بما هو محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله)، فحينئذ يكون السؤال: ما الذي تركه لامرأته وأولاده من الإرث؟ فهاتان مسألتان منفصلتان. فالنبيّ بما هو نبيّ لا يترك لاُمّته مالاً، وهذا صحيح؛ لكنّ ذلك لا يتنافى مع كونه فرداً من أفراد الاُمّة ومتّبعاً لأحكام الإسلام. فنبيّ الإسلام، من حيث إنّ عليه العمل بأحكام الإسلام وله حقوق أيضاً طبقاً للضوابط الإسلاميّة، فهو كسائر المسلمين. فيجب عليه حاله حال باقي المسلمينـ أن يصلّي، ويصوم، ويراعي حلال الله وحرامه، وإنّ قاعدة «أَوْفُوا بِالعُقُودِ»9 تشمله أيضاً، وعليه أن يتّصف بالوفاء في المعاملة، و... الخ. وهناك في القرآن الكريم آيات صريحة حول توريث الأنبياء (عليهم السلام) لأبناءهم؛ كما في قوله: «وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ»10، وكما في دعاء النبيّ زكريّا (عليه السلام) لله أن يرزقه ولداً من أجل أن يرثه: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ»11. ولا يُراد من هذه الآيات أنّهم تركوا ميراثاً لأنّهم رسل وأنبياء؛ بل المقصود منها أنّه بما أنّهم مسلمون ومنصاعون لأحكام الله تعالى فإنّهم يرثون موَرِّثيهم، ويورّثون وارثيهم. ولا اُريد من هذا الكلام إلاّ التنويه إلى هذه النقطة وهي أنّ تقطيع الكلام يبعث أحياناً على تغيير معناه الأمر الذي يؤدّي إلى عدم فهم القصد الأساسيّ منه. تدبيرٌ منقطع النظير قبل الولوج في البحث لابدّ من الالتفات إلى هذه النقاط وهي أنّ نزاع السيّدة فاطمة (سلام الله عليها) مع المدّعين لخلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يكن نزاعاً على المال والإرث. فلم يَعدُ الأمر ذريعة لقول بعض الحقائق وتثبيتها في صفحات التاريخ، كما أنّ سلوك السيّدة الزهراء (عليها السلام) بعد تلك الأحداث كان بكيفيّة من شأنها أن تؤمّن هذا الهدف المرجوّ. وعليّ أن أقول هنا أيضاً إنّ وصيّة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) القاضية بعدم رضاها بحضور هؤلاء في جنازتها الشريفة لم تكن من دافع الحقد والضغينة، والعياذ بالله؛ بل لقد كانت هذه الخطوة من أعظم السياسات التي خطّت بخطّ البطلان على مزاعمهم. فلقد أرادت (عليها السلام) أن تثبّت منتهى حنقها وغضبها عليهم كي يكونوا المصداق الأجلى لحديث النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله): «إنّ الله عزّ وجلّ يغضب بغضب فاطمة»12. فالغاية من دفن جسدها الشريف سرّاً وعدم الإذن للأغيار بالمشاركة في تشييع جنازتها كانت من أجل أن تُثبّت هذه الحقيقة في التاريخ وليعلم الجميع أنّها لم ترضَ عن هؤلاء قطّ. هذه المسألة لم تكن على خلفيّة الحقد والضغينة؛ فأصحاب هذا البيت الطاهر كانوا على جانب من الرأفة والرحمة بحيث إنّهم لو شعروا ببصيص أمل، مهما كان ضئيلاً، بإمكانيّة هداية ألدّ وأعتى أعدائهم، ما كانوا ليألوا جهداً في هدايتهم؛ لكن لو لم تفعل السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) ما فعلت لما انجلت الغبرة، ولما انكشفت الحقيقة، ولما ذقنا أنا وأنتم اليوم طعم الإسلام والتشيّع. فبفضل تدبير السيّدة فاطمة (سلام الله عليها) هذا عرف الملايين من البشر حقيقة الإسلام. إنّني لأقطع وأجزم على أنّه لو كان ثمّة بصيص أمل في هداية هؤلاء وتوبتهم عبر المشاركة في جنازة الزهراء (عليها السلام) لأصرّت (سلام الله عليها) إصراراً بليغاً على مشاركتهم؛ لكنّها كانت على علم بأنّ الذين خالفوا أمير المؤمنين (عليه السلام) علناً لن يكونوا على استعداد لقبول الحقّ مهما كان الثمن. ولهذا فقد أسّست (عليها السلام) لهذا التدبير بُغية أن تَفهَم الأجيال القادمة بأنّه قد تولّد في الاُمّة الإسلاميّة تيّار راح يسير على عكس المسيرة الحقيقيّة للإسلام وخلافاً لمقاصد النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله) وتوجيهاته، كي يتمكّن البشر من معرفة الحقّ إذا رغبوا في اتّباعه. اللهمّ لا تحرمنا شفاعة الزهراء (عليها السلام). -------------------------------------------------------------------------------- 1. سورة «المنافقون»، الآية 8 . 2. سورة الحشر، الآية 2. 3. سورة الحشر، الآية 6. 4. سورة الأنفال، الآية 41. 5. سورة الإسراء، الآية 26. 6. بحار الأنوار، ج48، ص157. 7. نهج البلاغة، الرسالة 45. 8. بحار الأنوار، ج1، ص164. 9. سورة المائدة، الآية 1. 10. سورة النمل، الآية 16. 11. سورة مريم، الآية 6. 12. عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج2، ص26. |
شرح الخطبة الفدكية"/الوحدة حول محور الحقّ(المحاضرة الثالثة)
بسم الله الرحمـ?ن الرحيم هذا الذي بين أيديكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آية الله مصباح اليزديّ (دامت بركاته) ألقاها في مكتب سماحة وليّ أمر المسلمين بتاريخ 15 آب 2010م الموافق لليلة الخامسة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ه، نقدّمها من أجل أن تزيد توجيهات سماحته من بصيرتنا وتكون نبراساً ينير لنا درب هدايتنا وسعادتنا. الوحدة حول محور الحقّ تقوية الحقّ هو هدفنا من الوحدة لقد طرحنا في المحاضرتين الماضيتين مباحث حول الوحدة والاتّحاد، قلنا فيها إنّ قيمة الوحدة منوطة بقيمة الهدف الذي اوجدت من أجله. فإن كان هدف الوحدة هو تحقّق حقٍّ ما فسيكون لحفظ هذه الوحدة من القيمة بمقدار ما لذلك الحقّ منها، وعلى العكس؛ فإن اُنجزت الوحدة في سبيل إبطال حقّ أو تحقّق باطل، فلن تكون عديمة القيمة فحسب، بل سيكون لها من القيمة السلبيّة ما يعادل القيمة السلبيّة لذلك الباطل. الملاحظة الاُخرى التي تستحقّ الاهتمام هنا هي أنّ الاتّحاد والانسجام إنّما يتيسّران على صعيد السلوك، وإلاّ فمن غير الممكن أن نؤسّس مبنانا على اتّباع الغير فيما يتعلّق بالفكر والعقيدة والإيمان؛ بالضبط كما أنّه لا معنى للإكراه في الدين، سواء كان حقّا أم باطلاً. وإذا اتّفق أن حصل الإكراه فإنّه سيكون على إنجاز عمل أو تركه؛ فغاية ما يستطيع المُكرِه فعله هو منع المقابل من العمل بما يعتقد به، أو إكراهه على القيام بما يخالف مقتضى اعتقاده. فقصّة ياسر وسميّة وعمّار هي أنّهم قد اُكرهوا من قبل المشركين على التبرّي من الإسلام؛ لكنّه لم يتمكّن المشرکون من سلبهم ما يعتقدون به. فياسر وسميّة قد صمدا وقاوما ولم يبديا استعداداً لإظهار البراءة من الإسلام، فعمد المشركون بدورهم إلى قتلهم. أمّا عمّار فقد أظهر البراءة باللسان فأنقذ حياته؛ لكنّه كان في غاية الاضطراب من أنّ فعله هل كان صحيحاً أم لا. وقد أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو في حالة الاضطراب تلك فقال له: «أخشى أن أكون قد هلكت»، وروى للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) ما جرى، فنزلت الآية الكريمة: «مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ»1. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما مضمونه: «حسناً فعلت؛ فقد عملت بالتقيّة وأنقذت حياتك من دون أن يطرأ على إيمانك أيّ شكّ أو اضطراب». فلا يمكن تغيير العقيدة القلبيّة من أجل الآخرين أو في سبيل حفظ الوحدة، فهذا أمر مستحيل. فالعقيدة والإيمان يتبعان مبادئ خاصّة؛ إن وُجدت تلك المبادئ وُجد الإيمان، وإن فُقِدت فُقِد. إنّ ما يدور حوله موضوع بحثنا هو الانسجام في «السلوك» من أجل حفظ الوحدة والاتّحاد. فالسلوك والتصرّف إنّما يقعان موضوعاً للتقيّة والائتلاف العمليّ. فمن الممكن أن يكون هذا الائتلاف صحيحاً في مواطن معيّنة إذا كانت الغاية منه تحقيق هدف سام وقيّم. توجد في الإسلام سلسلة من الأحكام تتْبَع عناوين خاصّة يُطلق عليها في الفقه «العناوين الثانويّة»، حيث تسمّى الأحكام التي يتمّ إثباتها تبعاً لها ب«الأحكام الثانويّة». لقد وردت أغلب تلك العناوين في النصوص القرآنيّة والروائيّة؛ وكمثال على ذلك الاضطرار؛ كما في قوله تعالى: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ»2؛ أي إنّ الذي يدفعه الاضطرار إلى تناول الطعام الحرام من دون أن يكون ظالماً أو معتدياً فإنّه لا إثم عليه؛ بمعنى أنّ الحكم الأوّلي قد رُفع بواسطة الاضطرار. وهذا هو ما يُطلق عليه بالحكم الثانويّ. ويقول عزّ من قائل في آية اُخرى: «لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـ?فِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَ?لِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـ?ةً»3؛ فالله عزّ وجلّ لا يُجيز أن تكون لكم مع الكفّار علاقات ودّية، اللهمّ إلاّ أن تحذروهم وتتّقوهم. فالتقاة هنا بمعنى التقيّة. وإنّ التقوى, والتقيّة، والتقاة هي كلّها اسم مصدر من الفعل «اتّقى» وهي تشترك في معنى واحد. وهذا أيضاً هو عنوان ثانويّ وله حكم ثانويّ. جاء في مبانينا الفقهيّة أنّ التقيّة تكون ضروريّة أحياناً حتّى بين المسلمين أنفسهم. فقصّة عمّار كانت تقيّة مع المشركين؛ لكنّ أحاديثنا تخبرنا بأنّ هذا النمط من التقيّة جارٍ حتّى بين المسلمين أنفسهم، وهو عندما يختلف المسلمون فيما بينهم ويشتدّ هذا الخلاف إلى درجة أنّ المسلم إذا لم يتّبع المسلم الآخر في العمل فإنّ حياته تصبح عرضة للخطر. فموضوع ما رُوي عن جميع المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) من أنّ: «التقيّة ديني ودين آبائي»4 هو هذا بالتحديد. فحقيقة هذه المسألة هي أنّ أمر الإنسان يدور بين أن يأتي بفريضة كما يأتي بها أفراد فرقة معيّنة؛ كأن يصلّي متكتّفاً ويحافظ على حياته، وبين أن يأتي بها طبقاً للحكم الأوّلي ويعرّض حياته للخطر. في مثل هذه المسائل تتزاحم مصلحة العناوين الثانويّة مع مصلحة الحكم الأوّلي فيأتي الشارع المقدّس ليعتبر أنّ تلك المصلحة المانعة من العمل بالحكم الأوّلي أهمّ؛ ومن هذا المنطلق يقول: عليك أن تغضّ الطرف عن الحكم الأوّلي وتعمل بالحكم الثانويّ. وهذه هي عين التقيّة التي أفتى بها جميع الفقهاء والتي نعرفها جميعاً. كما أنّ عندنا لوناً آخر من التقيّة وهو ما أكّد عليه الإمام الراحل (رضوان الله تعالى عليه) بالخصوص وأفتى به فقهاء آخرون أيضاً وهي «التقيّة المداراتيّة»؛ وبيانها أنّ حياة المرء أحياناً لا تكون في خطر إذا طبّق دينه حسب ما يمليه عليه مذهبه، لكنّ مصلحة اجتماعيّة إسلاميّة هي التي تصبح في معرض الخطر؛ إذ قد يتفشّى الافتراء، وتسود العداوة، والضغينة، ويحصل التشتّت بين صفوف المسلمين فيستغلّ الأعداء هذا الوضع وتذهب عزّة المجتمع الإسلاميّ ومصالحه أدراج الرياح. لقد بيّن الإمام الراحل (رضوان الله عليه) الكثير من الاستدلالات على هذه المسألة، وتحليلها هو أنّه في هذه القضيّة يقع تزاحم بين مصلحة الحكم الأوّلي ومصلحة اجتماعيّة تتمثّل في حفظ عزّة المسلمين واقتدارهم في مقابل العدوّ. لقد طرح الإمام الخمينيّ (رحمة الله عليه) استدلالات مفادها أنّ الكثير من روايات التقيّة تصبّ في هذا الوادي، وليست جميعها متعلّقة ب«التقيّة الخوفيّة». اتّضح لحدّ الآن أنّ قيمة التقيّة، أي قيمة العمل بالحكم الثانويّ إنّما تستند إلى المصلحة التي ينطوي عليها الحكم الثانويّ؛ وعليه فإن أدّت التقيّة إلى تضييع مصلحة أقوى فهي غير جائزة. يقول الإمام الراحل (رضوان الله تعالى عليه) في هذا الباب: التقيّة بشقّيها الخوفيّ والمداراتيّـ لا تكون مشروعة إلاّ إذا لم تؤدّ إلى تفويت مصلحة أقوى. فقد كان تعبيره في هذا المجال هو: «التقيّة لا تكون في مهامّ الاُمور»؛ وبناءً على ذلك فإذا تعرّضت حياة النبيّ أو الإمام المعصوم للخطر، أو خيف من خطر الهجوم على بيت الله الحرام فلا تجوز التقيّة حينئذ. فحفظ النفس في هذه الحالة سوف يؤدّي إلى تضييع مصلحة أقوى. لقد قال الإمام (رحمة الله عليه) أثناء أحداث مقارعة الطاغوت: «اليوم التقيّة حرام ولو بلغ ما بلغ!» وحكمه هذا كان ينطلق من رؤيته بأنّ الإسلام كان في خطر. فهل قيمة أنفسنا أعظم يا ترى، أم قيمة الإسلام؟! فهو (رحمه الله) كان قد شخّص أنّ الإسلام في خطر، ومن هذا المنطلق قال: «التقيّة حرام ولو بلغ ما بلغ». فإذا كان لابدّ في سبيل حفظ الإسلام أن يُقتل المئات بل الآلاف من البشر فليقتلوا ليبقي الإسلام مصوناً. كلّ ذلك يرجع إلى أنّ نفس التقيّة ليس لها قيمة بحدّ ذاتها، بل قيمة التقيّة ترتبط بتلك النتيجة المترتّبة عليها. فلو قُدّر أن تكون نتيجة التقيّة هي التفريط بشيء هو أعظم من أنفسنا، ووحدتنا, فما قيمة هذه التقيّة حينئذ؟! بطبيعة الحال يجب أن يُعهد بتشخيص مثل هذه الاُمور إلى الفقيه العالم بزمانه والمدرك لظروف المجتمع. فهو الذي يمكنه الحكم بأنّ التقيّة لم تعد جائزة. وعلى أيّ حال فإنّه يوجد في الدين الإسلاميّ شيء من هذا القبيل؛ وهو أن يثبت حكم بعنوان كونه حكماً أوّلياً ثمّ تعرض مصلحة أقوى فيترتّب على الموضوع، من أجل حفظ هذه المصلحة الأهمّ، عنوان ثانويّ يتغيّر الحكم على اساسه. هذه المسألة لها مصاديقها أيضاً في المسائل الاجتماعيّة التي من جملتها التقيّة؛ وتأسيساً على ذلك فإن أدّت التقيّة إلى فناء أصل التشيّع وطوى النسيان حقيقة التشيّع، شيئاً فشيئاً، بسبب امتناعنا نحن عن الدفاع عن معارف هذا المذهب، فإنّه لن يعود للتقيّة معنى هنا. فهل أرواحنا أعزّ وأغلى من حقيقة التشيّع يا ترى؟! بالطبع إذا كان هناك خطران، يهدّد أحدهما أصل الإسلام ولا يهدّد الآخر سوى مذهب التشيّع، فعندئذ، لابدّ من غضّ الطرف كاملاً عن مذهب التشيّع وبذل كافّة الجهود من أجل أن يبقى أصل الإسلام والقرآن مصونين؛ لكنّ هذا الفرض يندر جدّاً تحقّقه وليس من المعلوم أنّه هل سيتحقّق يوماً أم لا. إذن فلا يتصورنّ أحد أنّ نفس الوحدة هي قيمة مطلقة وأنّه يتعيّن حفظ الاتّحاد مهما كان الثمن وفي أي بقعة من الأرض. نفهم من ذلك أنّ الوحدة مع اُولئك الذين سلكوا طريق الباطل وهم ينادون الآن بالوحدة من أجل المحافظة على كيانهم وتقوية موقفهم بعد أن خسروا المعركة السياسيّة ويعانون الآن من ضعف شديد، أقول إنّ الوحدة مع هؤلاء لا قيمة لها. فأمثال هؤلاء يقولون: «من أجل الحفاظ على الوحدة عليكم باتّباعنا! فالوحدة هي الأصل، وبما أنّنا لا نتّبعكم، فإنّه يتعيّن عليكم أنتم اتّباعنا في سبيل حفظ الوحدة!». فأيّ قيمة لوحدة كهذه؟ بل يجب أن ننظر إلى ماهيّة الثمرة التي سنجنيها من هذه الوحدة. فهل نتيجتها أنّ الحقّ هو الذي سيسود ويقوى، أم الباطل؟ إذن فقيمة الوحدة والاتّحاد ـ وهمااللذان يعنيان الانسجام على الصعيد العمليّـ تتّخذ طابع الوسيلة؛ بمعنى أنّها تتبَع الهدف المترتّب على تلك الوحدة. فلو كانت النتيجة المترتّبة على هذه الوحدة مضرّة فضلاً عن كونها غير مجدية، فإنّ وحدة كهذه لن تكون غير ذات قيمة فحسب، بل ستكون لها قيمة سلبيّة أيضاً. ومن هنا فإنّ علينا أن ننظر مليّاً أيّ ثمرة ستُجنى من تركنا لأداء تكليفنا ومماشاتنا لسلوكيّات وتصرّفات الآخرين؟ فهل إنّ مصلحة تلك النتيجة هي أقوى، وأقرب إلى الحقّ، وأعزّ للمجتمع الإسلاميّ، أم إنّ الأمر ليس على هذه الشاكلة فبهذه الوحدة سيتلاشى الحقّ تدريجيّاً، فلا يعود الناس يعرفونه، وتزول المُثُل، وتفسد المعتقدات؟ فإنْ أدّت الوحدة إلى تضعيف الحقّ فليس لها قيمة تذكر. التعصّب وعدم مراعاة الأدب ممنوعان الآن إذا تمّ التوصّل إلى نتيجة مفادها أنّ للوحدة مصلحة أقوى، فماذا نصنع؟ في هذه الحالة لابدّ من تغيير بعض سلوكيّاتنا. فما ينبغي الالتفات إليه هنا هو أنّ تصرّفاتنا الاجتماعيّة يجب أن تتّخذ منحى بحيث لا تثير باقي الفرق الإسلاميّة ضدّ التشيّع، ولا تجعلهم ينظرون إلى الشيعة نظرة سيئة، ولا تؤدّي إلى تنامي حقدهم على التشيّع وعدائهم له. فلا يجوز أن يؤدّي سلوكنا إلى تعريض أرواح بعض الشيعة للخطر. لا ينبغي أن نقوم بفعل أو نتفوّه بكلام من شأنه أن يؤجّج مشاعرهم، بل يتعيّن علينا أيضاً إذا لزم الأمرـ أن نعمل وفقاً لفتاواهم في تصرّفاتنا الفقهيّة. يقول الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه) استناداً لبعض الروايات: «إنّ المشاركة في صلوات جماعة المخالفين لنا في المذهب والصلاة في صفوفهم الاُولى هي كالصلاة في المسجد الحرام خلف الإمام المعصوم (عليه السلام)». وهو لم يتطرّق هنا إلى إعادة هذه الصلاة. وهذه هي التقيّة المداراتيّة التي كان الإمام الراحل يؤكّد عليها. وعلى الرغم من أنّ بعض الفقهاء لم يذكروا هذه التقيّة أو لم يعيروها كبير اهتمام، لكنّه (رحمة الله عليه) اهتمّ بهذه القضيّة اهتماماً بالغاً. تعطيل بيان الحقيقة هو أيضاً ممنوع السؤال الآخر الذي يتبادر إلى الذهن في هذا المجال هو أنّه: هل المراد من التقيّة ومنع إثارة مشاعر الآخرين هو أن لا نخوض في بحث علميّ حول هذا الموضوع أيضاً؟ والجواب هو أنّ هذا الأمر غير مقبول لدى العقلاء! أجل، هو مقبول لدى الصهاينة. فقد سنّوا في بضع دول أوروبّية قانوناً يعتبر التشكيك في قضيّة محرقة اليهود (الهولوكوست) جرماً. فإن قال أحدهم إنّه لم يتمّ قتل اليهود جماعيّاً في ألمانيا النازيّة، أو حاول التشكيك في هذه القضيّة فإنّه سيتعرّض للمساءلة والعقوبة؛ ومن هذا المنطلق فإنّه إذا زعم أحد أنّ البحث في مسألة حقّانية الشيعة هو جُرم، فتلك نزعة صهيونيّة ليس غير. فالبحث العلميّ حول أيّ مذهب أو قوميّة ليس ممنوعاً، لأنّ البحث هو فعل العقلاء. فالعاقل هو الذي يسعى إلى معرفة الحقّ والباطل كي يقبل بالحقّ ويرفض الباطل. وبناءً على ما مرّ فنحن نقول: إنّنا على استعداد للبحث والتحقيق في المذاهب السنّية المختلفة، ومتّى ما ثبت أنّ أحد مذاهب أهل السنّة هو حقّ فإنّني شخصيّاً اُعلن في حضوركم وأمام كلّ من يسمعني لاحقاً وأعدكم بأنّني سوف اُغيّر مذهبي وأصير سنّياً. فنحن نتّبع الحقّ؛ فايّ أمر توصّلنا إلى أنّه حقّ فسنحترمه ونقدّسه، ونحن نتوقّع من الآخرين أن يتعاملوا بالمثل. فهلمّوا إلى البحث والتحقيق، فإن وُجدت في مذهبنا اُمور صحيحة مدعومة بأدلّة متقنة فاقبلوا بها؛ حيث إنّه: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى? هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ»5؛ كما أنّه إذا وجد في مذهبكم ما هو صحيح فسنقبل به من جانبنا. فهذا أمر معقول وهو سيجابَه باستحسان العقلاء أينما طُرح. فمثلما أنّ مكتباتنا تزخر بكتبكم، فلتفسحوا أنتم المجال لانتشار كتب الشيعة في البلدان السنّية، لاسيّما في العربيّة السعوديّة، كي يطالعها طلاب الحقّ. فما لم يتمّ إثبات واحد من هذين المذهبين فلنحاول الجلوس معاً على طاولة البحث مع مراعاة الأدب وفي بيئة ملؤها الهدوء والوئام، فهذا نوع من التكتيك. فالكلّ يعلم أنّه لن يقبل أحد برأي غيره من خلال الكلام الفظّ وتبادل الشتائم والكلام البذيء. تأسيساً على هذا، فإنّ في أعناقنا واجبين؛ الواجب الأوّل هو واجب علميّ، فلابدّ لنا من إثبات اُسس التشيّع في جوّ علميّ وبحثيّ؛ وذلك لاعتقادنا بأنّ الإسلام الحقيقيّ يمثّله التشيّع، وأنّ ما قبِل به أهل البيت (عليهم السلام) وطبّقوه عمليّاً هو عين ما قاله وفعله نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله). ونحن نودّ أن ينتفع الآخرون من مائدة الكرم الإلهيّ تلك لئلاّ يُحرَموه فيضلّوا. فلولا التضحيات التي قدّمها علماء الشيعة على مرّ القرون الماضية لم تكن معارف أهل البيت (عليهم السلام) لتصل إلى أيدينا. فلو أنّنا دوّنا تاريخ تلك المساعي لأصبحت موسوعة ضخمة. فقد قاموا بجمع تلك المعارف من الكتب المخطوطة التي عثروا عليها في مكتبات مختلفة حول العالم وحفظوها وقدّموها لنا جاهزة. لقد رُويت في هذا الباب قصص عجيبة. منذ بضع سنوات كانت لي رحلة إلى الهند وقد طرق سمعي هناك قصّة تثير العجب، مفادها أنّ أحد علماء الشيعة كان منهمكاً في تصنيف كتاب، وفي خضمّ بحثه ومن أجل إثبات حقّانية التشيّع وإبطال بعض آراء المخالفين احتاج إلى كتاب نادر لم تكن توجد منه إلاّ نسخة واحدة كانت في مكتبة عالم سنّي. فطلب منه بأدب أن يعيره ذلك الكتاب فلم يقبل. فترك العالم الشيعيّ مدينته قاصداً بلدة العالم السنّي ودخلها على هيئة عامل. ولمّا كان للعالم السنّي منزلة مرموقة بين أهل مدينته وبطانة ضخمة، جاء الشيعيّ قائلاً لهم بتواضع: أنا غريب وليس لي مورد أتكسّب منه قوت يومي، فأذنوا لي بالخدمة عندكم؛ أكنس الدار، وأغسل الأواني، فأحصل على لقمة أسدّ بها رمقي. فترحّموا عليه وقبلوه خادماً في الدار. فخدم في الدار مدّة أحسن ما تكون الخدمة حتّى أحبّه صاحب الدار كثيراً. وبعد مدّة من الزمن طلب من صاحب الدار أن يأذن له باستعمال المكتبة، فأذن له الأخير لشدّة ما تعلّق قلبه به. فأخذ يذهب كلّ يوم في جوف الليل ليستنسخ جزءاً من الكتاب على ضوء شمعة حتّى انتهى من استنساخه بعد أشهر. فذهب إلى صاحب الدار وطلب منه السماح بالسفر إلى وطنه بحجّة الاشتياق إلى الأهل والأحبّة. وفي نهاية المطاف تمكّن من وداعهم بأيّ ثمن وترك تلك البلدة بصحبة الكتاب. وبعد وصوله إلى بلدته كتب رسالة إلى صاحب المكتبة شرح فيها قصّته وطلب منه أن يُبريء على ذلك. وعلى الرغم ممّا انتاب صاحب المكتبة من غضب شديد لكنّه من فرط تعجّبه من علوّ همّة الرجل فقد كتب إليه: إنّك لم تحسن التصرّف في فعل ذلك من دون إذن منّي؛ لكنّني عفوت عنك لما لك من همّة عالية. وهذا اُنموذج بسيط على ما أنجزه علماء الشيعة على مرّ العصور في مجال العمل الثقافيّ كي ننعم أنا وأنتم اليوم بمعرفة السيّدة الزهراء (سلام الله عليها). فلولا تلك الجهود لتخيّلنا أنّ نزاعاً كان قد نشب في صدر الإسلام بين بضعة أشخاص ولا أثر له في الوقت الحاضر. ولولا تلك التضحيات لما كنّا نحن اليوم قد سمعنا باسم الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لولا ذلك لطُمس الحقّ ولأصبح الهدف الأساسيّ من الدين في طيّ النسيان. لهذا فإنّه من غير المبرَّر بتاتاً أن يُترك العمل العلميّ والبحثيّ ويعطّل. أمّا الواجب الثاني فهو التحلّي بالسلوك الرصين، لأنّ الفظاظة، وسوء الأدب، وعدم احترام الطرف المقابل ليست من الصواب في شيء. فهذه التصرّفات من شأنها أن تبعّد الهدف الذي نصبوا إليه أو أن تنقضه. فهذه هي سبيل الشيطان يبيّنها للإنسان فيعتقد الأخير أنّ تصرفاً كهذا هو من منطلق الشجاعة. فهل في الوقت الذي توفّر فيه للشيعة شيء من السلطة وكان الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يعقد دروساً ضخمة حتّى أنّ علماء السنّة كانوا يحضرون دروسه بوفرة، هل يا ترى كان يتعامل معهم بفظاظة وبعدم احترام؟! كيف كان هؤلاء يجدون في أنفسهم الاستعداد لحضور درسه (عليه السلام)؟ علينا نحن أن نتعلّم تلك الأساليب. فعندما تكون هناك حاجة للتقيّة الخوفيّة، يجب أن نعتمدها وعندما تستدعي الضرورة العمل بالتقيّة المداراتيّة، فإنّ علينا العمل وفقاً لها؛ لكنّه ليس لنا، في أيّ حال من الأحوال، أن نغلق باب البحث والتحقيق وينبغي أن نعلّم الآخرين هذه الثقافة. كما أنّ علينا أن نحترم كتبهم أيضاً. لاحظوا تفسير الميزان؛ فكما أنّه ينقل في بحوثه الروائيّة عن الكافي تراه يكتب: في الدرّ المنثور كذا وكذا... ولا يقيم أيّ فرق في النقل وفي الاحترام بين المنقول عنهم. فالعديد من المباحث التي نُفيد منها في إثبات مذهبنا وعقائدنا الفقهيّة ومعتقداتنا الكلاميّة في مقابل المخالفين لنا إنّما نستقيها من مصادرهم. هذه المصادر أكثر ما تفيد في إقناع الطرف المقابل؛ ذلك أنّ مصادرنا لا تتمتّع عندهم باعتبار يذكر؛ ومن هنا فقد حرص المرحوم صاحب «عبقات الأنوار» ومن بعده صاحب «الغدير» علي أن يجمعا المباحث الحقّة من كتب أهل السنّة كي لا تبقى في أيديهم حجّة. علينا نحن أيضاً أن نتعلّم هذه الطريقة ونكرّرها ولا نفعل ما يثير مشاعرهم على نحو يشكّل مانعاً من معرفتهم للحقّ. إنّ من واجبنا أن نحفظ معارف أهل البيت (عليهم السلام) من أجل الأجيال القادمة وكلّ البشر وأن ننشرها ما وسعنا ذلك كي تتعرّف البشريّة على تلك الحقائق. ينبغي لنا أن نزيل العقبات من هذا الطريق وأن لا نشكّل نحن مانعاً في هذا السبيل. فلا ينبغي ان يصدر منّا ما يفقدهم أصل الرغبة في قراءة كتبنا أو الإصغاء إلى كلامنا. فعمل كهذا لا يمتّ إلى العقل بصلة، كما أنّ تعطيل البحث العلميّ ليس هو عملاً عقلائيّاً على الإطلاق. سنتعرّض، بمشيئة الله تعالى، ابتداءً من المحاضرة القادمة إلى البحث حول أفضل مصادر الشيعة وأكثرها مدعاةً للفخر والاعتزاز ألا وهي خطبة السيّدة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، وسنحاول جهدنا الإفادة من مضامين تلك الخطبة العظيمة التي تأتي من حيث الأهمّية بعد الوحي القرآنيّ، والتي تُعدّ من حيث الفصاحة والبلاغة، وإتقان المباحث، واُسلوب الاستدلال، والجدال، والمناظرة مجموعة فريدة لعصارة عقائد مذهب التشيّع. وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين 1. سورة النحل، الآية 106. 2. سورة البقرة، الآية 173. 3. سورة آل عمران، الآية 28. 4. بحار الأنوار، ج2، ص74. 5. سورة سبأ، الآية 24. |
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
هذا الذي بين أيديكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آية الله مصباح اليزديّ (دامت بركاته) ألقاها في مكتب سماحة وليّ أمر المسلمين بتاريخ 14 آب 2010م الموافق لليلة الرابعة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزيد توجيهات سماحته من بصيرتنا وتكون نبراساً ينير لنا درب هدايتنا وسعادتنا. الوحدة والاختلاف خلاصة ما فات قلنا في المحاضرة الفائتة إنّنا سنتعرّض قبل الخوض في بحث خطبة السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) لبحث مقتضب حول «الوحدة والاختلاف». لقد أشرت الی أنّه يُلقَى في الأذهان أحياناً أنّ الوحدة هي قيمة مطلقة وأنّه كلّما كان الناس أشدّ اتّحاداً فيما بينهم من دون أيّ قيد أو شرط فذلك أمر مطلوب؛ لكنّ مثل هذه الأحكام تكون مقيّدة بقيود في الغالب لا يُتطرَّق إليها أثناء الكلام. فهي من القضايا المسلّمة أو الآراء المحمودة، والحال أنّه من أجل استخدامها في البرهان فإنّه يلزم تقييد موضوع مثل هذه القضايا. فحُسن الصدق وقبح الكذب هما من هذا القبيل؛ إذ ليست القضيّة أنّه يمكن القول مطلقاً: «إنّ كلّ صدق فهو حسن وإنْ تسبّب في استشهاد مؤمن بريء»، أو «إنّ كلّ كذب فهو قبيح وإن أوجَب نجاة إنسان بريء». فالأمر ليس كذلك من وجهة النظر الإسلاميّة؛ فإن كان الكذب سبباً لنجاة نفس مؤمنة أصبح واجباً؛ ولكنّ القضيّة المشهورة والتي يتمسّك بها الجميع هي أنّ الكذب قبيح. وهذه القضيّة هي ـ في الحقيقة ـ مقيّدة. وحُسن الوحدة والاتّحاد هو من هذا القبيل أيضاً. فالوحدة حسنة جدّاً، بشرط أن تكون في سبيل هدف ذي قيمة. فإنِ اتّحد قوم على غصب حقّ امرئ، فإنّ هذه الوحدة وذلك الاتّحاد هما سيّئان بقدر ما لذلك الذنب من السوء؛ إذن فحُسن الوحدة والاتّحاد هو من القضايا المشهورة أو الآراء المحمودة التي تقيّد بقيد خفيّ؛ أي إنّ الوحدة الحسنة هي التي تكون في سبيل الحقّ ومن أجل تحقّق هدف عقلانيّ، وليست أيّ وحدة. فلو كانت كلّ وحدة جيّدة لَما كان ينبغي أن ينهض الأنبياء أساساً؛ ذلك أنّ الغالبيّة العظمى من المجتمع البشريّ كانوا من عبدة الأوثان، ونهضة الأنبياء كان من شأنها أن تنسف وحدة المجتمع. بل إنّه لابدّ من القول: إنّ اختلافاً كهذا هو مبارك للغاية ويتحتّم إيجاده كي تُزال رواسب الفساد بالتدريج؛ إذن فقيمة الوحدة ليست هي قيمة ذاتيّة ولا مطلقة. فالوحدة والاتّحاد لا يكونان مطلوبين إلاّ إذا دارا حول محور الحقّ. هذه هي عصارة البحث الذي قدّمناه ليلة أمس. البحث المنطقيّ هو أنجع السبل لحلّ الاختلاف لقد طرحنا بالأمس سؤالاً مفاده: إذا نشب الاختلاف في المجتمع فما الذي ينبغي فعله؟ أحياناً يكون الاختلاف المذكور ذوقيّاً ولا يمتلك أيّ من الطرفين فيه قيماً أخلاقيّة أو دينيّة أو عقليّة ثابتة؛ فمثل هذه الاختلافات غير ذات أهمّية؛ نظير أن يميل أهل مدينة ما إلى موضة خاصّة في ملبسهم ويتذوّق أهل مدينة اُخرى موضة غيرها، أو أن الناس کانوا في الماضي يحبّذون طرازاً خاصّاً من البناء بحيث يحتلّ المبنى أحياناً ألف متر مربّع من الأرض في حين أنّهم الآن يفضّلون بناء منزل على أرض لا تزيد مساحتها على سبعين أو ثمانين متراً، كما وقد اقتضت الظروف تغييراً في شكل البناء أيضاً. فهذه الاختلافات ليس لها أهمّية تُذكر وما لم تعرِض عليها عناوين ثانويّة فلن تُحكم بالحلّية أو الحرمة. لكنّ الاختلاف يعود أحياناً اُخرى إلى القيم الحقيقيّة التي يؤكّد عليها الدين. فالأنبياء يقولون: «إذا سلكتَ هذه الطريق واعتمدت هذا السلوك كنت سعيداً مدى الحياة، لكنّك إن اخترت خلاف ذلك عشت شقيّاً الی أبد الآبدين»! فالقضيّة هاهنا ليست قضيّة ذوق؛ بل المسألة بالغة الجدّية. يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغلاَلاً وَسَعِيراً»1؛ فإن أنتم سلكتم سبيل الضلال فالنتيجة ستكون الاغلال والسلاسل والنار الموقدة. فهنا لا يمكننا القول: «إنّ الأمر ليس مهمّاً إلى هذا الحدّ؛ وليعمل كلٌّ بما يمليه عليه ذوقه»، فعقل الإنسان لا يجيز له التغافل عن احتمال كهذا ـ مهما كان الاحتمال ضعيفاً ـ وذلك لأنّ المحتمَل بالغ القوّة. فعندما يكون المحتمَل قويّاً فحتّى الاحتمال بنسبة الواحد بالمائة يكون منجزاً. فإنّ حاصل ضرب الاحتمال بِاُسّ المحتمَل هو الذي يحدّد قيمة الاحتمال. فإذا حصل الاختلاف في هذا النمط من الامور فلابدّ عندها من معرفة الطريق القويم. وإذا حصل الاختلاف في مصداق كلام الأنبياء؛ كأنْ يقول قوم: إنّ طريقتنا هي مصداق كلام الأنبياء، ويقول آخرون: إنّ طريقتنا هي مصداق ذلك، فإنّ القاعدة الأوّلية هي أن يُثبت الإنسان المصداق الحقيقيّ على أساس المنطق والاستدلال العقليّ؛ ذلك أنّنا نعتقد بأنّ ما جاء به الأنبياء (عليهم السلام) قد أتمّ الحجّة البالغة على جميع البشر: «رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»2. فسبيل الأنبياء هو على مستویً من الوضوح والإتقان في الأدلّة بحيث لا يتيح لأحد مجالاً للاحتجاج والتذرّع؛ ومع ذلك فإنّه من الممكن أن يحاول الشياطين تعكير صفو الماء والسعي ـ بمرور الوقت، وعبر خلق الشبهات والبدع ـ لجعل الطريق غير واضحة. يقول القرآن الكريم في هذا المجال: «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَـٰتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ»3؛ فإنّ قوماً قد غرسوا الاختلاف عمداً كي يتاجروا في الدين. مثلاً قالوا: «إنّ قصد النبيّ الفلانيّ هو هذا» كي يشكّلوا فرقة، ويترأسّوا على الناس، ويمتطوا ظهورَهم! فتكون نتيجة بثّ مثل هذا الاختلاف أن تحلّ بالأجيال القادمة ظروف يصعب معها جدّاً تمييز الحقّ من الباطل. فما الذي يجب فعله في مثل هذه الحالات؟ في ظروف كهذه يحكم العقل بأنّ الطريق الأمثل والسبيل الأنجع هي أن يجلس المختلفون الى طاولة الحوار وان يبحثوا الموضوع بتعقّل ليتبيَّن لهم أيّ الأدلّة صحيح وأيّها سقيم. لكنّنا قلنا إنّ إحدى الطائفتين كانت قد تعمّدت زرع الاختلاف وإنّ هؤلاء غير راغبين في انكشاف الحقّ وانجلاء الغبرة. فالكثير من زعماء الفِرق الباطلة ليسوا على استعداد للجلوس الى طاولة البحث وإلقاء الضوء على خفايا الامور؛ ذلك أنّ ما يصبوا إليه أمثال هؤلاء هو عين هذا الإبهام بغية أن يتمكّنوا في ظلّه من أن يجمعوا حولهم حفنة من المريدين. وفي التعامل مع هذا اللون من الاختلافات لابدّ من الالتفات إلى أنّه يوجد بين صفوف أتباع هؤلاء المخادعين مَن هم ـ حقيقةً ـ طلاّب حقّ، لكنّهم واقعون في شبهات. فهم شديدو الثقة بزعمائهم الأمر الذي جعلهم معتقدين بطريقتهم الباطلة. إنّني شخصيّاً وخلال مسيرة حياتي التی امتدّت سبعين عاماً ونيّفاً قد التقيت بعدد لا بأس به من هذا الصنف من الناس. في الواقع هناك الكثير من أتباع الفرق الإسلاميّة المختلفة، والمسيحيّة، وغيرها من الديانات ممّن إذا ثبت لديهم أنّ الإسلام ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) هو وحده المذهب الحقّ فإنّهم سيقبلون به لا محالة. أنا لا أزعم أنّهم جميعاً على هذه الشاكلة؛ فلا يشتبهنّ الأمر على أحد؛ بل إنّ ثمّة أيضاً مَن يشعر إزاء أهل البيت (عليهم السلام) والشيعة بعناد خاصّ. فهؤلاء يعيشون مستویً من العناد بحيث إنّهم لو شاهدوا في كتاب قصّةً أو رواية تصبّ في صالح الشيعة فانّهم يعمدون على الفور إلى حذفها في الطبعة التالية. لاحظوا قبح هذا الموقف! إنّ هذه لخيانة بحقّ التاريخ، والوثائق التاريخيّة، والحقيقة، والبشريّة. التسليم في مقابل الحقّ هو سرّ السعادة نسأل الله أن لا يتغلغل هذا العناد وهذه اللجاجة في أنفسنا؛ بيد أنّه علينا الاستعاذة بالله من الوقوف بوجه الحقّ! فالقرآن الكريم يقول: «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»4؛ فإنْ نحن عمدنا إلى تغيير هذه السجيّة الشيطانيّة في أنفسنا أثناء مرحلة الشباب، وعوّدنا أنفسنا على الانصياع للحقّ باستمرار، وسارعنا إلى الاعتراف بالخطأ إذا التفتنا إلى أنّنا مخطئون في موضعٍ ما؛ فأنا اُقسم بالله بأنّه لن يصيبنا ضرر قطّ. جرّبوا، وسترون أنّكم ستصبحون أكثر عزّة؛ بيد أنّ الشيطان لا يدعكم تفعلون ذلك. فنحن أحياناً نلتفت إلى خطئنا، إلاّ أنّنا نصرّ عليه. إنّ وجود هذه الصفة على مستوى رؤساء الاُمّة، وقادتها وزعمائها هو ممّا يؤدّي إلى فساد فادح. على أيّ حال فإنّ الناس المعاندين موجودون أيضاً. إذ يقول عزّ من قائل في هذا الباب: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»5، كما ويقول في سورة يٰس: «وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَـٰنَ بِالْغَيْبِ»6. فليس الجميع تابعين للدليل والبرهان؛ لكن في الوقت ذاته لا ينبغي الظنّ بأنّ الكلّ معاندون. لعلّ أغلب الناس هم من الذين يؤمنون بالحقيقة إذا اكتشفوها. كما أنّ جانباً من التقصير يقع علی عاتقنا حيث انّنا لم نبيّن الحقائق للآخرين كما ينبغي. فالسبيل الصحيحة والمنطقيّة الواجب سلوكها في مثل هذه الخلافات هو أن نحاول جهدنا أن نعرّف الطرف المقابل بالحقيقة من خلال الدليل والمنطق وباتّباع الأساليب التي لا تثير تعصّبه. فعندما يخاطبنا شخص بلسان المنطق واللين نقرّ بأخطائنا؛ لكنّه عندما يتحدّث إلينا منذ البداية بفظاظة وخشونة، أو بكيل الإهانات أحياناً، فسنتّخذ منه في المقابل موقفاً سلبيّاً. فلو أنّنا خاطبنا الناس بكلام منطقيّ واُسلوب رصين فإنّه ستُزال الكثير من الخلافات. لقد قال المرحوم آية الله بهجت (رضوان الله عليه) في إحدى المناسبات: إنّه من غير الصحيح إذا تحدّثنا مع شخص سنّي المذهب أن نبتدئ بطرح المواضيع التي تثير حفيظته مستخدمين اُسلوباً حادّاً وشديداً. وكان سماحته يقول: إنّ الطريق الأنجع هي أن نقول لهم: إنّكم تتّبعون في الفقه أربعة من العلماء الكبار؛ هم أبو حنيفة، والشافعيّ، ومالك، وأحمد بن حنبل. فأمّا أبو حنيفة ومالك فقد تتلمذا مباشرةً على يد الإمام الصادق (عليه السلام) وكانا يفتخران بذلك. فقد روي عن أبي حنيفة قوله: «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد». وفي موضع آخر يقول: «لولا السنتان لهلك النعمان»! والنعمان هو اسم أبي حنيفة. فهل تقليد التلميذ يمنع من تقليد الاُستاذ؟! فنحن نقلّد الاستاذ وأنتم تقلّدون التلميذ! فلماذا لا تضعون مذهب التشيّع ضمن لائحة المذاهب المعتبرة و المعترف بها؟ ففي مقابل هذا الكلام لن يجدوا بُدّاً من الإذعان والقبول. أيَكون تقليد التلميذ جائزاً وتقليد الاُستاذ غير مُستساغ؟! عندما يعترف التلميذ بنفسه بأنّ اُستاذي أفضل منّي بكثير وأنّ كلّما لدي فهو منه؟! فما من منطق على الإطلاق يقبل بذلك. وهذا هو عين الاُسلوب الذي طرحه المرحوم الشيخ محمود شلتوت عندما اعتبر مذهب التشيّع من المذاهب المعترَف بها في مصر وهذا الأمر هو من بركات الخطوة التي أقدم عليها المرحوم آية الله البروجرديّ (رضوان الله تعالى عليه) في تأسيسه لدار التقريب بين المذاهب. فإنْ فُتح هذا الباب ووجدوا في أنفسهم الاستعداد لأن يقيموا للإمام الصادق (عليه السلام) وزناً إلى جانب أبي حنيفة فهذا هو بمثابة إضفاء الرسميّة علی مذهب التشيّع. وهذا سيؤدّي بدوره إلى دخول كتبنا إلى بلدانهم بشكل رسميّ. فإذا تعرّفوا على معارف أهل البيت (عليهم السلام) فسيدخل طلاب الحقيقة منهم إلى التشيّع تدريجيّاً. فليسوا قلّة هم طلاب الحقيقة الذين تقطع عليهم الشياطين طريقهم. فلو أنّنا استخدمنا معهم الاُسلوب السلميّ فسوف يكتشفون الطريق. لقد التقيت أثناء رحلاتي إلى دول مختلفة مع أشخاص لا تقلّ محبّتهم لأهل البيت (عليهم السلام) عمّا هو متعارف بيننا نحن الشيعة. ففي أندونيسيا التقيت بشيخ مصريّ ألقى كلمة حول أهل البيت (عليهم السلام). فبادرته بالسؤال: يبدو أنّكم، أيّها المصريّون، تكنّون المودّة لأهل البيت (عليهم السلام)؛ فأجابني قائلاً: «بل نحن مفتونون باهل البيت»! فلو أنّنا اتّبعنا الاسلوب الصحيح في التبليغ وعرّفناهم بمعارف التشيّع بشكل سليم فسيدخل الكثير منهم إلى التشيّع حتماً؛ غير أنّنا مقصّرون في هذا المضمار. إنّنا نتحمّل المسؤوليّة في ذلك أمام صاحب شريعتنا ومذهبنا! التعامل مع المعاندين يكون بالبحث المنطقيّ المشفوع بالأدب لكن ما هو تكليفنا تجاه المعاندين واُولئك المتأثّرين بدعايتهم إلى درجة اليقين بأنّ مذهبهم هو الحقّ ومذهب التشيّع هو الباطل؟ فإن نحن تهاونّا في تبيين الحقّ وإثبات بطلان مذاهب الباطل فسنكون قد خنّا الله والرسول والإنسانيّة والشهداء والأجيال الماضية والتي ستأتي لاحقاً. وفي هذه الحالة سنكون نحن أيضاً من اُولئك الشياطين الذين يصدّون عن سبيل الحقّ: «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ»7. فعندما لا نبيّن الحقيقة فإنّنا نفسح المجال لهم باستغلال الموقف بحيث يقولون: «لو كان لديهم ما يُقال لقالوه ودافعوا به عن أنفسهم». إذن فما هو واجبنا تجاه أشخاص كهؤلاء؟ إنّ أصل مسألة حفظ الوحدة يكمن في هذه القضيّة؛ وهي أنّنا لو تبنّينا الاسلوب الفظّ والخشن والمتعصّب في التعامل فماذا ستكون النتيجة؟ ستكون النتيجة هي أن يزداد المعاندون عناداً على عنادهم وتُعطى الذريعة بيد اُولئك المبتلين بالباطل جرّاء جهلهم بأن يولّوا وجوههم عنّا ويقولوا: «إذا كان هؤلاء على حقّ فلماذا هذه الغلظة في الكلام وما الداعي إلى السباب؟! فيا ليتهم يبيّنون حقّهم بالدليل». فطريقة كهذه تكون مدعاة لأن ينسبوا البطلان لنا. إذن فالتعاطي معهم بتعصّب، أي تبيين المبحث من دون دليل وبطريقة فظّة، إذا لم يؤدّ إلى نتيجة معكوسة فإنّه لن يعطي الثمرة المطلوبة أيضاً. فالكلام المنطقيّ هو الذي ينتهي إلى نتيجة. فلا ينبغي الوقوف أمام الکلام المنطقی، إذ ليس هناك أيّ دليل منطقيّ للوقوف أمام الكلام المنطقيّ؛ أمّا في المقابل فإنّ السلوك الفظّ، والنابع عن عصبيّة، والمثير للخصومات، والمؤجّج للأحقاد والضغائن فليس هناك دليل عقليّ يدعمه ولا دليل شرعيّ يؤيّده. قد يقول قائل: «إنّ بعض الأشخاص قد لُعنوا في زيارات المعصومين (عليهم السلام) ونحن نلعن المصاديق التی يمثّلها هؤلاء على أساس تلك الزيارات». لكن في تلك الروايات و الزيارات لم يقولوا لنا: اذهبوا وارتقوا المنابر والمآذن والعنوا، أو اذهبوا والعنوا عبر مكبّرات الصوت! فمن غير الضروريّ أن نأتي بفعل في حضور الآخرين بحيث يکون من شأنه أن يثيرهم وتكون النتيجة أن يواجه الشيعة في بلدان اُخرى المتاعب، فتُستباح دماؤهم، ويُقَتّلون، ثمّ لا نجني من ذلك أيّ ثمرة! فأيّ دليل عقليّ أو شرعيّ يتوفّر على مثل هذا العمل؟! أجل، إنّ القرآن قد لعن أشخاصاً بصراحة في مواطن كثيرة؛ بل إنّه قال: «أُوْلَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـٰعِنُونَ»8. فهذا هو لعن القرآن الكريم؛ لكن ليس هناك من ضرورة بتاتاً في أن نقف في مقابل الذين نتّفق معهم في مائة مسألة ـ على سبيل المثال ـ ويحترم كلّ منّا مقدّسات الآخر، ولا نختلف فيما بيننا إلاّ في بضع مسائل، أن نقف منهم موقف المخاصمة لنثير حفيظتهم فيصبحوا بالنسبة لنا ألدّ من أيّ عدوّ! فما هو الدليل العقليّ على هذا الفعل؟ والحال أنّنا نمتلك الحقّ في أن نجلس في المحافل العلميّة، وفي أجواء ودّية، بعيداً عن التعصّبات، وفي بيئة يسودها البحث والتحقيق لنناقش الحقائق، وننظر أيّ التواريخ صحيح وأيّها خطأ. فإن نحن أحجمنا عن فعل ذلك فإنّ في ذلك ـ بالمصطلح المعاصر ـ خيانة للعلم، وبلسان الدين نكون قد خُنّا الله، والرسول، والإمام الراحل (رحمه الله)، والشهداء، والحقيقة. فإن لم تبيّن تلك الحقائق ويتمّ إثباتها فأنّى لأجيال المستقبل أن تفهم الحقيقة؟ أنا وأنتم قد فهمنا الحقيقة من خلال مجالس الوعظ، والمساجد، والحسينيّات، والمراثي، ومراسم العزاء، ومجالس الفرح، وما إلى ذلك. فمن دون تلك الاُمور من أين كنّا سنفهم الحقيقة؟ فإذا نحن لم ننهض بهذا الواجب، نكون قد خنّا الأمانة ولم نبلّغ الحقّ إلى أهله. فالبحث والتحقيق في المسائل العقائديّة والقضايا التاريخيّة الذي يعطي ثماراً عقائديّة ودينيّة ومذهبيّة هو فريضة عقليّة وشرعيّة. فهذا الباب لا ينبغي إغلاقه؛ لكنّه يتعيّن علينا حفظ احترام الطرف المقابل وعدم إثارة مشاعره من دون مبرّر. لا ينبغي أن نطرح اُموراً ليست في محلّها لا تؤدّي إلى أيّ نتيجة في إثبات الحقّ؛ بل على العكس تُسهم في تفاقم عناد المعاندين ولجاجتهم، وأحياناً تتمخّض عن عداوات تكون حصيلتها قتل اُناس أبرياء. فتاريخ التشيع يُظهر لنا كم من الشيعة قد استشهدوا على أيدي أشخاص جهلة أو معاندين في إثر كلام قاله شيعيّ آخر في بلد ثان. فبقطع النظر عن الناحية الدينيّة، فهل من العقل في شيء أن يقوم المرء بعمل تكون نتيجته تقديم جماعة من أصدقائه وأعزّائه، ممّن هم أغلى من النفس، إلى القتل؟! وتأسيساً على ذلك فإنّ في أعناقنا واجبين لا ينبغي الخلط بينهما: أحدهما هو أن لا نفعل شيئاً يثير ضدّنا مشاعر الذين التبس عليهم الأمر أو أهل العناد ـ لا قدّر الله ـ فيتفاقم عداؤهم لنا؛ وهذا ما يسمّى حفظ الوحدة. والثاني هو أن لا نحجم عن بيان الحقائق والسعي لإثباتها في المحافل العلميّة. إنّ من أعظم الخدمات التي اُسديت في القرن الأخير على صعيد إحياء مذهب التشيّع وإثبات حقّانيته تلك التي قام بها في بلاد الهند المرحوم صاحب «عبقات الأنوار»، وفي النجف الأشرف المرحوم العلامة الأمينيّ (رضوان الله تعالى عليهما) عبر تصنيفه لكتاب «الغدير». أيّ خدمات جليلة أسداها هذان العظيمان وأيّ تضحيات قدّماها في هذا السبيل! أيّ آلام كابداها من أجل أن يرى هذان الكتابان النور! وأيّ عشق كان يكنّه العلاّمة الأمينيّ لأهل البيت وأمير المؤمنين (عليهم السلام) حتّى إنّ مجرّد سماع اسم أمير المؤمنين (عليه السلام) كان من شأنه أن يُسيل الدموع من مقلتيه! لكنّه لم ينَلْ في كتابه، ولا حتّى في موضع واحد، من أيّ واحد من الشخصيّات التي يكنّ لها أهل السنّة التبجيل والاحترام؛ بل لقد ألحق أسماءهم أينما ذكرها بعبارة «رضي الله عنه». فبهذا الاسلوب يتمكّن المرء من بيان الحقيقة من ناحية، ولا يعطي الذريعة بيد المخالف من ناحية اُخرى، وإذا كان هناك طالب للحقيقة فإنّه سيستسلم للحقّ. فلابدّ من إزالة هذا الحجاب الحائل الذي أسدله الشيطان اللعين بيننا وبين السنّة. ينبغي التصرّف بالشكل الذي يجعلهم على استعداد لقراءة كتبنا وإدراجنا في عداد المسلمين. بالطبع إنّ جزءاً من عمليّة تكوّن هذا الحجاب المانع هو حصيلة بعض التصرّفات الغير المدروسة من قبل بعض الشيعة. فإذا اعتبرنا أنفسنا مسؤولين عن نشر مذهب التشيّع وحفظ حقيقته للأجيال القادمة، فإنّه ينبغي لنا ـ من جانب ـ أن نعمد إلى إثباته عبر الأدلّة العقليّة والمنطقيّة والشواهد التاريخيّة، وأن لا نتعرّض ـ من جانب آخر ـ للشخصيّات التي تثير حساسيّتهم. فإنّ الأدلّة هي على جانب من الوضوح والجلاء إلى درجة أنّ المرحوم ماموستا شيخ الإسلاميّ، النائب الشهيد لأهالي كردستان في مجلس خبراء القيادة، كان يقول: «إنّني لأعتقد، وأقولها بكلّ صراحة، أنّ الذي يتجاسر على السيّدة الزهراء (سلام الله عليها) هو كافر!». على أيّ حال فإنّ قضيّة البحث في المسائل العقائديّة والتاريخيّة الرامي لإثبات حقّانية مذهب التشيّع، الأمر الذي يصبّ ـ عرَضاً ـ في إبطال سائر المذاهب المخالفة، هو من تكاليفنا الشرعيّة القطعيّة التي لا بديل لها على الإطلاق؛ لکن بشرطها وشروطها وهو أن يكون مشفوعاً بمراعاة الأدب وأن لا نثير الآخرين فنضاعف الحجاب الموجود بيننا، ويحلّ الاختلاف محلّ الاتّحاد، ولا يدَع المسلمين يتقاربون من بعضهم، ويقفون صفّاً واحداً في مواجهة عدوّهم. وفّقنا الله وإيّاكم إن شاء الله -------------------------------------------------------------------------------- 1. سورة الإنسان، الآية 4. 2. سورة النساء، الآية 165. 3. سورة البقرة، الآية 213. 4. سورة القصص، الآية 83 . 5. سورة البقرة، الآيتان 6 و7. 6. سورة يٰس، الآيات 9 ـ 11. 7. سورة الزخرف، الآية 37. 8. سورة البقرة، الآية 159. للشيخ اليزدي |
الساعة الآن 09:16 AM |
Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
Support : Bwabanoor.Com
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010