![]() |
جهاد الامام السجاد عليه السلام
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 39 - 48
أدوار النضال في حياة الإمام عليه السلام أولا : في كربلاء ثانيا : في الأسر ثالثا : في المدينة ‹ صفحة 41 › إنا نقرأ في سيرة الإمام السجاد عليه السلام - منذ البداية - صفحات من النضال الواضح ، بحيث لا يمكن تجاوزها ، والغض عنها بسهولة : فحضوره في كربلاء . ومواقفه في خطبه في الأسر . وتخطيطه عند الوصول إلى المدينة . ثلاث محطات للتأمل في سيرة الإمام السجاد عليه السلام ، وفي بدايتها بالضبط ، تستدعي التوقف عندها لأخذ الشواهد العينية لمعرفة أبعاد نضاله المستقبلي . وإني أعد هذه البداية مهمة جدا للبحث ، إذ أنها توقفنا على اتجاه السهم السياسي الذي أطلقه الإمام السجاد عليه السلام ليصيب به هدفه الأول والأخير ، والذي امتد سيره طول حياته الشريفة . ولو تأملنا ما في هذه المحطات من أعمال ، وبظروفها وحوادثها ، نرى أنها لم تقصر - في الاعتبار السياسي - عن قعقعة السيوف وصليلها ، ولا عن عدو الخيول وضبحها وصهيلها ، ولا عن وغى العساكر ولجبها ! بل تتجاوز - في بعض الاعتبارات - أثر خروج محدود يؤدي إلى الشهادة ، في تلك الظروف الحرجة المعقدة التي غطى فيها التعتيم على الحقائق ، وظلل الإعلام كل الأجواء ، وأصم الدجل كل الآذان ، وأعمى التزوير كل الأبصار ، وكدر الظلم النور المؤدي إلى النظر الصائب . فلنقف في كل نقطة مع أهم ما حفظ لنا من خلال المصادر ، ولنقرأ تلك الصفحات : ‹ صفحة 42 › أولا في كربلاء لقد حضر الإمام السجاد علي بن الحسين ، في معركة كربلاء ، إلى جنب والده الإمام الحسين عليه السلام ، وهذا ما تذكره كل المصادر بلا استثناء . ويرد في مصادر الوقعة ، اسم ( علي بن الحسين ) في بعض مقاطع رحلة الإمام الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشهادة ، وفي بعض الحديث بينه وبين ولده ( علي ) . ولم يحدد المقصود من ( علي ) هذا ، هل هو السجاد عليه السلام أو أخوه ( علي ) الشهيد عليه السلام ؟ وقد اشتهر أنه هو الشهيد ، لكن ذلك غير مؤكد ، فلعل الذي ورد ذكره ، هو الإمام السجاد عليه السلام ( 1 ) . والدلالات النضالية في هذا الحضور من وجوه : أولا : إن هناك نصوصا تاريخية تدل على أن الإمام السجاد عليه السلام قد قاتل يوم عاشوراء وناضل إلى أن جرح ، وهي : النص الأول : ما جاء في أقدم نص مأثور عن أهل البيت عليهم السلام في ذكر أسماء من حضر مع الحسين عليه السلام ، وذلك في كتاب ( تسمية من قتل ( 2 ) مع الحسين عليه السلام من أهل بيته وإخوته وشيعته ) الذي جمعه المحدث الزيدي الفضيل بن الزبير ، الأسدي ، الرسان ، الكوفي ، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ( 3 ) ‹ صفحة 43 › فقد ذكر ما نصه : ( وكان علي بن الحسين عليلا ، وارتث ، يومئذ ، وقد حضر بعض القتال ، فدفع الله عنه ، وأخذ مع النساء ) ( 1 ) . ومع وضوح النص في قتال الإمام السجاد عليه السلام في كربلاء فإن كلمة ( ارتث ) تدل على ذلك ، لأنها تقال لمن حمل من المعركة ، بعد أن قاتل ، وأثخن بالجراح ، فأخرج من أرض القتال وبه رمق ، كما صرح به اللغويون ( 2 ) النص الثاني : ما جاء في مناقب ابن شهرآشوب - بعد ذكره مشهد علي بن الحسين المعروف بالأكبر وأن الإمام الحسين عليه السلام أتى به إلى باب الفسطاط ، أورد هذه العبارة ( فصارت أمه شهربانويه ولهى تنظر إليه ولا تتكلم ) ( 3 ) ومن المعلوم أن أم علي الشهيد هي ليلى العامرية أو برة بنت عروة الثقفي - كما يراه ابن شهرآشوب – والمعروف أن ( شهربانويه ) هي أم علي بن الحسين عليه السلام ، فلا بد أن يكون قد سقط من عبارة مناقب شهرآشوب ذكر مبارزة علي بن الحسين السجاد عليه السلام ، وبهذا يكون شاهدا على ما نحن بصدده . ومن المحتمل أن تكون العبارة مقدمة على موضعها في مقتل علي الأصغر الذي ذكره ابن شهرآشوب بعد هذا النص المنقول ، لأن ابن شهرآشوب ذكر أن أم علي السجاد هي أم علي الأصغر شهربانويه رضي الله عنها ( 4 ) . النص الثالث : ما جاء حول مرض الإمام عليه السلام ، إن المصادر تكاد تتفق على أن ‹ صفحة 44 › الإمام السجاد عليه السلام كان يوم كربلاء ، مريضا ، أو موعوكا ( 1 ) إلا أنها لم تحدد نوعية المرض ولا سببه ، لكن ابن شهرآشوب روى عن أحمد بن حنبل قوله : كان سبب مرض زين العابدين عليه السلام أنه كان ألبس درعا ، ففضل عنه ، فأخذ الفضلة بيده ومزقها ( 2 ) . وهذا يشير إلى أن الإمام إنما عرض للمرض وهو على أهبة الاستعداد للحرب أو على أعتابها ، حيث لا يلبس الدرع إلا حينذاك ، عادة . ولا ينافي ذلك قول ابن شهرآشوب : ( ولم يقتل زين العابدين لأن أباه لم يأذن له في الحرب ، كان مريضا ) ( 3 ) . لأن مفروض الأدلة السابقة أن الإمام زين العابدين قد أصيب بالمرض بعد اشتراكه أول مرة في القتال وبعد أن ارتث وجرح ، فلعل عدم الإذن له في أن يقاتل كان في المرة الثانية وهو في حال المرض والجراحة . ولو فرض كونه مريضا منذ البداية فالأدلة التي سردناها تدل بوضوح على مشاركته في بعض القتال . فمؤشرات الجهاد في سيرة الإمام السجاد عليه السلام هي : أولا : حمله السلاح - وهو مريض - ودخوله المعركة ، إلى أن يجرح ، يحتوي على مدلول بطولي كبير ، أكبر من مجرد حمل السلاح ! فلو كان حمل السلاح واجبا على الأصحاء ، فهو في الإسلام موضوع عن المرضى بنص القرآن ، لكن ليس حراما عليهم ذلك ، إذا وجدوا همة تمكنهم من أداء دور فيه . ثانيا : إن وجود علي بن الحسين عليه السلام ، مع أبيه الإمام الحسين عليه السلام ، في أرض كربلاء ، حيث ساحة النضال المستميت ، وميدان التضحية والفداء ، وحيث كان الإمام ‹ صفحة 45 › الحسين عليه السلام يسمح لكل من حوله - وحتى أولاده وأهل بيته - بالانصراف ، ويجعلهم في حل ، لهو الدليل على قصد الإمام للمشاركة في ما قام به أبوه . قال الإمام السجاد عليه السلام : لما جمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المساء ، دنوت لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ، فسمعت أبي يقول : . . . أما بعد ، فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني خيرا . . ألا ، وإني قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ( 1 ) . ففي ذلك الظرف ، لا دور - إذن - للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بالمعنى الفقهي ، لأن الأخطار المحدقة كانت ملموسة ، ومتيقنة ومتفاقمة للغاية ، تفوق حد التحمل . وقد أدرك ذلك كل من اطلع على أحداث ذلك العصر ، قبل اتجاه الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق ، ممن احتفظ لنا التاريخ بتصريحاتهم ، فكيف بمن رافق الإمام الحسين عليه السلام في مسيره الطويل من المدينة إلى مكة وإلى كربلاء ، ومن أولاده وأهل بيته خاصة ؟ الذين لا تخفى عليهم جزئيات الحركة وأبعادها وأصداؤها وما قارنها من زعزعة الجيش الكوفي للإمام ، وسمعوا الإمام عليه السلام يصرح بالنتائج المهولة والأخطار التي تنتظر حركته ومن معه ! حتى وقت تلك الخطبة مساء يوم التاسع ، أو ليلة عاشوراء ؟ فلقد عرف من بقي مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء ، بأن ما يقوم به الإمام ليس إلا فداءا وتضحية ، لحاجة الإسلام إلى إثارة ، والثورة إلى فتيل ووقود ، واليقظة إلى جرس ورنين ، والنهضة إلى عماد وسناد ، والقيام إلى قائد ورائد ، والحياة الحرة الكريمة إلى روح ودم . والإمام الحسين عليه السلام قد تهيأ ليبذل مهجته في سبيل كل هذه الأسباب لتكوين ‹ صفحة 46 › كل تلك المسببات . ولم يكن مثل هذه الحقيقة ليخفى على علي بن الحسين السجاد عليه السلام الذي كان يومذاك في عمر الرجال ، وقد بلغ ثلاثا وعشرين سنة وكان ملازما لأبيه الشهيد منذ البداية ، وحتى النهاية . فكان حضوره مع أبيه عليه السلام وحده دليلا كافيا على روح النضال مع بطولة فذة ، تمتع بها أولئك الشجعان الذين لم ينصرفوا عن الحسين عليه السلام . ثم هو - كما تقول تلك الرواية - قد شهر السلاح ، وقاتل بالسيف ، حتى أثخن بالجراح ، وأخرج من المعركة وقد ارتث . وإذا كانت هذه الرواية - بالذات - زيدية ، فمعنى ذلك تمامية الحجة على من ينسب الإمام زين العابدين عليه السلام إلى اعتزال القيام والسيف والنضال . ثالثا : مضافا إلى أن حامل هذه الروح ، قبل كربلاء ، لا يمكن أن يركن إلى الهدوء بعد ما شاهده في كربلاء من تضحيات أبيه وإخوته وأهله وشيعته ، وما جرى عليهم من مصائب وآلام ، وما أريق من تلك الدماء الطاهرة . أو يسكت ، ولا يتصدى للثأر لأبيه ، وهو ثار الله ، مع أنه لم ينسهم لحظة من حياته . فكيف يستسلم مثله ، ويهدأ ، أو يسالم ويترك دم أبيه وأهله يذهب هدرا ؟ إذ لم يبق من يطالب بثأر تلك الدماء شخص غيره . فإذا كان - كما يقول البعض : - ( مصرع الحسين عليه السلام في كربلاء هو الحدث التاريخي الكبير الذي أدى إلى بلورة جماعة الشيعة ، وظهورها كفرقة متميزة ذات مبادئ سياسية وصبغة دينية ( أكثر وضوحا وتميزا مما كانت عليه في زمان أمير المؤمنين عليه السلام وقبله ) . وكان لمأساة أثرها في نمو روح الشيعة وازدياد أنصارها ، وظهرت جماعة الشيعة ، بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام ، كجماعة منظمة ، تربطها روابط ‹ صفحة 47 › سياسية متينة ) ( 1 ) . فكيف لا تؤثر هذه المأساة في ابن الحسين ، وصاحب ثأره ، والوحيد الباقي من ذريته ، والوريث لزعامته بين الشيعة ، ولا تزيد نمو الروح السياسية عنده ؟ وكيف تجمع هذه المنظمة أفراد الشيعة بروابط سياسية ، ولكن تبعد علي بن الحسين عليه السلام عن السياسة ؟ ! وكيف تستبعد هذه المنظمة عن التنظيم ، وارث صاحب الثورة وصاحب الحق المهدور ؟ أليس في الحكم بذلك تعنت وجور ؟ ‹ صفحة 48 › ثانيا : في الأسر إن البطولة التي أبداها الإمام السجاد عليه السلام بعد كربلاء ، وهو في أسر الأعداء ، وفي الكوفة في مجلس أميرها ، وفي الشام في مجلس ملكها ، لا تقل هذه البطولة أهمية - من الناحية السياسية - عن بطولة الميدان ، وعلى الأقل : لا يقف تلك المواقف البطولية من . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 42 › ( 1 ) لاحظ شرح الأخبار للقاضي ( 3 : 265 - 266 ) والإرشاد للمفيد ( 253 ) وانظر السرائر لابن إدريس ( 1 : 655 ) ، ولاحظ تواريخ النبي والآل للتستري ( ص 30 - 32 ) . ( 2 ) كذا في ما نقل عن هذا الكتاب في مصادره ، لكني أظن أن الكلمة هي ( قاتل ) لأن المذكورين لم يقتلوا جميعا ، بل في بعض المذكورين من أسر ، ومن فر ، ومن قتل قبل كربلاء ، فلاحظ مقدمتنا للطبعة الثانية لهذا الكتاب ، الذي نقوم بإعداده بعون الله . ( 3 ) نشر هذا الكتاب ، بتحقيقنا ، في مجلة ( تراثنا ) الفصلية التي تصدرها مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث في قم سنة ( 1406 ) وقد ذكرنا سنده وترجمة مؤلفه بتفصيل واف . والكتاب مذكور في الأمالي الخميسية للمرشد بالله ( 1 : 170 - 173 ) والحدائق الوردية للمحلي ج 1 ص 120 . ‹ هامش ص 43 › ( 1 ) تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام ، مجلة ( تراثنا ) العدد الثاني ( ص 150 ) . ( 2 ) لاحظ مادة ( رثث ) من كتب اللغة ، وقد صرحوا بأن الكلمة بالمجهول ، انظر : المغرب للمطرزي ( 1 : 184 ) والقاموس ( 1 : 167 ) ولسان العرب ( 2 : 457 ) . ( 3 ) مناقب آل أبي طالب - طبع دار الأضواء ( 4 / 118 ) . ( 4 ) مناقب آل أبي طالب ( 4 / 85 ) . دار الأضواء . ‹ هامش ص 44 › ( 1 ) الإرشاد للمفيد ( ص 231 ) شرح الأخبار ( 3 : 250 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 486 ) . ( 2 ) نقله ابن شهرآشوب عن كتاب ( المقتل ) في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 284 ) وفي ط دار الأضواء ( 4 / 155 ) ونقله في العوالم ( ص 32 ) . ( 3 ) مناقب ابن شهرآشوب ( دار الأضواء ) ( 4 / 122 ) . ‹ هامش ص 45 › ( 1 ) الإرشاد للمفيد ( ص 231 ) . ‹ هامش ص 47 › ( 1 ) جهاد الشيعة ، لليثي ( ص 27 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 48 - 54 هالته المصارع الدامية في كربلاء ، أو فجعته التضحيات الجسيمة التي قدمت أمامه ، ولا يصدر مثل تلك البطولات ممن فضل السلامة ! نعم ، لا يمكن أن يصدر مثل ذلك إلا من صاحب قلب جسور ، صلب يتحمل كل الآلام ، ويتصدى لتحقيق كل الآمال ، التي من أجلها حضر في ميدان كربلاء من حضر ، وناضل من ناضل ، واستشهد من استشهد ، والآن يقف - ليؤدي دورا آخر - من بقي حيا من أصحاب كربلاء ، ولو في الأسر ! إن الدور الذي أداه الإمام السجاد عليه السلام ، بلسانه الذي أفصح عن الحق ببلاغة معجزة ، فأتم الحجة على الجميع ، بكل وضوح ، وكشف عن تزوير الحكام الظالمين ، بكل جلاء ، وأزاح الستار عن فسادهم وجورهم وانحرافهم عن الإسلام . إن هذا الدور كان أنفذ على نظام الحكم الفاسد ، من أثر سيف واحد ، يجرده الإمام في وجه الظلمة ، إذ لم يجد معينا في تلك الظروف الصعبة ! . لكنه كان الشاهد الوحيد ، الذي حضر معركة كربلاء بجميع مشاهدها ، من بدايتها ، بمقدماتها وأحداثها وملابساتها وما تعقبها ، وهو المصدق الأمين في كل ما يرويه ويحكيه عنها . فكان وجوده استمرارا عينيا لها ، وناطقا رسميا عنها . مع أن وجوده ، وهو أفضل مستودع جامع للعلوم الإلهية بكل فروع : العقيدة ، والشريعة ، والأخلاق ، والعرفان ، بل المثال الكامل للإسلام في تصرفاته وسيرته وسنته ، والناطق عن القرآن المفسر الحي لآياته ، إن وجوده - حيا - كان أنفع للإسلام وأنجع للمسلمين في ذلك الفراغ الهائل ، والجفاف القاتل ، في المجتمع الإسلامي . كان وجوده أقض لمضاجع أعداء الإسلام من ألف سيف وسيف ، لأن الإسلام إنما ‹ صفحة 49 › يحافظ عليه ببقاء أفكاره وقيمه ، والأعداء إنما يستهدفون تلك الأفكار والقيم في محاولاتهم ضده ، وإذا كان شخص مثل الإمام موجودا في الساحة ، فإنه - لا ريب - أعظم سد أمام محاولات الأعداء . وكذلك الأعداء إنما يبادون بضرب أهدافهم ، واجتثاب بدعهم وفضح أحابيلهم ، والكشف عن دجلهم ، ورفع الأغطية عن نياتهم الشريرة تجاه هذا الدين وأهله ، والإفصاح عن مخالفة سيرتهم للحق والعدل . وعلى يد الإمام السجاد عليه السلام يمكن أن يتم ذلك بأوثق شكل وأتم صورة ، وأعمق تأثير . ثم ، أليس الجهاد بالكلمة واحدا من أشكال الجهاد ، وإن كان أضعفها ؟ بل ، إذا انحصر الأمر به ، فهو الجهاد كله بل أفضله ، في مثل مواقف الإمام السجاد عليه السلام ، كما ورد في الحديث الشريف ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) ( 1 ) . ولنصغ إلى الإمام السجاد عليه السلام في بعض تلك المواقف : فمن كلام له عليه السلام كان يعلنه وهو في أسر بني أمية : ( أيها الناس ! إن كل صمت ليس فيه فكر فهو عي ، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو هباء . ألا ، وإن الله تعالى أكرم أقواما بآبائهم ، فحفظ الأبناء بالآباء ، لقوله تعالى : * ( وكان أبوهما صالحا ) * [ سورة الكهف الآية ( 82 ) ] فأكرمهما . ونحن - والله - عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأكرمونا لأجل رسول الله ، لأن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في منبره : ( احفظوني في عترتي وأهل بيتي ، فمن حفظني حفظه الله ، ومن آذاني فعليه لعنة الله ، ألا ، فلعنة الله على من آذاني فيهم ) حتى قالها ثلاث مرات . ونحن - والله - أهل بيت أذهب الله عنا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن . . . ) ( 2 ) . ‹ صفحة 50 › وبهذه الصراحة ، والقوة ، والبلاغة ، عرف الإمام السجاد عليه السلام للمتفرجين - ولمن وراءهم - هذا الركب المأسور ، الذي نبزوه بأنه ركب الخوارج ! ففضح الدعايات ، وأعلن بذلك أنه ركب يتألف من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وأفصح بتلاوة الآيات والأحاديث ، أنه ركب يحمل القرآن والسنة ، ليعرف المخدوعون أن هذا الركب له ارتباط وثيق بالإسلام من خلال مصدريه الكتاب والسنة . وهو - من لسان هذين المصدرين - يصب اللعنة والنقمة على من آذى هذا الركب ، من دون أن يمكن الأعداء من التعرض له ، لأنه عليه السلام إنما يروي اللعنة الصادرة من الرسول وعلى لسانه ! كان هذا الموقف ، حين أخذ الناس الوجوم ، من عظم ما جرى في وقعة كربلاء ، وما حل بأهل البيت عليه السلام من التقتيل والأسر ، وذهلوا حينما رأوا الحسين سبط الرسول وأهله وأصحابه مجزرين ! ويرون اليوم ابنه ، وعيالاته أسرى ، يساقون في العواصم الإسلامية . والأسر - في قاموس البشر - يوحي معاني الذل والهوان ، والضعف والانكسار ! هذا ، والناس يفتخرون بالانتماء إلى دين الرسول وسنته . والأنكى من ذلك أن الجرائم وقعت ولما يمض على وفاة الرسول - جد هؤلاء الأسرى - نصف قرن من الزمن ! ! وموقفه الآخر في مجلس يزيد ، فقد أوضح فيه عن هويته الشخصية ، فلم يدع لجاهل عذرا في الجلوس المريب ، وذلك في المجلس الذي أقامه يزيد ، للاحتفال بنشوة الانتصار ولا بد أنه جمع فيه الرؤوس والأعيان ، فانبرى الإمام السجاد عليه السلام ، في خطبته البليغة الرائعة ، التي لم يزل يقول فيها : ( أنا . . . أنا . . . ) معرفا بنفسه ، وذاكرا أمجاد أسلافه ( حتى ضج المجلس بالبكاء والنحيب ) حسب تعبير النص ( 1 ) الذي سنثبته كاملا : ‹ صفحة 51 › |
خطبة الإمام في مجلس يزيد :
قال الخوارزمي : ( وروي ) أن يزيد أمر بمنبر خطيب ، ليذكر للناس مساوئ الحسين وأبيه علي عليهما السلام . فصعد الخطيب المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وأكثر الوقيعة في علي والحسين ، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد . فصاح به علي بن الحسين : ويلك أيها الخاطب ! اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق ؟ فتبوأ مقعدك من النار . ثم قال : يا يزيد ، إئذن لي حتى أصعد هذه الأعواد ، فأتكلم بكلمات فيهن لله رضا ، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب . فأبى يزيد ، فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، ائذن له ليصعد ، فعلنا نسمع منه شيئا . فقال لهم : إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ، فقالوا : وما قدر ما يحسن هذا ؟ فقال : إنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا . ولم يزالوا به حتى أذن له بالصعود . فصعد المنبر : فحمد الله وأثنى عليه ، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب ، فقال فيها : ( أيها الناس ، أعطينا ستا ، وفضلنا بسبع : أعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين . وفضلنا بأن منا النبي المختار محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنا الصديق ، ومنا الطيار ، ومنا أسد الله وأسد الرسول ، ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنا سبطا هذه الأمة ، وسيدا شباب أهل الجنة . فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي : أنا ابن مكة ومنى . أنا ابن زمزم والصفا ‹ صفحة 52 › أنا ابن من حمل الزكاة ( 1 ) بأطراف الردا . أنا ابن خير من ائتزر وارتدى . أنا ابن خير من انتعل واحتفى . أنا ابن خير من طاف وسعى . أنا ابن خير من حج ولبى . أنا ابن من حمل على البراق في الهوا . أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى . أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى . أنا ابن من دنى فتدلى فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى . أنا ابن من صلى بملائكة السما . أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى . أنا ابن محمد المصطفى . أنا ابن علي المرتضى . أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله إلا الله . أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين . أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ، ورسول رب العالمين . أنا ابن المؤيد بجبرائيل ، المنصور بميكائيل . أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين ‹ صفحة 53 › والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب استجاب لله ، من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، ناصر دين الله ، وولي أمر الله ، وبستان حكمة الله ، وعيبة علم الله ، سمح سخي ، بهلول زكي أبطحي رضي مرضي ، مقدام همام ، صابر صوام ، مهذب قوام شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرق الأحزاب ، أربطهم جنانا ، وأطلقهم عنانا ، وأجرأهم لسانا ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدهم شكيمة ، أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب - إذا ازدلفت الأسنة ، وقربت الأعنة - طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، صاحب الإعجاز ، وكبش العراق ، الإمام بالنص والاستحقاق مكي مدني ، أبطحي تهامي ، خيفي عقبي ، بدري أحدي ، شجري مهاجري ، من العرب سيدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين ، الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كل طالب غالب كل غالب ، ذاك جدي علي بن أبي طالب . أنا ابن فاطمة الزهرا . أنا ابن سيدة النسا . أنا ابن الطهر البتول . أنا ابن بضعة الرسول . ( أنا ابن الحسين القتيل بكربلاء . أنا ابن المرمل بالدما . أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلما . أنا ابن من ناحت عليه الطيور في الهوا . ) ( 1 ) قال : ولم يزل يقول : ( أنا أنا ) حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن ‹ صفحة 54 › تكون فتنة ، فأمر المؤذن أن يؤذن ، فقطع عليه الكلام وسكت . فلما قال المؤذن ( الله أكبر ! ) قال علي بن الحسين : كبرت كبيرا لا يقاس ، ولا يدرك بالحواس ، لا شي أكبر من الله . فلما قال : ( أشهد أن لا إله إلا الله ! ) قال علي : شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي ، ومخي وعظمي . فلما قال : ( شهد أن محمدا رسول الله ! ) التفت علي من أعلى المنبر إلى يزيد وقال : يا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 49 › ( 1 ) الروض النضير ( 5 / 13 ) وانظر الكنى للدولابي ( 1 / 78 ) . ( 2 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 95 ) عن المنتخب للطريحي . ‹ هامش ص 50 › ( 1 ) مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزمي ( 2 / 71 ) . ‹ هامش ص 52 › ( 1 ) في نقل ( كامل البهائي ) : ( من حمل الركن ) وفسر بالحجر الأسود الذي محله الركن ، ولذلك ذكر في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة . ‹ هامش ص 53 › ( 1 ) ما بين القوسين عن ( الكامل للبهائي ) . ‹ هامش ص 54 › ( 1 ) مقتل الحسين ( 2 / 69 - 71 ) ونقل عن كتاب ( كامل البهائي ) بنص متقارب نقله الحائري في بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 106 - 109 ) ونقل بعده نصا آخر للخطبة عن أبي مخنف فليلاحظ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 54 - 60 يزيد ، محمد هذا جدي أم جدك ؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت . وإن قلت إنه جدي ، فلم قتلت عترته ؟ ( 1 ) . فأدى كلام الإمام عليه السلام إلى أن تتبخر كل الدعايات المضللة التي روجتها السياسة الأموية ، والتي تركزت على : أن الأسرى هم من الخوارج ! فبدل نشوة الانتصار إلى حشرجة الموتى في حلوق المحتفلين ! وفي التزام الإمام السجاد عليه السلام بذكر هويته الشخصية فقط في هذه الخطبة ، حكمة وتدبير سياسي واع ، إذ لم يكن له في مثل هذا المكان والزمان ، أن يتطرق إلى شئ من القضايا الهامة ، وإلا كان يمنع من الكلام والنطق ، وأما الإعلان عن اسمه فهي قضية شخصية ، وهو من أبسط الحقوق التي تمنح للفرد وإن كان في حالة الأسر . لكن كلام الإمام لم يكن في الحقيقة إلا مليئا بالتذكير والإيماء ، بل الكناية التي هي أبلغ من التصريح ، بنسبه الشريف ، واتصاله بالإسلام ، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم . وقد ذكر الإمام عليه السلام بكل المواقع الجغرافية ، والمواقف الحاسمة والذكريات العظيمة في الإسلام ، وربط نفسه بكل ذلك ، فسرد - وبلغة شخصية - حوادث تاريخ الإسلام ، معبرا بذلك عن أنه يحمل هموم ذلك التاريخ كله على عاتقه ، وأنه حامل هذا العب ء ، بكل ما فيه من قدسية ، ومع هذا فهو يقف ( أسيرا ) أمام أهل المجلس ! وقد فهم الناس مغزى هذا الكلام العميق ، فلذلك ضجوا بالبكاء ! فإن الحكام ‹ صفحة 55 › الأمويين إنما حصلوا على مواقع السلطة من خلال ربط أنفسهم بالإسلام ، فكسبوا لأنفسهم قدسية الخلافة ! وكان لجهل الناس الأثر الكبير في وصول الأمر إلى هذه الحالة ، أن يروا ابن الإسلام أسيرا أمامهم ! ثم إن جهل أهل الشام بأهل البيت ، مضافا إلى حقد الحكام على أهل البيت عامة ، وعلى الذين كانوا مع الحسين عليه السلام في كربلاء خاصة ، كان يدعو إلى الاحتياط ، والحذر من أن ينقض يزيد على الأسرى ! في ما لو أحس بخطرهم ، فيبيدهم ! فكان ما قام به الإمام من تأطير خطبته بالإطار الشخصي مانعا من إثارة غضبه وحقده ، لكن لم يفت الإمام اقتناص الفرصة السانحة لكي يبث من خلال التعريف ، بشخصه وهويته ، التنويه بشخصيته وبقضيته وبهمومه ، ولو بالكناية التي كانت - حقا - أبلغ من التصريح . فلذلك لم يتعرض الإمام عليه السلام لذكر مساوئ الأمويين ، ولم يذكر شيئا من فضائحهم ، بالرغم من ( توقع يزيد ) نفسه لذلك . وبذلك نجا من شر يزيد ، وبقي ليداوم اتباع الهدف الذي من أجله قتل الشهداء بالأمس ، وأصبح - هو - يقود مسيرة الأحياء ، اليوم ، وغدا . . . وموقف آخر : في وسط ذلك الجو الخانق ، وفي عاصمة الحاكم المنتصر ، وفي حالة الأسر ، يرفع الإمام صوته ، ليسمع الآذان التي أصمها الضوضاء والصخب ، في ما رواه المنهال بن عمرو ، قال : دخلت على علي بن الحسين ، فقلت : كيف أصبحت ، أصلحك الله ؟ ! فقال : ما كنت أرى شيخا من أهل المصر - مثلك - لا يدري : كيف أصبحنا ! ؟ قال : فأما إذا لم تدر - أو تعلم – فأنا أخبرك : أصبحنا - في قومنا - بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، إذ كانوا * ( يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ) * وأصبحنا : شيخنا وسيدنا يتقرب إلى عدونا بشتمه ، وبسبه ، على المنابر . ‹ صفحة 56 › وأصبحت قريش تعد ( 1 ) : أن لها الفضل على العرب ، لأن محمدا منها ، لا يعد لها فضل إلا به ، وأصبحت العرب مقرة ( 2 ) لهم بذلك . وأصبحت العرب تعد ( 3 ) أن لها الفضل على العجم ، لأن محمدا منها ، لا يعد لها فضل إلا به ، وأصبحت العجم مقرة ( 4 ) فإن كانت العرب صدقت أن لها الفضل على العجم ، وصدقت قريش أن لها الفضل على العرب لأن محمدا منها : إن لنا - أهل البيت - الفضل على قريش ، لأن محمدا منا . فأضحوا يأخذون بحقنا ، ولا يعرفون لنا حقا . فهكذا أصبحنا ، إن لم يعلم : كيف أصبحنا ؟ ! قال المنهال : فظننت أنه أراد أن يسمع من في البيت ! ( 5 ) ويصرح في موقف مماثل يسأل فيه عن الركب الذي هو فيه ، فيقول : ( إنا من أهل البيت ، الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم ، فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم : * ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) * [ سورة الشورى 42 الآية ( 23 ) ] فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت ( 6 ) . إلى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثر حاسم في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الركب المأسور ، حتى أرجعه إلى المدينة ! إن هذه المواقف لم تكن تصدر من قلب ملئ رعبا ، أو شخص يفضل السلامة ، أو يميل إلى الهدوء والراحة ، بله المسالمة مع العدو أو الركون إلى الظالمين ‹ صفحة 57 › إنما صاحب هذه المواقف ذو روح متطلعة وثابة هادفة ، إذا لم يتح له - بعد كربلاء - أن يأخذ بقائمة السيف ، فسنان المنطق لا يزال في قدرته ، يهتك به ظلام التعتيم الإعلامي المضلل ! وقد اتبع الإمام السجاد عليه السلام هذه الخطة بحكمة وتدبير عن علم بالأمر ، وعمد له ، وكشف عن أنه انتهجه سياسة مدبرة مدروسة . فلما سئل عن : ( الكلام ، والسكوت ) أيهما أفضل ؟ لم يدل بما يعتبره الحكماء من : أن الكلام إذا كان من فضة فالسكوت من ذهب ، وإنما قال : ( لكل واحد منهما آفات ، وإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت ) . ولما سئل عن سبب ذلك مع مخالفته لاعتبار الحكماء المستقر في أذهان الناس من فضل السكوت ؟ قال : ( لأن الله - عز وجل - ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، وإنما بعثهم بالكلام . ولا استحقت الجنة بالسكوت . ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت . ولا توقيت النار بالسكوت . ولا يجنب سخط الله بالسكوت . إنما كله بالكلام ! وما كنت لأعدل القمر بالشمس ! إنك تصف فضل السكوت بالكلام ، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت ! ( 1 ) وهكذا طبق الإمام عليه السلام هذه الحكمة البالغة ، وأدى رسالته الإلهية من خلال خطبه وكلماته ومواعظه وأحاديثه ، في جميع المواقف العظيمة التي وقفها ، وهو في الأسر . وإذا كان الظالمون يعتدون على المصلحين والأحرار بالقتل والسجن ، فإنما ذلك ليخنقوا كل صوت في الحناجر ، ولئلا يسمع الناس حديثهم وكلامهم ( 2 ) . ‹ صفحة 58 › وإذا ذبح الحسين عليه السلام وقتل في كربلاء ، فإن نداءاته ظلت تدوي من حنجرة الإمام السجاد عليه السلام في مسيرة الأسرى ، وفي قلب مجالس الحكام . وليس من الإنصاف ، في القاموس السياسي ، أن يوصف من يؤدي هذا الدور ، بالانعزال عن السياسة ، أو الابتعاد عن الحركة والنضال ! بل ، إذا كانت حركة الإمام الحسين عليه السلام سياسية ، كما هي كذلك بلا ريب فكما قال القرشي : إن الإمام زين العابدين عليه السلام من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية ، وتفاعلها مع عواطف المجتمع وأحاسيسه ، وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا في دنيا الشجاعة والبطولات ! أما خطابه في بلاط يزيد فإنه من أروع الوثائق السياسية في الإسلام ( 1 ) . وبرز الإمام زين العابدين عليه السلام على مسرح الحياة الإسلامية كألمع سياسي إسلامي عرفه التاريخ ، فقد استطاع بمهارة فائقة - وهو في قيد المرض والأسر - أن ينشر أهداف الثورة العظمى التي فجرها أبوه الإمام الحسين القائد الملهم للمسيرة الإسلامية الظافرة ، فأبرز قيمها الأصلية بأسلوب مشرق كان في منتهى التقنين ، والأصالة ، والإبداع ( 2 ) . ‹ صفحة 59 › |
ثالثا :
في المدينة رجع الإمام السجاد إلى المدينة : ليرى المدينة واجمة ، موحشة من أهله وذويه ، رجالات أهل البيت عليهم السلام ، والناس كذلك واجمون ، بعد أن رأوا ركب أهل البيت يرجع ليس فيهم إلا علي بن الحسين عليه السلام ، وليس معه إلا أطفال ونساء ! ! أما الرجال فقد ذبحوا على يد العصبة الأموية ! ؟ وإذا لم يتورع آل أمية من إراقة دم الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هكذا ، وفي وضح النهار ، وهو من هو ! فمن سوف يأمن بغيهم وسطوتهم ! ؟ إن الإمام السجاد عليه السلام ، وهو الوارث الشرعي لدماء كل المقتولين ، الشهداء الذين ذبحوا في كربلاء ، وهو الشاهد الوحيد على كل ما جرى في تلك الواقعة الرهيبة ، لا بد أن عين الرقابة تلاحقه ، وتتربص به ، وتنظر إلى تصرفاته بريبة واتهام . والناس - على عادتهم في الابتعاد والتخوف من مواضع التهمة ، ومواقع الخطر - قد تركوا علي بن الحسين ، وابتعدوا عنه ، حتى من كان يعلن الحب لأهل البيت عليهم السلام قبل كربلاء ، لم يكد يفصح عن وده بعد كربلاء . وقد عبر الإمام السجاد عليه السلام عن ذلك بقوله : ( ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا ) ( 1 ) وإذا كان عدد الملتزمين بالولاء الصادق لأهل البيت ، في عاصمة الإسلام قليلا إلى هذا الحد ، فكيف بالبلدان القاصية عن مركز وجود أهل البيت عليهم السلام ؟ ! وقد رجع الإمام السجاد عليه السلام حاملا معه أعباءا ثقالا : فأعباء كربلاء ، بمآسيها ، وذكرياتها ، وأتعابها ، وجروحها ، والأثقل من كل ذلك ( أهدافها ) ونتائجها ، فقد هبط المدينة وهو الوحيد الباقي من رجال تلك المعركة ، ‹ صفحة 60 › فعليه أداء رسالتها العظيمة . وأعباء العائلة المهضومة ، المكثورة ، ما بين ثكالى وأرامل وأيتام ، ودموع لا بد أن يكفكفها ، وعواطف مخدوشة ، وقلوب صغيرة مروعة ، وعيون موحشة ، وجروح وأمراض وآلام ، تحتاج إلى مداراة ومداواة والتيام ! ولا بد أن يسترجع القوى ! وأعباء الإمامة ، تلك المسؤولية الإلهية ، والتاريخية الملقاة على عاتقه ، والتي لا بد أن ينهض بها ، فيلملم كوادرها ويردم الصدمات العنيفة التي هز كيانها ، ويرأب الصدع الذي أصاب بناء نظام الإمامة الشامخ ، الذي يمثل الخط الصحيح للإسلام . ولقد حمل الإمام السجاد عليه السلام ، في وحدته ، كل هذه الأعباء ، وبفضل حكمته وتدبيره خرج من عهدتها بأفضل الأشكال . ففي السنين الأولى : وقبل كل هذه المهمات الهائلة الثقال ، وبعدها : كانت ملاحقة الدولة ، أهم ما كان على الإمام السجاد عليه السلام أن يوقفها عند حد ، حتى يتمكن من أداء واجب تلك الأعباء . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 54 › ( 1 ) مقتل الحسين ( 2 / 69 - 71 ) ونقل عن كتاب ( كامل البهائي ) بنص متقارب نقله الحائري في بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 106 - 109 ) ونقل بعده نصا آخر للخطبة عن أبي مخنف فليلاحظ . ‹ هامش ص 56 › ( 1 ) كذا الصواب وكان في المختصر : ( بعد ) . ( 2 ) كذا الصواب وكان في المختصر : ( معيرة ) . ( 3 ) كذا الصواب وكان في المختصر : ( بعد ) . ( 4 ) كذا الصواب وكان في المختصر : ( معيرة ) . ( 5 ) تاريخ دمشق ( الحديث 120 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 245 ) ورواه الحافظ محمد بن سليمان في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام ( ج 2 ص 108 ) رقم ( 598 ) ولاحظ طبقات ابن سعد ( 5 / 219 ) . ورواه السيد الموفق بالله في الاعتبار وسلوة العارفين ( ص 186 ) . ( 6 ) المستدرك على الصحيحين ، للحاكم ( 3 : 172 ) . ‹ هامش ص 57 › ( 1 ) الاحتجاج للطبرسي ( ص 315 ) . ( 2 ) لاحظ أن الحجاج ختم على مجموعة من الصحابة كي لا يسمعهم الناس ، في أسد الغابة ( 2 : 471 ) ترجمة سهل الساعدي . ‹ هامش ص 58 › ( 1 ) حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي ( 1 : 8 ) . ( 2 ) حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي ( 1 : 7 ) . ‹ هامش ص 59 › ( 1 ) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 4 : 140 ) . ولاحظ الغارات للثقفي ( ص 573 ) وبحار الأنوار ( 46 / 143 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 60 - 66 ء الصعبة بشكل صحيح ومطلوب . ولا بد أن أصابع الاتهام كانت موجهة إليه ما دام موجودا في المدينة ، أو أي بلد إسلامي آخر ، تلاحق حركاته وسكناته ، وتحصي أنفاسه وكلماته . الإجراء الفريد : فلذلك اتخذ إجراءا فريدا في حياة الأئمة ، وبأسلوب غريب جدا ، لمواجهة الموقف ، ولإبعاد نفسه عن وجهة تلك الاتهامات والملاحقات التي لا يمكن صرفها هي ولا تغيير وجهتها . فأبعد بذلك الإجراء الأخطار الموجهة إليه من الملاحقات ، وبدأ بعيدا عنها بالاستعداد لما يتوجبه حمل تلك الأعباء ، ويتأهب للقيام بدوره ، كوارث لكربلاء ، وكمعيل كفيل لعوائل الشهداء ، وكإمام يقود الأمة ويحافظ على تعاليم السماء . كان ذلك الإجراء الفريد أنه اتخذ بيتا من ( شعر ) في البادية ، خارج المدينة ! ‹ صفحة 61 › قال ابن أبي قرة في ( مزاره ) بسنده عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين عليه السلام ، قال : كان أبي علي بن الحسين عليه السلام ، قد اتخذ منزله - من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي عليه السلام - بيتا من شعر ، وأقام بالبادية ، فلبث بها عدة سنين ، كراهية لمخالطة الناس ( 1 ) وملاقاتهم . وكان يصير من البادية بمقامه إلى العراق زائرا لأبيه وجده عليهما السلام ، ولا يشعر بذلك من فعله ( 2 ) . إنه تصرف غريب في طول تاريخ الإمامة ، لم نجد له مثيلا ، لكنه - كما تكشف عنه الأحداث المتتالية - عمل عظيم ينم عن حنكة سياسية ، وتدبير دقيق للإمام عليه السلام . فإذا كان الإمام عليه السلام يعيش خارج المدينة ، وكان ينزل البادية : فإن الدولة لا تتمكن من اتهامه بشئ يحدث في المدينة ، ويكون من العبث ملاحقته وملاحظته ، في محل مكشوف مثل البادية ! وأما هو عليه السلام : فخير له أن يتخذ منتجعا مؤقتا بعيدا عن الناس ، حتى تهدأ الأوضاع وتستقر ، وتعود المياه إلى مجاريها . وبعيدا عن الناس ، للاستجمام ، ولاستجماع قواه ، كي ينتعش مما أبلاه في سفره ذلك من النصب والتعب ، ليتمكن من مداومة مسيره - بعد ذلك - بقوة وجد . وهو عليه السلام بحاجة بعد ذلك العناء والضنى إلى راحة جسدية ، وهدوء بال وخاطر ، حتى يبل من مرضه أو يداوي جراحاته . ثم ، إن المدينة التي دخلها الإمام السجاد عليه السلام وهو غلام ابن ( 23 ) سنة - أو نحو ذلك - لم تكن لتعرف للإمام مكانته كإمام ، وهو - بعد - لم يعاشرهم ، ولم يداخلهم ، وما تداولوا حديثه ، ولم تظهر لهم خصائصه ، كي ينطلقوا معه كقائم بالإمامة ! ولعدم وجود العدد اللازم من الأعوان والأنصار ، بالقدر الكافي لإعداد حركة ‹ صفحة 62 › مستقلة يعلنها الإمام ، وحفاظا على العدد الضئيل الباقي على ولائه للإمام . فقد بنى الإمام زين العابدين عليه السلام سياسته ، في ابتداء إمامته على أساس الابتعاد عن الناس ، ودعوتهم إلى الابتعاد عنه عليه السلام . وقد أعلن الإمام عن هذه السياسة ، في أول لقاء له مع مجموعة من شيعته ومواليه في الكوفة ، عندما عرضوا عليه ولاءهم ، وقالوا له بأجمعهم : نحن كلنا يا بن رسول الله ، سامعون ، مطيعون ، حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك ، رحمك الله ، فإنا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، لنأخذن ترتك وترتنا ممن ظلمك وظلمنا . فقال عليه السلام : هيهات . . . ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا ( 1 ) . إن الإمام عليه السلام أخذ عليهم ، سائلا ، أن يأخذوا في تلك الفترة جانب الحياد تجاه أهل البيت عليهم السلام ، لا لهم ، ولا عليهم . إذ ، لو رأت السلطة أدنى تجمع حول الإمام عليه السلام ، لاتخذت ذلك مبررا لها أن تستأصل وجوده ومن معه ، فإن من الهين عليها قتل علي بن الحسين وهو ضعيف ، بعد أن قتلت الحسين عليه السلام وهو أقوى موقعا في الأمة ! كان مغزى هذا التدبير السياسي المؤقت : أن لا يبقى الإمام عليه السلام داخل المدينة ، حتى لا تلاحقه أوهام الدولة وتخمينات رجالها وحتى يبتعد عن ظنونهم السيئة ، بل خرج إلى فضاء البادية المفتوح ، وخارج البلد ، يسكن في بيت من ( شعر ) ليرفع عن نفسه سهام الريب ، ويدفع عن ساحته اهتمام رجال الدولة ، كوارث للشهداء . ولقد طالت هذه الحالة ( عدة سنين ) حسب النص ، ولعلها بدأت من سنة ( 61 ) عندما رجع أهل البيت إلى المدينة ، وحتى نهاية سنة ( 63 ) عندما انتهت مجزرة الحرة الرهيبة . ‹ صفحة 63 › وأما بعد هذه الفترة ، فلم يعرف عن هذا البيت من الشعر خبر في تاريخ الإمام عليه السلام ، ولا أثر ! وأبرز ما أثمرته هذه الظاهرة الغريبة ، أن القائد الأموي السفاك مسلم بن عقبة ، في هجومه الوحشي الكاسح على المدينة وأهلها ، لم يمس الإمام بسوء ، وعده ( خيرا لا شر فيه ) . وواضح ، أن المراد من ( الخير والشر ) في منطق هذا الأموي السفاح ، ما هو ؟ مع أن الإمام كان مستهدفا بالذات في ذلك الهجوم ، كما سنوضحه في ما بعد ! ولقد استنفد الإمام السجاد عليه السلام جل أغراضه وأهدافه من هذا الإجراء الفريد ، فرجع إلى المدينة ، وقد انقلبت ظنون رجال الحكم السيئة ، إلى حالة مألوفة ، وأصبح الإمام في نظرهم مواطنا ، يمكنه أن يسكن المدينة ، من دون أن تنصب له الدوائر ، ولا أن تجعل عليه العيون . بل ، انقلب البغض الدفين ، الذي كان يكنه الأمويون تجاه بني هاشم ، وركزه معاوية في أهل بيت الرسول ، وصبه على أمير المؤمنين علي وأولاده ، وجسده يزيد في الفاجعة المروعة بقتل شيخ العترة وسيدها الحسين بن علي عليه السلام ، وقتل خيرة رجالات أهل بيته ، وأصحابه ، في مجزرة كربلاء . انقلب كل ذلك - في نهاية المطاف - بفضل سياسة الإمام زين العابدين عليه السلام ، إلى أن يكون علي بن الحسين أحب الناس إلى حكام بني أمية ( 1 ) . وبهذا يمكن أن نفسر النص الوارد في إعلام إمامة علي بن الحسين عليه السلام المعروف بحديث اللوح الذي رواه جابر بن عبد الله الأنصاري حيث جاء فيه : ( أطرق ، واصمت ، والزم منزلك ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) ( 2 ) . فلا بد أن تحدد فترة ذلك بأول عهد إمامة الإمام السجاد عليه السلام حين كان يواجه . ‹ صفحة 64 › تلك الأخطار والتهديدات . و ( الإطراق ) و ( الصمت ) معبران عن التزام السكون ، والهدوء ، والتخطيط للمستقبل ، والابتعاد عن لقاء الناس . وهذا هو الذي عبر عنه إسماعيل بن علي أبو سهل النوبختي بقوله : وقتل الحسين عليه السلام وخلف علي بن الحسين عليه السلام متقارب السن - كانت سنه أقل من عشرين سنة ! – ثم انقبض عن الناس ، فلم يلق أحدا ، ولا كان يلقاه إلا خواص أصحابه ، وكان في نهاية العبادة ، ولم يخرج عنه من العلم إلا يسير ، لصعوبة الزمان وجور بني أمية ( 1 ) فهو شرح عيني لحالة هذه الفترة بالذات . وإلا ، فإن الفترة التالية من حياة الإمام السجاد عليه السلام نراها مليئة بكل أغراض الكلام والخطب والأدعية والمواعظ . فأين الصمت ! ؟ ونجد في حياته الأسفار المكررة إلى الحج ، والنشاط العملي الجاد في الإنفاق ، والإعتاق ، والحضور في المسجد النبوي ، والخطبة كل جمعة ، والمراسلات والمساجلات والاحتجاجات . فأين الإطراق ! ؟ ولا يمكن لأحد أن يعبر عن العلم الذي خرج عن الإمام عليه السلام بأنه ( يسير ) وهو يجد أمامه : الصحيفة السجادية ، ورسالة الحقوق ، ومناسك الحج ، مضافا إلى الخطب والكلمات الرسائل التي احتوتها ( بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ) وجمعتها كتب تراثية عديدة ( 2 ) ‹ صفحة 65 › وجمع أسماء من روى عنه في كتب أخرى ( 1 ) ومجموع من ذكرهم الشيخ الطوسي - فقط - من الرواة عن الإمام عليه السلام بلغوا ( 170 ) راويا ( 2 ) . ولا ريب أن مجموع هذا العلم ليس يسيرا ، فلا بد أن يكون ذلك قد حصل بعد تلك الفترة القصيرة فقط . إن كل تلك الفعاليات الكلامية – والعملية لمما يتيقن معها بأن الإمام السجاد عليه السلام - بعد تلك الفترة - لم يسكن مطرقا ، ولم يسكت صامتا ، ولم ينعزل عن الناس ، بل زاول نشاطا واسعا في الحياة العامة ، بل - كما ذكره النسابة - قد روى الحديث ، وروي عنه ، وأفاد علما جما ( 3 ) . وستتكفل الفصول القادمة في هذا الكتاب ذكر الشواهد على كل هذا النشاط بعون الله . |
ومع وقعة الحرة : ورجع الإمام السجاد عليه السلام إلى المدينة : ليستقبله أهلها ، بالبكاء والتعزية ، ويستفيد الإمام من هذه العواطف لينشر أنباء حوادث كربلاء ، ويركزها في الأذهان من طريق القلوب ، كي لا يطالها التشويش والإنكار ، بمرور الأعصار ، كما طال كثيرا من الوقائع والحوادث ، فأصبحت مغمورة أو مبتورة ! فأرسل بشر بن حذيم ( 4 ) إلى المدينة وأهلها ناعيا الحسين عليه السلام ومعرفا إياهم بمكان الإمام السجاد عليه السلام . قال بشر : فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن ، . . . ، فلم ‹ صفحة 66 › أر باكيا أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوما أمر على المسلمين منه . قال : فخرج علي بن الحسين ، ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسي ، فوضعه له وجلس عليه ، وهو لا يتمالك عن العبرة ، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء ، وحنين النسوان والجواري ، والناس يعزونه من كل ناحية ، فضجت تلك البقعة ضجة واحدة ، فأومأ بيده : أن اسكنوا ، فسكنت فورتهم ، فقال : ( الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السماوات العلا ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة ، الكاظة ، الفادحة الجائحة . أيها القوم ! إن الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبد الله ، الحسين ، وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية . أيها الناس ! فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله ؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله ؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها ، وتضن عن انهمالها ؟ فلقد بكت . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 61 › ( 1 ) يلاحظ أن كلمة ( الناس ) في حديث أهل البيت : عليهم السلام - خاصة - يطلق على غير المعتقدين بالإمامة ، في أغلب الأحيان . ( 2 ) فرحة الغري ، لابن طاوس ( ص 43 ) الإمام زين العابدين ، للمقرم ( ص 42 ) ولاحظ الكافي للكليني ، قسم الروضة ( ص 255 ) حيث جاء فيها حديث زيارة الإمام السجاد لقبر أمير المؤمنين عليه السلام ولقاء أبي حمزة الثمالي له ، فليلاحظ . ‹ هامش ص 62 › ( 1 ) الاحتجاج للطبرسي ( ص 306 ) وانظر اللهوف لابن طاوس ( ص 6 - 67 ) ويبدو أن هذا الاجتماع كان بعد عودة الإمام عليه السلام من الشام إلى الكوفة أو في بعض أسفاره السرية إلى العراق ! . وانظر فضل الكوفة من مزار ابن المشهدي ( ص 78 ) . ‹ هامش ص 63 › ( 1 ) كان علي بن الحسين أحب الناس إلى مروان وابنه عبد الملك . طبقات ابن سعد ( 5 : 159 ) تاريخ دمشق ( الأحاديث 38 - 40 ) وابن كثير في البداية والنهاية ( 9 : 106 ) وتذكرة الحفاظ ( 1 : 75 ) . ( 2 ) الإمامة والتبصرة من الحيرة ، لابن بابويه ( ص 167 ) الحديث ( 20 ) ، وانظر مصادر تخريجه . ولاحظ أمالي الطوسي ( 1 / 297 ) ‹ هامش ص 64 › ( 1 ) نقله الصدوق في إكمال الدين ( ص 91 ) عن كتاب ( التنبيه ) للنوبختي . ( 2 ) لاحظ تدوين السنة الشريفة ( ص 150 - 152 ) وراجع معجم ما كتب . . . للرفاعي بالأرقام : 20397 باسم ( التذكرة ) و 20415 باسم التعقيبات ، و 20482 باسم الديوان و 20688 باسم المخمسات ، و 20733 - 20736 باسم ( الندبة ) و 20737 و 20738 باسم نسخة . ‹ هامش ص 65 › ( 1 ) لاحظ معجم ما كتب بالأرقام : 20483 باسم ذكر من روى عن الإمام عليه السلام للصدوق ، و 20714 كتاب من روى عنه عليه السلام لابن عقدة . ( 2 ) رجال الطوسي ( ص 107 - 120 ) الأرقام ( 1058 - 1228 ) وهم مائة وسبعون راويا ، لعلم الإمام عليه السلام . ( 3 ) المجدي في أنساب الطالبيين ( ص 92 ) . ( 4 ) كذا في بعض نسخ المصدر ، ويظهر من هذه الرواية أن أباه كان شاعرا وقد ترحم عليه الإمام عليه السلام ، وفي أصحابه : حذيم بن شريك الأسدي ، وجاء في نسخ أخرى : بشير بن حذلم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 66 - 72 السبع الشداد لقتله ! وبكت البحار بأمواجها ! والسماوات بأركانها ! والأرض بأرجائها ! والأشجار بأغصانها ! والحيتان في لجج البحار ! والملائكة المقربون ! وأهل السماوات أجمعون ! أيها الناس ! أصبحنا مشردين ، مطرودين ، مذودين ، شاسعين عن الأمصار ، كأننا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلا اختلاق . والله ! لو أن النبي تقدم إليهم في قتالنا ، كما تقدم إليهم في الوصية بنا ، لما زادوا على ما فعلوا بنا . فإنا لله وإنا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها ، وأفجعها ، وأكظها ، وأفظعها ، وأمرها ، وأفدحها ! ‹ صفحة 67 › فعنده نحتسب ما أصابنا ، فإنه عزيز ذو انتقام ( 1 ) . ولم تذكر المصادر شيئا عن رجالات المدينة المعروفين ، إلا أن صوحان بن صعصعة بن صوحان قام فاعتذر إليه ، فترحم الإمام على أبيه ! والظاهر أن رجال المدينة اكتفوا في مواجهة الإمام السجاد عليه السلام بالعواطف الحارة فقط ، وأنهم لم يتجاوزوا ذلك ، إذ لم يجدوا مبررا في التورط مع الحكومة ، ولو بعد قتل الحسين عليه السلام بهذه الصورة التي شرحها لهم الإمام السجاد عليه السلام . ويظهر من البيان الذي أصدره أهل المدينة عند تحركهم ضد يزيد وحكومته أنهم قبل ذلك لم يعرفوا من يزيد ما ينكر من فعل أو ترك ، حتى وفدوا عليه ، وحضروا بلاطه ، ورأوا بأم أعينهم ما رأوا ، فرجعوا ، وثاروا عليه . وقد جاء في إعلانهم الأول ما نصه : ( إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، ويعزف بالطنابير ، وتضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسامر الخراب ، والفتيان ، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه ) . وأتوا عبد الله بن الغسيل ، فبايعوه وولوه عليهم ( 2 ) . فليس في بيانهم ذكر الحسين عليه السلام ، ولا الظلم الذي جرى على أهل البيت عليهم السلام وأما الذي ذكروه من يزيد وإلحاده وفسقه وفجوره ، فقد أعلنه الإمام الحسين عليه السلام قبل سنين في كتابه إلى معاوية ( 3 ) . فأين كان أهل المدينة يومذاك ؟ ! ولماذا لم يتحركوا من أجله حينذاك ؟ ثم إن من يحركه شرب الخمر ، والفسق ، والفجور ، لماذا لا يتحرك من أجل قتل الحسين عليه السلام والفجائع التي صبت على أهل البيت عليهم السلام ، والتي أدى علي بن الحسين عليهم السلام حق بلاغها في خطبته تلك ؟ ‹ صفحة 68 › بل ، إن المسعودي يذكر : أن حركة أهل المدينة وإخراجهم بني أمية وعامل يزيد ، من المدينة ، كان عن إذن ابن الزبير ( 1 ) . فلم يكن لأهل البيت ، ولا للإمام السجاد عليه السلام ، دور ولا موقع في أهداف أهل المدينة ، وأصحاب الحرة ، لما تحركوا ضد حكم يزيد ! بينما كان دخول الإمام عليه السلام معهم - في التحرك - توقيعا على شرعية حركتهم . والحق أن أهل المدينة جفوا الإمام السجاد عليه السلام بعد كربلاء ، وهذه الحقيقة كانت واضحة ، حتى أعلنها الإمام في قوله : ( ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا ) ( 2 ) ولعل علم الإمام عليه السلام بما كان عليه أهل المدينة من ضعف وقلة ، في مواجهة ما كان عليه أهل الشام من كثرة وبطش وقسوة ، من دواعي حياده عليه السلام . مضافا إلى أن اتخاذه القرار السابق ، بالابتعاد عن المدينة ، للأسباب والمبررات التي ذكرناها سابقا ، كان كافيا لعدم تورطه في هذه الحركة . ويظهر أن الدولة التي واجهت هذه المرة حركة أهل المدينة ، كانت على علم بجفاء أهل المدينة لأهل البيت عليه السلام ، وبما أنها قد أسرفت من قبل في إراقة دماء أهل البيت عليهم السلام ، أرادت أن تستفيد من الوضع ، بالتزلف إلى علي بن الحسين والتودد إليه ، لامتصاص النقمة ، فلم تتحرش به ، بل حاولت أن يتمثل الناس به ، حسب نظر رجال الدولة ! ثم إن اختيار أهل الحرة للمدينة بالذات مركزا للتحرك ، كان من أخطر الأخطاء التي ارتكبوها ، كما أخطأ ابن الزبير في اتخاذه مكة ، والمسجد الحرام بالخصوص ، مركزا لتحركه ، حتى عرضوا هذين المكانين الحرمين المقدسين لهجمات أهل الشام اللئام وانتهاك الأمويين الحاقدين على الإسلام ومقدساته . بينما أهل البيت عامة ، بدءا بالإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام ، ومرورا بالإمام ‹ صفحة 69 › الحسين عليه السلام ، وكذلك كل العلويين الذين ثاروا على الحكام ، إنما خرجوا في حركاتهم عن الحرمين ، حفاظا على كرامتهما من أن يهدر فيهما دم ، وتهتك لهما حرمة ، وإبعادا لأهالي الحرمين من ويلات الحروب ومآسيها ، ونقمة الجيوش وبطشها ( 1 ) . وهذه مأثرة لأهل البيت عليهم السلام لا بد أن يذكرها لهم التاريخ ! لكن أهل الحرة ، لم يصلوا إلى المستوى اللائق كي يدركوا هذه الحقائق ، لبعدهم عن الإمام السجاد عليه السلام الذي كان في عمر ( 26 ) سنة . ولقد هيأ هذا البعد بين أهل المدينة والإمام السجاد عليه السلام أمرين كانا في صالح الإمام عليه السلام ، ولهما الأثر في مجاري عمله وتخطيطه للمستقبل : أحدهما : النجاة من اتهام السلطات له بالتورط في الحركة ، ولذلك لم تضعه في القائمة السوداء ، فإن الحكومة - وحسب بعض المصادر - كانت تعرف ابتعاده عنها . الثاني : تمكن الإمام عليه السلام من تخليص كثير من الرؤوس أن تقطع ، وكثير من الحرمات أن تهتك . ومن يدري ؟ فلعل اشتراك الإمام السجاد عليه السلام في تلك الحركة كان يؤدي إلى إبادة أهل البيت النبوي والعلوي ، إبادة شاملة ، تلك التي كانت من أماني آل أمية ؟ ! فتمكن الإمام السجاد عليه السلام بحياده ذلك من الوقوف في وجه هذا العمل . ولقد كان الإمام عليه السلام ملجأ للكثير من العوائل الأخرى ، حتى من عوائل بني أمية نفسها . ففي الخبر أنه عليه السلام ضم إلى نفسه أربعماءة منافية يعولهن إلى أن تفرق الجيش ( 2 ) . وكان في من آواهن عائلة مروان بن الحكم ، وزوجته هي عائشة بنت عثمان بن عفان الأموي ، فكان مروان شاكرا لعلي بن الحسين ذلك ( 3 ) . ‹ صفحة 70 › ويحاول بعض الكتاب أن يجعل من حياد الإمام عليه السلام ، وتصرفاته مع مروان ، وعدم تعرضه من قبل الجيش بسوء ، دليلا على عدم تحركه عليه السلام ضد الحكم الأموي ؟ ! لكنها محاولة مخالفة للحقيقة : فإن الإمام عليه السلام إنما ينطلق في تصرفاته ، من منطلق الحكمة والتدبير ، وما ذكرناه من الشواهد كاف لأن نبرر موقفه الحيادي من حركة الحرة ، فكل من يدرك تلك الحقائق ويقف عليها يتبين له أن التحرز من عمل تكون عواقبه مرئية وواضحة ومكشوفة ، هو الواجب والمتعين ، فلو دخل في الحركة ، فإما أن ينسحق تحت وطأة الجيش الظالم ، أو تنجح الحركة التي لم تبتن على الحق في دعواها ، وإنما تبناها من لا يعرف لأهل البيت حرمة ولا كرامة ولا حقا في الإمامة ! مع أن من النصوص ما يدل على أن الإمام كان مستهدفا : قال الشيخ المفيد : قدم مسرف ( 1 ) بن عقبة المدينة ، وكان يقال : ( إنه لا يريد غير علي بن الحسين عليه السلام ) ( 2 ) . ولا ريب أن الحكم الأموي الذي استأصل أهل البيت عليهم السلام في كربلاء ، لم يكن يخاف الإمام السجاد عليه السلام ، لما هو معلوم من وحدته وغربته ، ومع ذلك فقد كانت الدولة تراقبه ، لأنه الوارث الوحيد لأهل البيت بمالهم من ثارات ودماء ، وبما لهم من مكانة مرموقة في أعين محبيهم ، الذين يترقبون فيهم من الإمامة ! فلا ريب أن الإمام السجاد عليه السلام كان مستهدفا ! وهذا النص قبل كل شي يدل على أن الإمام السجاد عليه السلام كان في نظر الناس عنصرا معارضا للحكم والدولة ، ولم يكن مستسلما قط ، حتى كان الناس يرون أن ‹ صفحة 71 › الجيش الجرار إنما توجه بقصده إلى ( علي بن الحسين ) لا ليحترمه طبعا ! فعلي بن الحسين ، في نظر الناس ، لا يزال عدوا للدولة ، رغم انعزاله ، وابتعاده ، وعدم تورطه في الحركة ! كما يدل قول البلاذري أن علي بن الحسين عليه السلام استجار بمروان وابنه عبد الملك ، فأتيا به ليطلبا له الأمان ( 1 ) على أن الإمام عليه السلام كان يخشى من فتك مسرف بن عقبة . لكن الدولة ، التي لم تغفل عن الإمام السجاد عليه السلام كانت على علم بتصرفاته ، ولم يقع لها ما يبرر اتهامه وصب جام الغضب عليه والفتك به . ومن أجل امتصاص النقمة ، وخاصة بعد تحرك أهل المدينة ، صار رجال الدولة إلى النفاق ، لتغطية جرائمهم تجاه أهل البيت وتجاه المدينة وأهلها ، فأخذوا يعلنون التزلف إلى الإمام عليه السلام بإظهار التودد إليه ، ويكرمونه ، ويقربونه ، ويعبرون عنه ب ( الخير الذي لا شر فيه ، مع موضعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه منه ) ( 2 ) . وقال المسعودي : ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجاد ، وقد لاذ بالقبر وهو يدعو ، فأتي به إلى مسرف ، وهو مغتاظ عليه ، فتبرأ منه ومن آبائه ، فلما رآه وقد أشرف عليه ارتعد ، وقام له ، وأقعده إلى جانبه ، وقال له : سلني حوائجك ، فلم يسأله في أحد ممن قدم إلى السيف إلا شفعه فيه ، ثم انصرف عنه . فقيل لعلي : رأيناك تحرك شفتيك ، فما الذي قلت ؟ قال : قلت : اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، والأرضين وما أقللن ، رب العرش العظيم ، رب محمد وآله الطاهرين ، أعوذ بك من شره ، وأدرأ بك في نحره ، أسألك أن تؤتيني خيره ، وتكفيني شره . وقيل لمسلم : رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه ، فلما أتي به إليك رفعت منزلته ! ؟ فقال : ما كان ذلك لرأي مني ، لقد ملئ قلبي منه رعبا ( 3 ) . |
وهكذا يفرض عنصر ( الغيب ) نفسه في البحث ، ولا يمكن إبعاده لكونه واردا في المصادر المعتمدة . ‹ صفحة 72 › ونحن وإن كنا أبعدنا هذا العنصر عن ما نستشهد به ، إلا أن الذين يريدون أن يضفوا على حياة الإمام السجاد عليه السلام أشكال العبادة والزهد والحياة الروحية ، عليهم أن لا يستبعدوا هذا العنصر ! مع أن خوف الإمام عليه السلام وفزعه ، من الجيش السفاك ، ولجوءه وعوذه بالحرم الشريف ، وسب القائد الأموي له وتبرؤه منه ، أدلة كافية في إثبات أن الإمام عليه السلام كان مستهدفا ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 67 › ( 1 ) اللهوف لابن طاوس ( ص 4 - 85 ) وانظر كامل الزيارات ( ص 100 ) . ( 2 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 420 ) وانظر تاريخ الطبري ( 4 : 368 ) ولاحظ طبقات ابن سعد ( 5 : 47 ) ( 3 ) الاحتجاج للطبرسي ( 7 - 298 ) . ‹ هامش ص 68 › ( 1 ) مروج الذهب ( 3 : 78 ) . ( 2 ) شرح نهج البلاغة ( 104 : 4 ) . ‹ هامش ص 69 › ( 1 ) علق سماحة السيد بدر الدين الحوثي دام علاه هنا : ( ولعل ما صدر من الإمام النفس الزكية كان اضطراريا ، لأن قيامه أيضا كان اضطراريا ) تمت . ( 2 ) كشف الغمة للأربلي ( 2 / 7 ) وانظر ربيع الأبرار للزمخشري ( 1 : 427 ) . ( 3 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 424 ) هامش ( 1 ) . ‹ هامش ص 70 › ( 1 ) هو المتسمي باسم ( مسلم ) معدود من الصحابة ، وهذا واحد من المحسوبين على الصحابة من الفسقة والمجرمين ، سمي لعنه الله بمجرم ومسرف ، لما كان من إجرامه بأهل المدينة وإسرافه في قتلهم وإباحتها ثلاثة أيام بأمر يزيد لعنهما الله وقد سمى المدينة ( نتنة ) خلافا لرسول الله صلى الله عليه وآله الذي سماها طيبة ، مروج الذهب ( 3 : 78 ) وقد انفض فيها ألف عذراء ، دلائل البيهقي ( 6 : 475 ) . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( ص 292 ) . ‹ هامش ص 71 › ( 1 ) أنساب الأشراف ( 4 : 323 ) وانظر الأخبار الطوال للدينوري ( ص 266 ) . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( ص 260 ) . ( 3 ) مروج الذهب ( 3 : 8 ) . ‹ هامش ص 72 › ( 1 ) نقله الثعالبي في آخر كتاب ( ثمار القلوب ) بواسطة : علي جلال في ( الحسين ) ( 2 : 195 ) . ( 2 ) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123 ) رقم ( 194 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 72 - 81 إلا أن سياسته الحكيمة التي اتخذها منذ دخوله المدينة كانت من أسباب نجاته وخلاصه من المصير الذي سحق كبار أهل المدينة وأشرافها ! ومع أعباء القيادة : ورجع الإمام عليه السلام إلى المدينة : ليواجه الخطر المحدق بالإسلام ، والذي انتشر في نفوس الأمة وهو اليأس والقنوط من الدين وأهدافه ، بعد ما تعرض الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمثل هذا القتل ، وما تعرض له أهله من التشريد والسبي ، في بلاد المسلمين . فهذا الوزير عبيد الله بن سليمان كان يرى : أن قتل الحسين أشد ما كان في الإسلام على المسلمين ، لأن المسلمين يئسوا بعد قتله من كل فرج يرتجونه ، وعدل ينتظرونه ( 1 ) . هذا بالنسبة إلى أصل الإسلام . وأما بالنسبة إلى الإمامة ، وإلى أهل البيت ، وإلى الإمام عليه السلام ، فقد تفرق الناس عنهم ، وأعرضوا ، بحيث عبر الإمام الصادق عليه السلام عن ذلك : بالارتداد . قال عليه السلام : ارتد الناس بعد قتل الحسين عليه السلام إلا . . . ( 2 ) . وكان منشأ اليأس والردة : أنهم وجدوا الآمال قد تبددت بقتل القائد ، وسبي أهله ، وظهور ضعف الحق وقلة أنصاره ، هذا من جهة . ‹ صفحة 73 › ومن جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لما وجدوا الدولة على هده القوة والجرأة والقسوة ، فكيف يمكن التصدي لها ، والإمام في مثل هذا الموقع من الضعف ، فليس التقرب منه إلا مؤديا إلى الاتهام والمحاسبة ، فلذلك ابتعد الناس عن الإمام عليه السلام . لكن الإمام زين العابدين عليه السلام بخطته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد ، وقلبه إلى عنصر مطلوب ، ومفيد لنفسه ، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه . حتى أصبح ، بما ذكرنا من التصرفات ، في نظر رجال الحكم ( خيرا لا شر فيه ) . وبذلك التخطيط الموفق حافظ الإمام عليه السلام ، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة ، فقط ، بل تمكن من استعادة قواه ، واسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس ، لكونه مواطنا صالحا لا يخاف من الاتصال به والارتباط به . لأنه أصبح ( علي الخير ) ( 1 ) . وطبيعي أن يعود الناس ، وتعتدل سيرتهم مع الإمام حينئذ ، ولذلك قال الإمام الصادق عليه السلام في ذيل كلامه السابق : ( . . . ثم إن الناس لحقوا وكثروا ) ( 2 ) . إن انفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين عليه السلام وتشتت قواهم ، كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام السجاد عليه السلام بعد رجوعه إلى المدينة ، وكان عليه - لأنه الإمام ، وقائد المسيرة - أن يخطط لاستجماع القوى ، وتكميل الإعداد من جديد ، وهذا كان بحاجة إلى إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب ، وبث العزم في النفوس . وقد تمكن الإمام السجاد عليه السلام بعمله الهادئ الوادع من الإشراف على تكميل هذه الاستعادة ، وعلى هذا الإعداد ، والتمهيد ، بكل قوة ، وبحكمة وبسلامة وجد . وكما قد يكون تأسيس بناء جديد ، أسهل وأمتن من ترميم بناء متهرئ ، فكذلك ، إن بناء فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات ، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة ، والجادة في الالتفاف حولها ، والعزم على إحيائها ، هو أسهل ، وأوفر جهدا من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها ، وتصوروا إخفاق تجربتها ، وهم يشاهدون إبادة ‹ صفحة 74 › كبار حامليها ، وضعف أنصارها ، واستيلاء المعارضين عليها ، فحرفوا معالمها ، وشوهوا سمعتها ، وزيفوا أهدافها . فإن عامة الناس يقفون موضع الحيرة والشك من كل ما قيل وطرح وعرض ، ويحاولون الانسحاب والارتداد ، والوقوف على الحواشي ، ليروا ما يؤول إليه أمر القيادات المتنازعة ! فقد مني المسلمون بإخفاق ويأس مما في الإسلام من خطط تحررية ، ومخلصة من العبودية والفساد ، وذلك لما رأوا الأمويين - أعداء هذا الدين قديما ، ومناوئيه حديثا - قد استولوا على الخلافة ، وبدأوا يقتلون أصحاب هذا الدين من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والأنصار القدماء له ، ويعيثون فسادا في أرض الإسلام بالقتل والفجور ، وكل منكر ، حرمه الإسلام . وإذا كان صاحب الحق ، منحصرا في الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام ، الذي قام النص على إمامته ، وهو وارث العترة ، وزعيم أهل البيت في عصره ، فهو الإمام الحامل لثقل الرسالة على عاتقه ، فلا بد أن يدبر الخطة الإصلاحية ، ليجمع القوى ، ويلملم الكوادر المتفرقة ، ويعيد الأمل إلى النفوس اليائسة ، والرجاء إلى العيون الخائبة ، والحياة إلى القلوب الميتة . إلى جانب مقاومته للأعداء ، وتفنيد مزاعمهم واتهاماتهم ، والكشف عن مؤامراتهم ودسائسهم ، وتبديد خططهم وأحابيلهم ! إن أئمة أهل البيت عليهم السلام - مع مالهم من مآثر العلم والمجد والإمامة ، التي أقر بها لهم جميع الأمة - هم يهتمون بغرز معاني النضال والجهاد في نفوس أبنائهم منذ نعومة أظفارهم ، ليرسخوا في نفوسهم أمجاد الإسلام . والإمام عليه السلام قد استلهم الإسلام بكل ما له من معارف ومآثر علمية وعملية ، فأخذها من مصادرها الأمينة الموثوقة . وهم آباؤه الطاهرون . وكان في طليعة ما أخذ من المعارف هو مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه ، كما في الحديث عن عبد الله بن محمد بن علي ، عن أبيه . قال : سمعت علي بن الحسين يقول : ‹ صفحة 75 › كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه كما نعلم السورة من القرآن ( 1 ) . فتلقن الإمام السجاد عليه السلام أمثل صور الجهاد والنضال في سبيل الله ومن أجل الإسلام ، فرسمها في قرارة نفسه منذ الطفولة . وبعد أن رأى بأم عينيه - في كربلاء - بطولات أبيه الإمام الحسين عليه السلام وجهاد أصحابه الأوفياء ، في سبيل إعلاء كلمة الله ، لم يكن ليرفع اليد عن محاولة تطبيق تلك الصور الفريدة ، والتخطيط للوصول إلى نتائجها الغالية . |
ولقد بدأ الإمام السجاد عليه السلام في الفصول التالية ، من جهاده وجهوده ، لتحقيق هذه الأهداف السامية . وحاولنا - نحن - بقدر وسعنا ، لجمع ما انتشر من أنبأ ذلك الجهاد ، وتلك الجهود ، في المجالات العملية والعلمية ، بعون الله وتوفيقه . ‹ صفحة 77 › الفصل الثاني النضال الفكري والعلمي أولا : في مجال القرآن والحديث ثانيا : في مجال الفكر والعقيدة ثالثا : في مجال الشريعة والأحكام وأخيرا : في إعمار الكعبة المعظمة ‹ صفحة 79 › يكاد المؤرخون لحياة الإمام السجاد عليه السلام ، لا سيما الدارسون الاجتماعيون ، الذين يريدون إبعاد الإمام عن الحياة السياسية ، يتفقون على أن الإمام عليه السلام : ( انكب على الشؤون الدينية ، ورواية الحديث ، والتعليم ) ( 1 ) وأن مهمته كانت : ( الانصراف إلى بث العلوم ، وتعليم الناس ، وتربية المخلصين ، وتخريج العلماء والفقهاء ، والإشراف على بناء الكتلة الشيعية ) ( 2 ) . ولا ريب في أن الإمام السجاد عليه السلام قام بدور بليغ في هذه المجالات كلها ، ولكن لم تكن - قط - هذه الأمور خارجة عن العمل السياسي ، أو بديلا عن العمل السياسي ! بل ، إن هذه الواجبات هي من أهم وظائف الأنبياء والأئمة بل المصلحين السياسيين من البشر ، بأن يقوموا بها ، ويبلغوا بالأمم والشعوب إلى مستويات راقية فيها ، خاصة التعاليم الإلهية التي من أجلها بعثوا ، ولها عينوا ، وبتبليغها وبثها كلفوا ، وهم طريق معرفة الناس بها ، والأمناء الوحيدون عليها . والتعليم الصحيح هو واحد من طرق النضال ، فكل مناضل يعلم - بوضوح - أن من مقومات كل حركة سياسية ، هو تثقيف الجماهير ، وتوعيتها ، بالتعليم والتلقين ، لتكون على علم بما يجري حولها وما يجب لها من حقوق وما عليها من واجبات . وقد سعى الحكام الفاسدون - على طول التاريخ - إلى إبعاد الناس عن الحق ، والتعاليم الأصيلة ، بطرق شتى : ‹ صفحة 80 › منها : التصدي للذين يبلغون رسالات الله ، بالضغط ، والأسر ، والتشريد ، والحبس ، وحتى القتل . ومنها : تزييف الأديان وتحريفها بالبدع والخرافات ، وبث التعاليم الباطلة ، والعمل من أجل ترويجها . ومنها : منع تثقيف الناس ، حذرا من تنبههم إلى ما هم عليه من خلل ونقص في الحياة المادية ، وما هم فيه من ذل ومهانة في الحياة المعنوية . ومنها : محاولة استيعاب أجهزة التعليم ، بوضع المناهج التعليمية المشبوهة والمحرفة . وهكذا تضييع جهود القائمين على التعاليم ، بشراء الضمائر ، وغسل الأدمغة والعقول ، وتفريغها من الرؤى الصائبة ، وملئها بالأفكار الفاسدة والمنحرفة . وقد استعمل معاوية هذا الأسلوب بكل جرأة لما استولى على أريكة الخلافة ، فعمم كتابا على أقطار نفوذه ، يأمر فيه الولاة بوضع الأحاديث والروايات واختلاقها ، وبثها بين الناس في المدارس والمساجد والكتاتيب والبيوت ، ليربي جيلا ناشئا مشبعا بتلك التعاليم المزورة في صالح الأمويين ، والتي تعارض التعاليم الإسلامية الأصيلة ( 1 ) . فوجود المعلمين المناهضين لتلك الخطط الهدامة ، وتلك المناهج التعليمية الفاسدة ، يكون صدا سياسيا للأنظمة الحاكمة ، ويكون عملهم جهادا ونضالا سياسيا ، بلا ريب . وإن الحكومات الفاسدة ، من أجل تنفيذ خططها في تحريف الدين وإغواء الناس وإبعادهم عن العلماء المصلحين ، اصطنعت من علماء السوء رجالا مقنعين بالعلم ، ملجمين بلباس الدين ، من العملاء بائعي الضمائر ، ليكونوا وسائل لإقناع العامة بما تمليه الدولة عليهم من أحكام باطلة ، وقضايا منافية للحق ، وليصححوا للدول الظالمة تصرفاتها الجائرة . ‹ صفحة 81 › فكان التصدي لهؤلاء ، وفضح دسائسهم ، وإبطال استدلالاتهم ، والكشف عن سوء نياتهم ، من واجب الأئمة والمصلحين الإلهيين . وقد قام الإمام السجاد عليه السلام في عصره بأداء دور مهم في هذا الميدان الشائك بعد أن استلهم العلوم من مصادرها الأمينة الموثوقة وصار الدور إليه في قيادة الأمة ودلالتها إلى الحق والخير . فكان معلما للحق ، يبث الفضيلة ، ويدعو إلى الإسلام المحمدي الأصيل ، الذي توارثه عن آبائه ، والموصول بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأوثق السبل ، وأقرب الطرق . وأصبح - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 72 › ( 1 ) نقله الثعالبي في آخر كتاب ( ثمار القلوب ) بواسطة : علي جلال في ( الحسين ) ( 2 : 195 ) . ( 2 ) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123 ) رقم ( 194 ) . ‹ هامش ص 73 › ( 1 ) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 15 : 273 ) . ( 2 ) اختيار معرفة الرجال ( الكشي ) ( ص 123 ) رقم ( 194 ) . ‹ هامش ص 75 › ( 1 ) الجامع لأخلاق الراوي والسامع للخطيب البغدادي ( 2 / 288 ) رقم ( 1649 ) . ‹ هامش ص 79 › ( 1 ) معتزلة اليمن ( ص 17 - 18 ) . ( 2 ) الإمام السجاد عليه السلام لحسين باقر ( ص 13 - 14 ) . ‹ هامش ص 80 › ( 1 ) لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 11 : 44 - 46 ) والاحتجاج للطبرسي ( ص 295 ) ولاحظ كتابنا ( تدوين السنة الشريفة ) ( ص 475 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 81 - 87 لكونه حاملا أمينا للتعاليم الإسلامية الرصينة ، وقائما مخلصا بالشؤون الدينية الحقة - سدا منيعا في مواجهة كل انحراف وتزوير كان يبديه علماء السوء من وعاظ السلاطين . ولا ريب في أن مواجهة الإمام السجاد عليه السلام للدولة في هذا النضال ، لا بد أن تعد في قمة أعماله السياسية ، ومن أخطر أوجه النضال السياسي في حياته الكريمة . وقد اخترنا مجالات ثلاثة عمل فيها الإمام عليه السلام ، لنقف على أوجه نشاطه فيها ، وهي : ‹ صفحة 82 › أولا : مجال القرآن والحديث . عاش الإمام السجاد عليه السلام ، فترة نشاطه إماما للشيعة ، من سنة ( 61 - 95 ) مدة الثلث الأخير من القرن الأول . والقرن الأول بالذات هو فترة المنع الحكومي من رواية الحديث ونقله وكتابته وتدوينه ، قبل أن يرفع هذا المنع بقرار من قبل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز . وكانت عملية منع الحديث - تدوينا ورواية - بدأت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة ، واستمر عليها الحكام الذين تسنموا أرائك الخلافة بدءا بأبي بكر ، ثم عمر الذي كان أكثر تشديدا ونكيرا على من كتب شيئا من الحديث أو نقله ورواه ، بحيث استعمل كل أساليب القمع من أجل الوقوف دون تسرب شي منه ، فحبس جمعا من الصحابة من أجل روايتهم الحديث ، وهدد آخرين بالضرب والنفي ، وأحرق مجموعة من الكتب التي جمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . والتزم الحكام من بعد عمر ، سنة عمر وسياسته في منع تدوين الحديث وروايته ، وقد أعلن عثمان ومعاوية عن اتباعهما لعمر في منع الحديث النبوي ( إلا حديثا كان على عهد عمر ) ( 1 ) . وقد ظلت سياسة عمر بمنع الحديث سارية المفعول ، حتى بلغ الأمر إلى أن الحجاج الثقفي - سفاك العراق - قام بالاعتداء على كبار صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فختم على أيديهم وأعناقهم ، حذرا من أن يحدثوا الناس ، أو يسمع الناس حديثهم ( 2 ) . فلم يكن القيام بأمر رواية الحديث في مثل هذه الفترة بالذات ، وفي مثل هذه الأجواء أمرا سهلا ، ولا هينا . ولقد قاوم أئمة أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم هذه السياسة المخربة ضد أهم مصادر الفكر الإسلامي ، فكانوا إلى جانب كتابتهم للحديث ، وإيداعه المؤلفات يبادرون ‹ صفحة 83 › بحزم إلى رواية الحديث ونشره وبثه ، على طول تلك الفترة ! وقد عرفنا أن الإمام السجاد - كما قال ابن سعد - : كان ( ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا ورعا ) ( 1 ) وقد أكثر من نقل الحديث وروايته حتى أفاد علما جما ، كما قال النسابة العمري ( 2 ) ولا ريب في أن تصدي الإمام السجاد عليه السلام للوقوف في وجه المنع السلطوي ، وقيامه بأمر رواية الحديث ونقله ، ليس إلا تحديا صارخا لأوامر الدولة وسياستها ! . ثم إنه عليه السلام كان يطبق السنة ويدعو إلى تطبيقها والعمل بها فقد روي عنه أنه قال : إن أفضل الأعمال ما عمل بالسنة وإن قل ( 3 ) . وكان يندد بمن يستهزئ بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويدعو عليه ويقول : ما ندري ، كيف نصنع بالناس ؟ ! إن حدثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا ، وإن سكتنا لم يسعنا . ثم ندد بمن هزأ من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( 4 ) . وقد رويت عن الإمام السجاد عليه السلام مجموعة كبيرة من الأحاديث المسندة المرفوعة ، وأخرى موقوفة على آبائه عليهم السلام . وأما ما صدر منه من الحديث الذي يعتبر من عيون الحديث الذي يعتز به التراث الشيعي فكثير جدا ، ولذلك عد الحافظ الذهبي ، الإمام السجاد عليه السلام من الحفاظ الكبار وترجم له في طبقات الحفاظ الكبار ( 5 ) . ومع كل هذا ، فأين موقع كلمة قالها بعض النواصب أن الإمام عليه السلام كان ( قليل الحديث ) ! ؟ ( 6 ) ‹ صفحة 84 › ثم إن محتوى الأحاديث المروية عن طريق الإمام السجاد عليه السلام ، وتلك المنقولة عنه تشكل مجموعة من النصوص الموثوقة ، التي يطمئن بها المسلم ، فقد تم نقلها من مصدر أمين ، متصل بينابيع الوحي والرسالة ، وفيها ما يسترشد به المسلم ، ويعرف من خلاله مصالحه ، ويحدد واجباته ، ويدفع عنه اليأس ( 1 ) ، مثل روايته المرفوعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( انتظار الفرج عبادة ) ( 2 ) . فقد يكون الإنسان في مثل تلك الظروف الحرجة المأساوية معرضا للقنوط ولكن بانتظار الفرج وتوقع كشف الغم ، المستتبع للعمل من أجل ذلك والكون على استعداد له ، والإعداد لحصوله ، هو أفضل وسيلة للنجاة من مأزق الياس ، وموت الخمول . ومع القرآن : إن القرآن الكريم ، باعتباره الوحي الإلهي المباشر ، والمصدر الأساسي المقدس بنصه وفصه ، والذي اتفقت كلمة المسلمين على حجيته وتعظيمه وتقديسه ، فهو الحجة عند الجميع ، والفيصل الذي لا يرد حكمه أحد ممن يلتزم بالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا . ولذلك كانت دعوة أهل البيت عليهم السلام إلى الالتزام به ، والاسترشاد به وقراءته والحفاظ عليه ، دعوة صريحة مؤكدة . وفي الظروف التي عاشها الإمام زين العابدين عليه السلام ، كان الحكام بصدد اجتثاث الحق من جذوره وأصوله ومنها القرآن ، بقتل أعمدته وحفظته ومفسريه ( 3 ) . ‹ صفحة 85 › فكانت الدعوة إلى القرآن من أوجب الواجبات على الأئمة عليهم السلام مضافا إلى ما ذكرنا من قدسية القرآن عند الجميع ، فلم يتمكن الحكام من منع تعظيمه وقرائته والدعوة إليه . فقام الإمام زين العابدين عليه السلام بجهد وافر في هذا المجال : ففي الحديث أنه قال : عليك بالقرآن ، فإن الله خلق الجنة بيده ، لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وجعل ملاطها المسك ، وترابها الزعفران ، وحصاها اللؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن ، فمن قرأ منها قال له : ( إقرأ وارق ) ومن دخل الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه ، ما خلا النبيين والصديقين ( 1 ) . وأسند عن الزهري قال : سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول : آيات القرآن خزائن العلم ، فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها ( 2 ) . وقال عليه السلام : من ختم القرآن بمكة لم يمت حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويرى منزله في الجنة ( 3 ) . وكان يعبر عن كفاية القرآن ، بتعاليمه الروحانية القيمة ، بكونه مؤنسا للإنسان المسلم ، يعني : أن الوحشة إنما هي بالابتعاد عن هذه التعاليم حتى لو عاش الإنسان بين الناس ، فكان يقول : لو مات من ما بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي ( 4 ) . وهكذا يجد الإمام عليه السلام في تعظيم القرآن ، وتخليده في أعماق نفوس الأمة ، كما يسعى في التمجيد له عمليا وبأشكال من التصرفات : فمما يؤثر عنه عليه السلام : أنه كان أحسن الناس صوتا بالقرآن ، حتى : أن السقائين كانوا يمرون ببابه ، فيقفون لاستماع صوته ، يقرأ . . . ( 5 ) . وقال سعيد بن المسيب : إن قراء القرآن لم يذهبوا إلى الحج إذا ذهب علي بن ‹ صفحة 86 › الحسين عليه السلام ، ولم يخرج الناس من مكة حتى يخرج علي بن الحسين عليه السلام ( 1 ) . وفي بعض الأسفار بلغ عدد القراء حسب بعض المصادر : ألف راكب ( 2 ) . وقد كان الإمام السجاد عليه السلام مرجعا في علوم القرآن ومعارفه ، يسأله كبار العلماء عن القرآن : قال الزهري : سألت علي بن الحسين : عن القرآن ؟ فقال : كتاب الله ، وكلامه ( 3 ) . وقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يستفيد من تفسير القرآن في إرشاد الأمة إلى ما يحييهم ، ويطبق مفاهيمه على حياتهم ، ويحاول تنبيههم إلى ما يدور حولهم من قضايا ، وإليك بعض النصوص : روي أنه عليه السلام قال في تفسير قوله تعالى : * ( ولكم في القصاص حياة ) * : [ سورة البقرة ( 2 ) الآية ( 179 ) ] ( ولكم ) يا أمة محمد ( في القصاص حياة ) لأن من هم بالقتل ، فعرف أنه يقتص منه ، فكف لذلك من القتل ، كان حياة للذي هم بقتله ، وحياة لهذا الجافي الذي أراد أن يقتل ، وحياة لغيرهما من الناس : إذا علموا أن القصاص واجب ، ولا يجسرون على القتل مخافة القصاص ( يا أولي الألباب ) أولي العقول ( لعلكم تتقون ) . ثم قال عليه السلام : عباد الله ، هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا ، وتفنون روحه ! أفلا أنبئكم بأعظم من هذا القتل ؟ وما يوجبه الله على قاتله مما هو أعظم من هذا القصاص ؟ قالوا : بلى ، يا بن رسول الله . قال : أعظم من هذا القتل أن يقتله قتلا لا يجبر ، ولا يحيى بعده أبدا ! قالوا : ما هو ؟ قال : أن يضله عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام ، ويسلك به غير سبيل الله ، ويغير به باتباع طريق أعداء علي والقول بإمامتهم ، ودفع علي عن حقه ، وجحد ‹ صفحة 87 › فضله : ، وأن لا يبالي بإعطائه واجب تعظيمه ، فهذا هو القتل الذي هو تخليد المقتول في نار جهنم ، مخلدا أبدا ، فجزاء هذا القتل مثل ذلك : الخلود في نار جهنم ( 1 ) . وكان الإمام زين العابدين عليه السلام كثيرا ما يستشهد بآيات من القرآن ويستدل بها ، وعندما يجد مناسبة يعرج على تطبيق ذلك على الحالة الاجتماعية المتردية التي كان يعيشها المسلمون . ففي الخبر : إنه عليه السلام كان يذكر حال من مسخهم الله قردة من بني إسرائيل ، ويحكي قصتهم ( المذكورة في القرآن ) فلما بلغ آخرها ، قال : إن الله تعالى مسخ أولئك القوم ، لاصطيادهم السمك ! فكيف ترى - عند الله عز وجل - يكون حال من قتل أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهتك حريمه ؟ إن الله تعالى ، وإن لم يمسخهم في الدنيا ، فإن المعد لهم من عذاب الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ ( 2 ) . إن تصدي الإمام زين العابدين عليه السلام لهذه القضايا ، لا شك أنه أكثر من مجرد تعليم وتفسير للقرآن ، بل هو تطبيق له على الحياة المعاصرة ، وتحريك للأفكار ضد الوضع الفاسد الذي تعيشه الأمة ، ولا ريب أن ذلك يعتبره الحكام تحديا سياسيا يحاسبون عليه . ومن فلتات التاريخ أنه خلد لنا من التراث صفحة من القرآن الكريم ، منسوبة كتابتها إلى خ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 82 › ( 1 ) لقد تحدثنا عن منع الخلفاء من كتابة الحديث وتدوينه ، ومن نقله وروايته ، بتفصيل في كتابنا ( تدوين السنة الشريفة ) المطبوع في قم سنة 1413 ه . ( 2 ) أسد الغاية ، لابن الأثير ( 2 : 472 ) ترجمة سهل الساعدي . ‹ هامش ص 83 › ( 1 ) تهذيب التهذيب ( 7 : 305 ) . ( 2 ) المجدي في الأنساب ( ص 92 ) وتدوين السنة الشريفة ( ص 149 - 152 ) . ( 3 ) المحاسن ، للبرقي ( ص 221 ) ح ( 133 ) . ( 4 ) الكافي ( 3 / 234 ) الحديث 4 ، وبحار الأنوار ( 46 / 142 ) وعوالم العلوم ( ص 85 وص 290 ) . ( 5 ) تذكرة الحفاظ ( 1 / 74 - 75 ) . ( 6 ) قال ذلك الزهري ، كما في تهذيب التهذيب ( 7 / 305 ) وقد كذب الزهري قومه ، كما أنه متهم في ما يقوله في أهل البيت ، لما سيأتي من عمالته للأمويين ، لكن أمثال هذا المخذول قد حرموا أنفسهم من الاستمتاع بعلم أهل البيت عليهم السلام حيث تركوهم وصاروا إلى أصحاب الرأي والاجتهاد في مقابل النص ، فخسروا خسرانا مبينا . ‹ هامش ص 84 › ( 1 ) إن كتابنا هذا يحتوي على مجموعة كبيرة من الأحاديث التي رويت عن الإمام السجاد عليهم السلام ، والتي استشهدنا بها ، تجدها مجموعة في فهرس الأحاديث في آخر الكتاب . ( 2 ) كشف الغمة ( 2 : 101 ) ولاحظ الجامع الصغير ( 1 : 108 ) . ( 3 ) مثل سعيد بن جبير ، ويحيى بن أم الطويل ، وميثم التمار ، وغيرهم من شهداء الفضيلة ، فلاحظ كتب التاريخ لتلك الفترة . ‹ هامش ص 85 › ( 1 ) تفسير البرهان ( 3 : 156 ) . ( 2 ) أصول الكافي ( 2 : 609 ) المحجة البيضاء ( 2 : 215 ) . ( 3 ) المحجة البيضاء ( 2 : 215 ) . ( 4 ) الكافي - الأصول - ( 2 : 602 ) وانظر المحجة البيضاء ( 2 : 215 ) وبحار الأنوار ( 46 : 107 ) . ( 5 ) الكافي ( 2 / 616 ) بحار الأنوار ( 46 : 70 ) ب 5 ح 45 . ولاحظ عوالم العلوم ( ص 135 ) . ‹ هامش ص 86 › ( 1 ) رجال الكشي ( ص 117 ) رقم 187 . ( 2 ) عوالم العلوم ( ص 303 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ، ومختصره لابن منظور ( 17 : 240 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 396 ) . ‹ هامش ص 87 › ( 1 ) الاحتجاج ( ص 319 ) . ( 2 ) الاحتجاج ( ص 312 ) . ( 3 ) دائرة المعارف الشيعية ( ج 2 ص 66 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 87 - 93 ط الإمام زين العابدين عليه السلام . والعجيب أن هذه الصفحة تبدأ بقوله تعالى : * ( القربى ، واليتامى ، والمساكين وابن السبيل ) * ، وتنتهي بآيات الجهاد : قوله تعالى * ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) * ( 3 ) . [ سورة الأنفال ( 8 ) الآيات 41 - 45 ] . ‹ صفحة 88 › |
ثانيا : في مجال الفكر والعقيدة جاء الإسلام ليرسخ الحق بين الناس ، ومن أهم ما هدف إلى تثبيت قواعده وتشييد أركانه هو ( التوحيد الإلهي ) فإلى جانب الاستدلال على ذلك بما يوافق الفطرة والعقل السليمين ، سعى لمحو آثار الوثنية ، وكسر أصنام الجاهلية , لما استتبعت من تحميق الناس ، وتعميق الجهل والذل في نفوسهم على حساب تضخم الثروة عند الطغاة ، وتوغل الفساد في المجتمع الإنساني . ولما كانت الوثنية والصنمية فكرة ناشئة من عقيدة تجسيم الإله وتشبيهه بالخلق ، سعى الإسلام لنفي التجسيم والتشبيه ، ودعا إلى التوحيد في الذات والصفات ، والتنزيه عن كل ما يمت إلى المخلوقات ، كل ذلك بالدلائل والبراهين والآيات البينات . لكن الاتجاه الرجعي تسلط على المسلمين في فترة مظلمة من تاريخ الإسلام ، بدأت بتسنم الحزب الأموي أريكة الخلافة ، وسيطرته من خلالها على ربوع البلاد ورقاب العباد ، أولئك الذين كانوا آخر الناس إسلاما ، وهم مسلمة الفتح ، ولم تنمح من أذهانهم صور الأصنام ، ولم يزل من قلوبهم حب الجاهلية وعباداتها ، فكما كانوا في الجاهلية من أشد الناس تمسكا بالصنمية ورسوم الجاهلية الجهلاء ودعاة الشرك والفجور ، ورعاة الدعارة والعهارة والخمور ، فكذلك وبتلك الشدة أمسوا في الإسلام أعداء التوحيد والتنزيه ومحاربي العفاف والإنصاف . وعندما بلي المسلمون بولاة من هؤلاء ، بدأوا تشويه الصبغة الإسلامية بانتهاك الأعراض والحرمات ، وامتهان الشخصيات والكرامات ، وتشويش الأفكار والمعتقدات ، وتزييف الوجدان وإثارة الأضغان ، وتعميق العداء والبغضاء ، وتعميم الجور والعدوان . عقيدة الجبر : وكان من أخطر ما روجوه بين الأمة وأكدوا على إشاعته هو فكرة ( الجبر الإلهي ) بهدف التمكن من السلطة التامة على مصير الناس ، والهيمنة على الأفكار بعد الأجسام . ‹ صفحة 89 › فإن الأمة إذا اعتقدت بالجبر ، فذلك يعني : أن كل ما يجري عليها فهو من الله وبإذنه ، فما يقوم به الخليفة من فساد وظلم وجور وقتل ونهب وغصب ، فهو من الله - تعالى عن ذلك - استكانت الأمة للظالم ولتعدياته ، ولم تحاول أن تتخلص من سيطرته ، ولا دفع عدوانه ، بل لم تفكر في الخلاص منه ، لأن ذلك يكون مخالفة لإرادة الله ومشيئته ، فالخليفة والأمير والحاكم والوالي إنما ينفذون إرادة الله ، وهم يد الله على عباده ! فكيف يرجى من أمة كهذه أن تقوم بوجه سلطة الظالم واعتداءاته وتجاوزاته ( 1 ) . لقد أظهر الأمويون عنادهم للإسلام حتى في مسائل الدين ، ومن عندهم ظهرت الفتاوي في الشام بخلاف ما في العراق ، كما ظهر القول بالجبر في أصول الدين . وأول ما انتحله معاوية من التفرقة - بين المسلمين - هو القول بالجبر ، فقد كان هو أول من أظهره . قال القاضي عبد الجبار في ( المغني في أبواب العدل والتوحيد ) : أظهر معاوية أن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ، ليجعله عذرا في ما يأتيه ويوهم أنه مصيب فيه ، وأن الله جعله إماما وولاه الأمر ، وفشا ذلك في ملوك بني أمية ( 2 ) . وكان الأمويون يقولون بالجبر ( 3 ) . ولقد قاوم أئمة أهل البيت عليهم السلام فكرة الجبر بكل قوة ووضوح منذ زمان أمير المؤمنين عليه السلام ( 4 ) . ولكن لما استفحل أمر بني أمية ، وملكوا أنفاس الناس ، وتمكنوا من عقولهم وأفكارهم ، انفرد معاوية في الساحة ، وغسل الأدمغة بفعل علماء الزور ووعاظ السلاطين . فكان معاوية يقول في خطبه : ( لو لم يرني الله أهلا لهذا الأمر ما تركني وإياه ولو ‹ صفحة 90 › كره الله تعالى ما نحن فيه لغيره ) . وقال معاوية في بعض خطبه : ( أنا عامل من عمال الله أعطي من أعطاه الله وأمنع من منعه الله ولو كره الله أمرا لغيره ) . فأنكر عليه عبادة بن الصامت وغيره من الصحابة . نقله ابن المرتضى وقال : هذا صريح الجبر ( 1 ) . وهذا هو الذي شدد قبضة الأمويين على البلاد والعباد ، ومكنهم من قتل أبي عبد الله الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل جرأة ، ومن دون نكير ! وقد أظهر يزيد ، أن الحسين عليه السلام إنما قتله الله ! فأعلن ذلك في مجلسه وأمام الناس . لكن الإمام السجاد عليه السلام لم يترك ذلك يمر بلا رد ، فانبرى له وقال ليزيد : قتل أبي الناس ( 2 ) . وقبل ذلك في الكوفة قال عبيد الله : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟ فقال الإمام عليه السلام * ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) * [ سورة الزمر ( 39 ) الآية ( 42 ) ] . فغضب عبيد الله وقال : وبك جرأة لجوابي ، وفيك بقية للرد علي ، اذهبوا به فاضربوا عنقه . ثم صعد المنبر ، وقال : الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين وحزبه ( 3 ) . إن الموقف كان خطرا جدا ، فالطاغية في عتوه ، ونشوة الانتصار تغمره ، فالرد عليه في مثل هذه الحالة يعني منازعته سلطانه . ولكن الإمام السجاد عليه السلام وهو أسير ، يعاني آلام الجرح والمرض ، لم يتركه يلحد في دين الله ، ويمرر فكرة الجبر أمامه ، على الناس البسطاء ، الفارغين من المعارف ، التي نص عليها القرآن بوضوح . وليس غرضنا من سرد هذه الأخبار إلا نقل رد الإمام عليه السلام على مزاعم الحكام ‹ صفحة 91 › بنسبة القتل إلى الله ، بينما هو من فعل الناس ، والتذكير بالفرق بين الوفاة للأنفس واسترجاعها الذي نسب في القرآن إلى الله حين حلول الأجل والموت حتف الأنف ، وبين القتل الذي هو إزهاق الروح من قبل القاتل قبل حلول الموت المذكور . إن تحدي الحكام وفي مجالسهم ، وبهذه الصراحة ينبئ عن شجاعة وبطولة ، وهو تحد للسلطة أكثر من أن يكون ردا على انحراف في العقيدة فقط . وفي حديث رواه الزهري - من كبار علماء البلاط الأموي - أجاب الإمام زين العابدين عليه السلام عن هذا السؤال : أبقدر يصيب الناس ما أصابهم ، أم بعمل ؟ أجاب عليه السلام بقوله : إن القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد . . . ولله فيه العون لعباده الصالحين . ثم قال عليه السلام : ألا ، من أجور الناس من رأى جوره عدلا ، وعدل المهتدي جورا ( 1 ) . وعقيدة التشبيه والتجسيم : وقد تجرأ أعداء الإسلام - بعد سيطرتهم على الحكم - على المساس بأساس العقيدة الإسلامية ، وهو التوحيد الإلهي ، وذلك بإدخال شبه التجسيم والتشبيه في أذهان العامة ، لإبعادهم عن الحق ، وجرهم إلى صنمية الجاهلية . ولقد استغل الأعداء جهل الناس ، وبعدهم عن المعارف ، حتى اللغة العربية ! فموهوا عليهم النصوص المحتوية على ألفاظ الأعضاء ، كاليد والعين ، مضافة في ظاهرها إلى الله تعالى ، وتفسيرها بمعانيها المعروفة عند البشر ، بينما هي مجازات مألوفة عند فصحاء العرب في شعرهم ونثرهم ، يعبرون باليد عن القوة والقدرة ، وبالعين عن البصيرة والتدبير ، وهكذا . . . وقد قاوم الإسلام منذ البداية هذه الأفكار المنافية للتوحيد والتنزيه ، وقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار بمقاومتها وإبطال شبهها ، وفضح أغراض ناشريها ودعاتها . وفي عهد الإمام السجاد عليه السلام ، وبعد أن استشرى الوباء الأموي بالسيطرة التامة ، ‹ صفحة 92 › كان أمر هؤلاء الملحدين قد استفحل ، وتجاسروا على الإعلان عن هذه الأفكار بكل وقاحة ، في المجالس العامة ، حتى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت مهمة الإمام السجاد عليه السلام حساسة جدا ، لكونه ممثلا لأهل البيت عليهم السلام ، بل الرجل الوحيد ذا الارتباط الوثيق بمصادر المعرفة الإسلامية بأقرب الطرق وأوثقها ، وبأصح الأسانيد ، مصحوبا بالإخلاص لهذا الدين وأهله ، وعمق التفكير وقوته ، وبالشكل الذي ليس لأحد إنكار ذلك أو معارضته . ومع ما كان عليه الإمام السجاد عليه السلام من قلة الناصر ، فقد وقف أمام هذا التيار الإلحادي الهدام ، وأقام بأدلته وبياناته سدا منيعا في وجه إحياء الوثنية من جديد ! فقام الإمام بعرض النصوص الواضحة التعبير عن الحق ، والناصعة الدلالة على التوحيد والتنزيه ، مدعومة بقوة الاستدلال العقلي ، وكشف عن التصور الإسلامي الصحيح ، وشهر سيف الحق والعلم والعقل على تلك الشبه الباطلة : ولنقرأ أمثلة من تلك النصوص : جاء في الحديث أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ، إذ سمع قوما يشبهون الله بخلقه ، ففزع لذلك ، وارتاع له ، ونهض حتى أتى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فوقف عنده ، ورفع صوته يدعو ربه ، فقال في دعائه : ( إلهي بدت قدرتك ، ولم تبد هيبة جلالك ، فجهلوك ، وقدروك بالتقدير على غير ما أنت به مشبهوك . وأنا برئ - يا إلهي - من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شي - يا إلهي - ولن يدركوك . فظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك ، لو عرفوك . وفي خلقك - يا إلهي - مندوحة عن أن يتأولوك . بل ساووك بخلقك ، فمن ثم لم يعرفوك . واتخذوا بعض آياتك ربا ، فبذلك وصفوك . فتعاليت - يا إلهي - عما به المشبهون نعتوك ) ( 1 ) . ‹ صفحة 93 › فوجود الإمام عليه السلام في المسجد النبوي ، وإظهاره الفزع من ذلك التشبيه ، وارتياعه لذلك الكفر المعلن ، ونهوضه ، والتجاؤه إلى القبر الشريف ، ورفعه صوته بالدعاء . . . كل ذلك ، الذي جلب انتباه الراوي ، ولا بد أنه كان واضحا للجميع ، إعلان منه عليه السلام للاستنكار على ذلك القول ، وأولئك القوم الذين تعمدوا الحضور في المسجد والتجرؤ على إعلان ذلك الإلحاد والكفر . وهو تحد صارخ من الإمام عليه السلام للسياسة التي انتهجتها الدولة وكانت وراءها بلا ريب ، وإلا ، فمن يجرؤ على إعلان هذه الفكرة المنافية للتوحيد لولا دعم الحكومة ، ولو بالسكوت ! إن قيام الإمام السجاد عليه السلام بهذه المعارضة الصريحة وبهذا الوضوح يعطي للمواجهة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 87 › ( 1 ) الاحتجاج ( ص 319 ) . ( 2 ) الاحتجاج ( ص 312 ) . ( 3 ) دائرة المعارف الشيعية ( ج 2 ص 66 ) . ‹ هامش ص 89 › ( 1 ) لاحظ رسائل العدل والتوحيد ( ص 85 - 86 ) . ( 2 ) لاحظ رسائل العدل والتوحيد ( 2 : 46 ) . ( 3 ) تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، لأبي ريان ( ص 148 - 150 ) . ( 4 ) لاحظ الاحتجاج ( ص 208 ) في احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام . ‹ هامش ص 90 › ( 1 ) المنية والأمل ( ص 86 ) . ( 2 ) الاحتجاج ( 311 ) . ( 3 ) الإرشاد للمفيد ( ص 244 ) ولاحظ صدره في تاريخ دمشق ( الحديث 25 ) . ‹ هامش ص 91 › ( 1 ) التوحيد للصدوق ( ص 366 ) . ‹ هامش ص 92 › ( 1 ) كشف الغمة ( 2 : 89 ) وانظر بلاغة الإمام علي بن الحسين عليه السلام ( ص 17 ) وقد رواه الصدوق في أماليه ( ص 487 ) المجلس ( 89 ) موقوفا على الرضا عليه السلام ، فلاحظ . ‹ هامش ص 93 › ( 1 ) لاحظ الفصل لابن حزم ( 4 : 204 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 93 - 99 بعدا آخر ، أكثر من مجرد البحث العلمي ، والنقاش العقيدي والفكري . إنه بعد التحدي للدولة التي كانت تروج لفكرة التجسيم والتشبيه ، وتفسح المجال للإعلان بها في مكان مقدس مثل الحرم النبوي الشريف ، في قاعدة الإسلام ، وعاصمته العلمية ، المدينة المنورة ! ! ومهزلة الإرجاء : الإرجاء ، بمعنى عدم الحكم باسم ( الكفر ) على من آمن بالله ، في ما لو أذنب ما يوجب ذلك ، وأن حكما مثل هذا موكول إلى الله تعالى ، ومرجأ إلى يوم القيامة ، وأن الذنوب - مهما كانت - والمبادئ السياسية مهما كانت ، لا تخرج المسلم عن اسم الإيمان ، ولا تمنع من دخوله الجنة . وكان الملتزمون بالإرجاء ، يتغاضون عما يقوم به الحكام والسلاطين مهما كانت أفعالهم مخالفة لأحكام الإسلام في آيات قرآنه ونصوص كتابه وسنة رسوله . بل كان منهم من يقول : إن الإيمان هو مجرد القول باللسان ، وإن علم من القائل الاعتقاد بقلبه بالكفر ، فلا يسمى كافرا . ومنهم من يقول : إن الإيمان هو عقد القلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه فلا يسمى كافرا ( 1 ) . ‹ صفحة 94 › وهذه المبادئ - مهما كان منشؤها - كانت ولا زالت تخدم الحكام الجائرين المبتعدين عن الإسلام في كل أعمالهم وتصرفاتهم ، لأن أصحاب هذه المبادئ كانوا - ولا يزالون - يرون أن مهادنة هؤلاء الحكام صحيحة وغير منافية للشرع وللتدين بالإسلام . فكانت - كما يقول أحمد أمين - : هذه المبادئ تخدم بني أمية - ولو بطريق غير مباشر - وأصحابها كانوا يرون أن مهادنة بني أمية صحيحة ، وأن خلفاءهم مؤمنون ، لا يصح الخروج عليهم . فكان أن الأمويين لم يتعرضوا لهم بسوء ، كما تعرضوا للمعتزلة والخوارج والشيعة ( 1 ) . بل أصبح الإرجاء - كما نقل الجاحظ عن المأمون : - دين الملوك ( 2 ) . وهذه المزعومة - الإرجاء - باطلة أساسا ، لدلالة النصوص الواضحة على أن العمل - فعلا وتركا - له أثر مباشر في صدق أسماء ( الإيمان والكفر ) . ولذلك أعلن أئمة المسلمين بصراحة : أن الإيمان قول باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان . فمن خالف ما ثبت أنه من الدين ضرورة فهو محكوم باسم الكفر ، وتجري عليه أحكام هذا الاسم ، سواء أنكره بلسانه ، أو بقلبه ، أو بعمله ، كقاتل النفس المحترمة وتارك الصلاة ، مثلا . وفي قبال مخالفات الحكام الظالمين ، المعلنة والمخفية ، قاوم المسلمون بكل شدة ، وحاسبوهم بكل صرامة ، حتى قتل عثمان - وهو خليفة - من أجل بعض مخالفاته الواضحة . لكن ، لما تربع بنو أمية على الحكم ، بدأوا يحرفون عقيدة الناس بترويج كفرهم ، وقتل المؤمنين العارفين بالحقائق ، وإجراء سياسة التطميع والتجويع ، وغسل الأدمغة والتحميق ، مستمدين بوعاظ السلاطين من أمثال الزهري : فقد ورد في الأثر أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري قال : حدثنا بحديث ‹ صفحة 95 › النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، وإن زنا وإن سرق ( 1 ) . فهشام حافظ للحديث ، لكنه يريد من الزهري تقريرا عليه وتصديقا به ، وكأنه يقول له : إن مثل هذا الحديث يعجبنا ويفيدنا فاروه لنا . ولم يكذب الزهري هذا الحديث المجعول من قبل المرجئة ، وإنما قال لهشام : أين يذهب بك ، يا أمير المؤمنين ! كان هذا قبل الأمر والنهي . لكن إذا كان قبل الأمر والنهي فلماذا يذكر الزنا والسرقة ، أو هما كانتا محرمتين ! ؟ فعاد أمر الأمة إلى أن لم ير المضحون والمخلصون ، وفي طليعتهم أهل البيت عليهم السلام إلا أن ينهضوا في طلب الإصلاح . وقام الإمام الحسين عليه السلام بالتضحية الكبرى في كربلاء ، لإنقاذ الإسلام مما ابتلي به من تدابير خطرة ، ومؤامرات لئيمة دبرها بنو أمية . وقد أدت تلك التضحية العظيمة ، إلى فضح حكام بني أمية ، حيث إن عملهم الظالم ذلك ، الذي لم يجدوا في الأمة منكرا له ولا نكيرا عليه ، هون عليهم الإقدام على أعمال فظيعة أخرى بعلانية ووقاحة ، بشكل لم يبق مبرر لإطلاق اسم الإسلام والإيمان عليهم ، ولذلك نجد أن الذين أعلنوا عن ثورة المدينة قبيل وقعة الحرة ، كانت دعواهم : ( أن يزيد لرجل ليس له دين ) ( 2 ) والأمويون تأكيدا على كفرهم وخروجهم على كل المقدسات ، استباحوا مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحرمه ، وقتلوا آلاف الناس ، وفيهم جمع من أبناء صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهتكوا الأعراض وانتهبوا الأموال ( 3 ) . وعقبوا ذلك بالهجوم على الكعبة والمسجد الحرام وحرم الله الآمن ، فأحرقوها وهتكوا حرمتها ، وسفكوا الدماء فيها ، ولم يرقبوا في شي عملوه أيام حكمهم الدموي كرامة لأحد ، ولا حرمة لشئ مقدس . ‹ صفحة 96 › والمرجئة - مع ذلك - يقولون في الأمويين إنهم الحكام الذين تجب طاعتهم ، وإنهم مؤمنون لا يجوز الحكم عليهم بالكفر ، ولا لعنهم ، ولا التعرض لهم ولا الخروج عليهم ! إن هذا الانحراف الذي عرض لأمة الإسلام ، كان ردة خفية تمرر باسم الإسلام وعلى يد الخليفة والمجرمين الممالئين له . فكانت جهود الإمام السجاد عليه السلام هي التي أعقبت إحياء الروح الإسلامية واستتبعت الصحوة للمسلمين ، فرص الصفوف ، فتمكن ابنه المجاهد العظيم زيد بن علي عليه السلام من إطلاق الثورة ضدهم . وتلك التعاليم السجادية هي التي جعلت أمر كفر الأمويين وبطلان حكمهم ، أوضح من الشمس ، وألجأت أبا حنيفة المتهم بالإرجاء ( 1 ) أن يرى ولاة بني أمية مخالفين لتعاليم الدين وأعلن وأظهر البغض والكراهية لدولتهم ، وساهم في حركة زيد الشهيد ، وناصر أهل البيت بالمال والعدة ، وكان يفتي - سرا - بوجوب نصرة زيد وحمل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي ب ( الإمام والخليفة ) ( 2 ) . وفي الإمامة والولاية : . كانت الإمامة في نظام الدولة الإسلامية ، أعلى المناصب الحكومية ، ولذا كان الحكام يسمون أنفسهم أئمة للناس ، وأمراء للمؤمنين ، بلا منازع . ولا يدعي أحد غير الحاكم ، لنفسه منصب الإمامة إلا إذا لم يعترف بالحاكم ولا حكومته : ومعنى هذا الادعاء معارضته للنظام ولمقام الخليفة نفسه . والإمام السجاد عليه السلام قد أعلن عن إمامة نفسه بكل وضوح وصراحة ومن دون أية تقية وخفاء . ولعل لجوءه عليه السلام إلى هذا الأسلوب المكشوف كان من أجل أن بني أمية بلغ أمر فسادهم وخروجهم عن الإسلام ، وعدم صلاحيتهم للحكم على المسلمين وإدارة ‹ صفحة 97 › البلاد ، فضلا عن الإمامة ، حدا من الوضوح لم يمكن ستره على أحد . فكان من اللازم الإعلان عن إمامة السجاد عليه السلام كي لا يبقى هذا المنصب شاغرا ، وإن لم تكن الإمامة الحقة حاكمة ظاهرا . ومهما يكن ، فإن خطورة إعلان الإمام السجاد عليه السلام عن إمامة نفسه وأهل بيته ، لا تخفى على أحد ممن عرف جور بني أمية وطغيانهم وقسوتهم في مواجهة المعارضين . وقد تعددت الأحاديث الناقلة لهذا الإعلان ، حسب تعدد المناسبات ، والظروف : 1 - ففي الحديث الذي أورده ابن عساكر : قال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي : رأيت علي بن الحسين ، وله شعر طويل ، فقال : إلى من يذهب الناس ؟ قال : قلت : يذهبون هاهنا وهاهنا ! قال : قل لهم : يجيئون إلي ( 1 ) . 2 - قال له أبو خالد الكابلي : يا مولاي ! أخبرني كم يكون الأئمة بعدك ؟ فقال : ثمانية ، لأن الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر إماما ، عدد الأسباط ، ثلاثة من الماضين ، وأنا الرابع ، وثمانية من ولدي ، أئمة أبرار ، من أحبنا وعمل بأمرنا كان في السنام الأعلى ، ومن أبغضنا أو رد واحدا منا فهو كافر بالله وبآياته ( 2 ) . 3 - وقال عليه السلام : نحن أئمة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ، وسادة المؤمنين ، وقادة الغر المحجلين ، وموالي المؤمنين ، ونحن أمان أهل الأرض ، كما أن النجوم أمان لأهل السماء . . . ولو ما في الأرض منا لساخت بأهلها ، ولم تخل الأرض - منذ خلق الله آدم - من حجة لله فيها ، ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو ، إلى أن تقوم الساعة ، من حجة لله فيها ، ولولا ذلك لم يعبد الله ( 3 ) . 4 - وقال عليه السلام : نحن أفراط الأنبياء ، وأبناء الأوصياء ، ونحن خلفاء ‹ صفحة 98 › الأرض ، ونحن أولى الناس بالله ، ونحن أولى الناس بدين الله ( 1 ) . 5 - وكان يقول في دعائه يوم عرفة : اللهم ! إنك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته علما لعبادك ومنارا في بلادك بعد أن وصلت حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة إلى رضوانك ، وافترضت طاعته ، وحذرت معصيته ، وأمرت بامتثال أوامره ، والانتهاء عند نهيه ، وألا يتقدمه متقدم ، ولا يتأخر عنه متأخر ، فهو عصمة اللائذين ، وكهف المؤمنين ، وعروة المتمسكين ، وبهاء العالمين . اللهم فأوزع لوليك شكر ما أنعمت به عليه ، وأوزعنا مثله فيه ، وآته من لدنك سلطانا نصيرا ، وافتح له فتحا يسيرا ، وأعنه بركنك الأعز . . . وأقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسنن رسولك صلواتك - اللهم - عليه وآله . وأحي به ما أماته الظالمون من معالم دينك ، وأجل به صدأ الجور عن طريقتك ، وابن به الضراء من سبيلك ، وأزل به الناكبين عن صراطك ، وامحق به بغاة قصدك عوجا ، وألن جانبه لأوليائك ، وابسط يده على أعدائك ( 2 ) . ففي يوم عرفة ، وفي موقف عرفات ، حيث تتجه القلوب إلى الله بلهفة ، وحيث الأنظار شاخصة إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والآذان صاغية إلى بقية العترة ، لتسمع دعاءه في ذلك اليوم الشريف ، وذلك الموقف المنيف ، يدعو بهذه الكلمات ليعرف المسلمين بما يجب أن يكون عليه الإمام الحق من صفات ، وما عليه وله من حقوق وواجبات . ولا يرتاب المتأمل : أن في عرض مثل هذه الأوصاف والواجبات - التي يبتعد عنها الحكام المدعون للإمامة أشواطا ومسافات طويلة - يعد تعريضا بهم ، وتحديا لوجودهم . وأن الإمام السجاد عليه السلام لما كان يعرف الإمامة بهذا الشكل ، فهو - بلا ريب ‹ صفحة 99 › يستبعد عنها كل أدعياء الإمامة من غير ما لياقة ، فضلا عن الاستحقاق . فأين أولئك المغمورون في الرذيلة والظلم والجهل بالدين ، بل المعارضون له عقائ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 93 › ( 1 ) لاحظ الفصل لابن حزم ( 4 : 204 ) . ‹ هامش ص 94 › ( 1 ) ضحى الإسلام ( 3 : 324 ) . ( 2 ) الاعتبار وسلوة العارفين ( ص 141 ) . ‹ هامش ص 95 › ( 1 ) الاعتبار وسلوة العارفين ( ص 141 ) . ( 2 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 420 ) . ( 3 ) انظر كتب التاريخ في حوادث سنة ( 63 ه ) وتاريخ المدينة المنورة وترجمة مسلم بن عقبة ، وعبد الله بن الغسيل . ‹ هامش ص 96 › ( 1 ) لاحظ تاريخ بغداد ( ج 13 ) وانظر الكنى والألقاب ( 1 / 52 ) . ( 2 ) لاحظ ضحى الإسلام ، لأحمد أمين ( 3 : 274 ) . ‹ هامش ص 97 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 21 ) ومختصره لابن منظور ( 17 / 531 ) . ( 2 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 236 - 237 ) . ( 3 ) أمالي الصدوق ( ص 112 ) الاحتجاج ( ص 317 ) . ‹ هامش ص 98 › ( 1 ) بلاغة علي بن الحسين ( ص 60 ) . ( 2 ) الصحيفة السجادية ، الدعاء رقم ( 47 ) . ‹ هامش ص 99 › ( 1 ) الصحيفة السجادية الدعاء رقم ( 48 ) . ( 2 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 240 - 241 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 99 - 104 ئديا وعمليا ، أين هم من هذه الإمامة المقدسة ! ؟ 6 - وكان يقول في دعائه ليوم الجمعة ، والأضحى : اللهم : إن هذا المقام لخلفائك ، وأصفيائك ، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها ، قد ابتزوها ، وأنت المقدر لذلك لا يغالب أمرك . حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين ، مقهورين ، مبتزين ، يرون حكمك مبدلا ، وكتابك منبوذا ، وفرائضك محرفة عن جهة إشراعك ، وسنن نبيك متروكة . اللهم : العن أعداءهم من الأولين والآخرين ، ومن رضي بفعالهم وأشياعهم ، وأتباعهم ( 1 ) . ويوصي الإمام إلى ولده محمد الباقر فيقول : بني : إني جعلتك خليفتي من بعدي ، لا يدعيها في ما بيني وبينك أحد إلا قلده الله يوم القيامة طوقا من النار ( 2 ) . بل ، أعلن خلافة ولده الباقر وإمامته ، للزهري ، وهو من علماء البلاط الأموي ، في ما روي عنه ، قال : دخلت على علي بن الحسين عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه : فقلت : يا بن رسول الله ، إن كان أمر الله ، ما لا بد لنا منه ، فإلى من نختلف بعدك ؟ فقال عليه السلام : يا أبا عبد الله ، إلى ابني هذا - وأشار إلى محمد الباقر عليه السلام - فإنه وصيي ، ووارثي ، وعيبة علمي وهو معدن العلم وباقره . قال الزهري : قلت : هلا أوصيت إلى أكبر ولدك ؟ قال عليه السلام : يا أبا عبد الله ، ليست الإمامة بالكبر والصغر ، هكذا عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا وجدناه مكتوبا في اللوح والصحيفة . ‹ صفحة 100 › قال الزهري : قلت : يا بن رسول الله ، كم عهد إليكم نبيكم أن يكون الأوصياء بعده ؟ قال عليه السلام : وجدناه في الصحيفة واللوح ( اثنا عشر اسما ) مكتوبة إمامتهم . ثم قال عليه السلام : يخرج من صلب محمد ابني سبعة من الأوصياء فيهم ( المهدي ) ( 1 ) . إلى غير ذلك من الآثار الواردة في هذا الباب . والمهم في الأمر أن الإمام السجاد عليه السلام بصراحته هذه ، وإعلانه عن أهم ما يرتبط باستمرار العقيدة ودوامها ، تمكن من تثبيت الإمامة بعد أن تعرض التشيع لأوحش الحملات في ذلك التأريخ ، فأدت بالعقيدة إلى تضعضع لم يسبق له مثيل ! كما أدت إلى يأس في النفوس ، وتمزق بين صفوف الشيعة بما لا يتصور ! فكانت مواقف الإمام السجاد عليه السلام هذه ، الواضحة ، والجريئة ، والمكررة ، سببا للملمة الكوادر من جديد ، ورص الصفوف ثانية ، وتكريس الجهود المكثفة ، واستعادة القوى المهدورة ، والتركيز على ترسيخ القواعد الأصلية من أن تحرف أو يشوبها التشويه لتكوين الأرضية الصالحة لبذر علوم آل محمد على أيدي الأئمة لا سيما الباقر والصادق عليهما السلام . إثارة خلافة الشيخين : إن بني أمية ، الذين أحدثوا مذبحة كربلاء ، ومجزرة الحرة ، ومأساة عين الوردة ، لم يقنعوا بتصفية التشيع جسديا ، بقتل الأعداد الكبيرة من أنصار أهل البيت عليهم السلام ، ومعهم الأعيان والرؤساء ، بمن فيهم الإمام الحسين عليه السلام ، وإنما حاولوا - أيضا - القضاء على التشيع فكريا وحضاريا ، واتبعوا سبل الدعاية المغرضة ، وإثارة الناس الغوغاء على كل ما يمت إلى أهل البيت عليهم السلام من فكر وتراث وشعار ، حتى حاربوا أسماءهم ، فكان من يتسمى بها مهددا . ومن أخبث أساليبهم بث بذور الفرقة والشقاق بين المسلمين ، ليتمكنوا من القضاء على الإسلام كله ، ومن خلال ضرب المذاهب بعضها ببعض ، ومما ركزوا عليه في هذه ‹ صفحة 101 › السبيل هو إثارة موضوع ( خلافة الشيخين : أبي بكر وعمر ) اللذين حكما الأمة باسم الخلافة فترة غير قصيرة ، وأصبحت خلافتهما مثارا للبحث بين كل من الشيعة وأهل السنة . فالخلافة والإمامة ، يراها الشيعة حقا لأئمة أهل البيت عليهم السلام بالنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق إلا عن الوحي الإلهي ، وقد التزموا بهذا على أنه واحد من أصول مذهبهم ومعتقدهم ، وهو المميز لهم عن أهل السنة ، الملتزمين بخلافة من استولى على أريكة الحكم ، كما حدث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ حكم أبو بكر ، ثم عمر بدعوى وأن ذلك تم برضا من الناس الحاضرين ، وأن ذلك كاف في تحقق الحق لهما في الخلافة ، وهو الدليل على فضلهما ومنزلتهما عند المسلمين الذين سكتوا على ذلك . ومن الواضح - تاريخيا - أن الجميع لم يحضروا مجلس البيعة للشيخين في سقيفة بني ساعدة . ومجرد السكوت في مثل هذا الموقف لا يدل على الرضا ، لاحتمال الخوف ، والمداراة ، والغفلة ، أو الطمع في الحكم والمنصب . مع حصول الاعتراض العلني قولا وفعلا من بعض كبار الصحابة . وتعيين بعض الناس ورضاهم وسكوتهم ، أمور إن دلت على الفضل والمنزلة عندهم ، فهي لا تدل على الرضا عند الله ورسوله وجميع المؤمنين ! ومع وجود هذه المفارقات ، فإن في المسلمين من لم تثبت عندهم خلافة الشيخين بطريق من الشرع الكريم ، فلذا رفضوا هذا الموقف ، وإن وقع ، والتزموا بما هو الحق ، وإن لم يقع ! ولقد جوبه هذا الالتزام بالاستنكار العنيف من قبل أهل السنة فاعتبروه ( كفرا ) وأحلوا دماء ( الرافضة ) بزعمهم مع اعترافهم بأن التأويل يمنع من التكفير ، وأن الحدود تدرء بالشبهات ! ! وكان الأمويون يثيرون هذا الخلاف لاصطياد أغراضهم من تعكير الماء ، بين فئات المسلمين . ‹ صفحة 102 › فكان موقف الإمام السجاد عليه السلام مقاومة ذلك بحكمة وحنكة ، حتى صير أمره إلى الإحباط . فلا بد أن يعرف : أن قضية الإمامة وثبوتها لأئمة أهل البيت عليهم السلام ، وخلافة الخلفاء وحقهم في الحكم ، قضية أدق من أن يبت فيها بمجرد الرفض واللعن والتكفير والطرد ، والقذف والسب ، أو إثارة الضجيج والعجيج ، وكيل التهم والتقبيح ، والتنفير والتهجير ، والاستهزاء والتهجين . بل هي عند العقلاء قضية قناعة واعتقاد وأرقام ونصوص وحقوق وصفات وفضائل . وهي عند أهل البيت عليهم السلام قضية هداية وإيمان ، محورها ( الحق ) الذي أمرنا الله بالتواصي به ، والصبر عليه . وإذا تصدى لها أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وتعرضوا لها ، وطالبوا بها فليس لحاجة في أنفسهم إليها أو إلى مآربها ، بل إنما من أجل أولئك الناس أنفسهم ، وهدايتهم إلى ( الحق ) المنشود من كل الرسالات الإلهية . فقد كان الإمام السجاد عليه السلام يقول : ما ندري ، كيف نصنع بالناس ؟ ! إن حدثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا ، وإن سكتنا ، لم يسعنا . . . ( 1 ) . وكان الإمام الباقر عليه السلام يقول : بلية الناس - علينا - عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا ( 2 ) . وبهذا المنطق ، الواقعي ، المتين ، الحنون ، الواضح ، دخل أهل البيت عليهم السلام في موضوع الخلافة والإمامة ، وحكموا عليها ولها . وإذا كان هذا هو المنطلق ، فلا بد أن يكون المسير على طريق مصلحة الناس ، وهم المسلمون في كل عصر ومصر ، ومن أجل الحفاظ على دينهم الحق وهو الإسلام المحمدي الخالص . وعلى هذا الأساس ، لم يسمح الأئمة عليهم السلام للغوغاء ، أن يتدخلوا في هذه القضية - الخلافة - كي لا يغرقوا في غمارها ، ولا يصبحوا ألعوبة في أيدي الدهاة ‹ صفحة 103 › الماكرين من حكام الجور والضلالة ، بإثارة الشغب والفتنة بين طوائف الشعب ، على حساب قضية ( الخلافة ) . فإن الغوغاء لا يدخلون في أية قضية على أساس المنطق السليم ، ولا من منطلق قويم ، ولا يمشون على الصراط المستقيم ، بل على طبيعتهم في الجدل العقيم ، وعلى طريقتهم في القذف واللعن والطرد ، وهي بالنسبة إليهم البداية المحسوبة ، والنهاية المطلوبة . وليس الهدف عند الأئمة من أهل البيت عليهم السلام إلا ( الحق ) وأن يتبين الرشد من الغي . وقد كان الأمويون يثيرون القضية على مستوى العوام الطغام ، والغوغاء الهوجاء ، ويهدفون من ذلك القضاء على وحدة المسلمين ، باتهام أهل البيت وأتباعهم ، وهم يمثلون أقوى الخطوط المعارضة لحكمهم . ولقد كان موقف الإمام السجاد عليه السلام في إحباط هذه الخطط الأموية الجهنمية ، شجاعا ، وصريحا ، ومدروسا : فهو عليه السلام لما سئل عن منزلة الشيخين عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أشار - بيده - إلى القبر - قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ثم قال : بمنزلتهما منه الساعة ( 1 ) وفي نص آخر : كمنزلتهما منه اليوم ، وهما ضجيعاه ( 2 ) . فمثير السؤال ، إنما أراد أن يعلن الإمام عن رأيه في الشيخين من حيث الفضل والمقام والرتبة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ولكن الإمام السجاد عليه السلام لم يفسح له المجال في إثارته المريبة ، فأجابه عن موضعهما من حيث المكان والمنزل والمدفن ، من دون أن يتعدى في الإجابة الحقيقية الظاهرة ، أو يتجاوز الحق المفروض ، فهما - الشيخان - كانا قريبين - جسديا - كما هما في قبريهما - الآن - بالنسبة إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لكن هل هذا كرامة لهما ، وقد دفنا في ما لم يملكا حق الدفن فيه ؟ ! ‹ صفحة 104 › ويقول لمثير آخر : إذهب ، فأحب أبا بكر وعمر ، وتولهما ، فما كان من إثم ففي عنقي ( 1 ) . وبمثل هذه القوة ، يبعد الإمام عوام الناس عن التوجه إلى هذه القضية الحساسة ، في ميدان الصراع ذلك اليوم ، فقد كانت أصول الدين ، وقواعده ، وفروعه ، وأحكامه الأساسية ، مهددة ، يتهددها الطغيان الأموي ، وكبار الصحابة ، وعلماء الأمة ، يذبحون كل صباح ومساء ، فكان الإعراض عن القضايا الأساسية العاجلة ، والبحث عن قضية الشيخين البائدة ، تحريفا لمسير النضال ، وتشتيتا لقوى المناضلين ، مع أنه خداع ومكر يطرحه الحكام الظالمون للتفريق بين الأمة ، لصرفها عن القضايا المصيرية ، المعاصرة ، التي هي محل ابتلاء المسلمين فعلا إلى قضايا تاريخية غير حيوية ! فإثارة مشكلة الخلافة - آنذاك - لم يزد أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم إلا انزواءا وانعزالا عن المجتمع العام ، وذلك هو المطلوب لرجال الدولة ، لأنه ييسر لهم اجتثات أصول المعارضة ، والقضاء على جذورها . بينما التع . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 99 › ( 1 ) الصحيفة السجادية الدعاء رقم ( 48 ) . ( 2 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 240 - 241 ) . ‹ هامش ص 100 › ( 1 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 243 ) . ‹ هامش ص 102 › ( 1 ) الكافي ( 3 / 234 ) وقد مر تخريجه . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( ص 266 ) . ‹ هامش ص 103 › ( 1 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 4 - 395 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( حديث 92 ) ومختصر ابن منظور له ( 147 : 240 ) . ‹ هامش ص 104 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 97 ) ومختصر تاريخ دمشق ( 17 : 241 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 104 - 110 ير عن تولي الشيخين ، وعامة الناس هم على ذلك بمن فيهم المثيرون ، لا يغير الآن شيئا ، وليس له مفعول مثل ما لتولي بني أمية اليوم ، وهم حكام مستحوذون مستخلفون كما استخلف أبو بكر وعمر ، لكن هؤلاء مالكو الساحة اليوم ، مع مالهم من مخالفات حتى لسنة الشيخين ، تلك السنة التي التزموا بها ودعوا إليها ، وباسمها استولوا على الأمور . وليست ولاية الشيخين بمجردها هي المشكلة الفعلية العائقة ، بل المشكلة - الآن - هي ولاية بني أمية ! الذين يستخدمون فكرة ولاية الشيخين ، ويريدون بذلك فقط أن يستمروا على الحكم والخلافة ، ويضربوا من لا يوافقهم على ولايتهم التي هي استمرار لولاية الشيخين . والمفروض أن ولاية الشيخين ، أصبحت وسيلة بأيدي الأمويين ليثبتوا عرشهم من جهة ، ويضربوا أهل البيت عليهم السلام من جهة أخرى . فلذا أعلن الإمام زين العابدين عليه السلام للسائل ، بأن ولاية الشيخين ليست موضعا ‹ صفحة 105 › للنقاش ، في هذا الوقت ، إذ لا يترتب عليها نفع للإسلام والمسلمين ، لمضي زمانها ، وإنما المضر - الآن - هو ولاية بني أمية ، التي لا بد أن تميز عن ولاية الشيخين ! مهما كانت استمرارا لها ولقد كشف الإمام السجاد عليه السلام عن أقنعة مثيري هذه الفتنة ، وفضحهم ، حيث قال لهم : قوموا عني ، لا قرب الله دوركم ، فإنكم متسترون بالإسلام ، ولستم من أهله ( 1 ) . فقد أعلن أن مثيري القضية بشكلها الغوغائي ليسوا إلا من المبعوثين من قبل بني أمية وعيونهم ، ممن لا ينتمون إلى الإسلام إلا ظاهريا ، وبالاسم فقط ، وإنما يريدون بإثارة هذه القضية ، وحملها على أهل البيت ، هدم الإسلام ، المتمثل - يومذاك - بشخص الإمام السجاد عليه السلام وشيعته . والإمام السجاد عليه السلام إنما يهدف إلى تجديد بناء الإسلام الذي هزهز بنو أمية قواعده وأركانه . وتربية الكوادر الذين أشرفوا على الانقراض على يد جلاوزة بني أمية حكام الشام . وإرساء قواعد التشيع التي أشرفت على الانهيار ، بعد فجيعة كربلاء . وإحياء الأمل في النفوس التي صدمتها الحوادث المتعاقبة وزرعت فيها اليأس والخوف . فما كان من المصلحة - أصلا - الإجابة على مثل تلك الأسئلة المثارة وقد كان مثيروها لا يمتون إلى الإسلام بصلة ، وإنما هم متقنعون باسمه - لتمرير أهدافهم - بتقديم هذه الأسئلة ، وإثارة قضايا الخلاف في الخلافة ، التي يريد العدو أن يستغلها بأية صورة . فالإجابة الصحيحة ، إذا كانت مخالفة لرأي العامة الغوغاء ، فإنها تثيرهم ، فينثالون على البقية الباقية من المؤمنين بخط أهل البيت عليهم السلام فيبيدونهم عن بكرة أبيهم ، فلا يبقى منهم نافخ نار ، ولا طالب ثار . وكل ذلك من أجل قضية لا أثر لإثارتها هذا اليوم ، ولا دخل لها في القضايا ‹ صفحة 106 › المصيرية الراهنة ، في عهد الإمام عليه السلام ، فلا تسمن ، ولا تغني الأمة من جوع ، ولا تكسوهم من عري ، أو تنجدهم من ظلم أو جور . والمستفيد من تلك الإثارة ، هم الحكام المسيطرون ، وهم ذلك اليوم بنو أمية ، الذين يحاولون وبشتى الأساليب إبادة الحضارة الإسلامية ، في فكرها ، وتراثها ، ورجالها ، ومقدساتها . وهم الذين يسعون في إحياء الجاهلية ، في وثنيتها وصنميتها ، وعنصريتها ، وعصبيتها ، وجهلها ، وفسقها ، وفجورها ، وظلمها ، وبذخها ، وكفرها ، وعتوها . فأية القضيتين أولى بالبحث عنها عند الإمام السجاد عليه السلام ، وأحق أن يركز عليها ويعارضها ؟ هل هي ولاية بني أمية ؟ أو ولاية الشيخين ؟ لقد كان - حقا - موقف الإمام السجاد عليه السلام : شجاعا ، وصريحا ، ومدروسا : كان عليه السلام شجاعا : أن يواجه ، ويجابه الذين كان يعلم نياتهم الخبيثة ، وأهدافهم الدنيئة ، من جواسيس بني أمية ، وعيونهم ، البرءآء من الإسلام ، وكذلك في الإعلان عن خططهم وتدابيرهم الإجرامية . فالذين لم يؤمنوا بأصل الإسلام ، كيف يهتمون بقضية الخلافة والخلفاء السابقين ؟ وما هو هدفهم من هذه الإثارة ؟ ولو صدقوا في أسئلتهم : فلماذا لا يهتمون بما يجري على المسلمين في ولاية بني أمية ؟ وما لهم لا يتساءلون عن حق بني أمية في الحكم الظالم ؟ وهذا مثل ما تثيره الأجهزة الاستعمارية ، وأذنابهم النهضويون والرجعيون - في عصرنا الحاضر - من النزاعات المذهبية بين الطوائف الإسلامية الواعية ، فإن كل مسلم عاقل يفطن إلى أن إثارتهم هذه ليست لمصلحة الأمة الإسلامية وإنما هم يهدفون من وراءها إلى ضرب القدرة الإسلامية العظيمة والصحوة الإسلامية ‹ صفحة 107 › المتنامية ، وتحطيم كيان الدين الإسلامي ، المركز في قلوب الأمة . وكان الإمام السجاد عليه السلام صريحا : في إعراضه عن تفصيل القضية ، حيث يجر إلى ما يريده الأعداء ، بل صرف الأنظار إلى ما هم مبتلون به من مشاكل ومآس ، بالولاية الباطلة التي تخيم عليهم بظلمها وجرائمها وحكامها الجائرين ! وكان موقفه مدروسا : إذ لم يدل بتصريح يخالف الحق أو ينافي الحقيقة ، بل حافظ عليهما بقدر ما يخلص الموقف من الحرج ، ويخرج الإنسان المسؤول من المأزق |
وموقف مماثل مع أحد العلماء : لكن الحديث يأخذ شكلا آخر إذا كانت المواجهة مع أحد الذين ينتمون إلى العلم ، لأن التنبيه على الحقائق - حينئذ - يكون أوضح وأصرح وألزم ! لكن مع الأخذ بنظر الاعتبار كل الملاحظات الحساسة التي يتحرج الموقف بها ، فاقرأ معي هذا الحديث : عن حكيم بن جبير ، قال : قلت لعلي بن الحسين : أنتم تذكرون - أو تقولون - : إن عليا قال : ( خير هذه الأمة بعد نبيها : أبو بكر ، والثاني عمر ، وإن شئت أن اسمي الثالث سميته ) فقال علي بن الحسين : فكيف أصنع بحديث حدثنيه سعيد بن المسيب عن سعد بن مالك [ ابن أبي وقاص ] أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في غزوة تبوك فخلف عليا ، فقال له : أتخلفني ؟ فقال : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي ) قال : ثم ضرب علي بن الحسين على فخذي ضربة أوجعنيها ، ثم قال : فمن هذا هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى ؟ ( 1 ) . ‹ صفحة 108 › وفي نص آخر : فهل كان في بني إسرائيل بعد موسى مثل هارون ؟ فأين يذهب بك يا حكيم ؟ ( 1 ) ففي الوقت الذي لا يواجه الإمام حكيم بن جبير بتكذيب ما نسب إلى الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام من إعلانه أمام الأمة من أن خيرهم أبو بكر ثم عمر ثم الثالث ؟ فإن هذا المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام - وإن لم يصح - فهو مشهور بين الناس ، بقطع النظر عن أن الإمام إنما أعلن عما عند الناس من التفضيل للشيوخ ، بعد أن صار أمرا مفروضا لا يمكن مخالفته ، فما فائدة إنكاره . فإن أعاد أهل البيت عليهم السلام نفس الصيغة وتناقلوها فلا يدل على التزام ، لأنه تعبير عن مظلومية علي عليه السلام حيث لم يستطع أن يصرح بخلاف ما عند العامة الغوغاء . بل كان من أهدافه في الحفاظ على وحدة كلمة المجتمع الإسلامي وسلامته في حدوده الداخلية ، بينما معاوية يهدد أمن الدولة ويثير الخلاف والشقاق . لكن الإمام السجاد عليه السلام في حديثه مع حكيم بن جبير اتخذ أسلوبا علميا فذكره بمناقضة هذا المنقول - رغم شهرته - مع الحديث المتواتر المعلوم المتيقن بصدوره ، ومعناه ، وأهدافه ومرماه ، وهو حديث المنزلة أي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ) ( 2 ) . الذي لا يمكن إنكار صدوره ، ولا الاختلاف في معناه . فإذا كان علي بهذه المنزلة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عصره وبحضور كبار الصحابة ، فهل يبقى للحديث المنقول عن علي في تفضيل الشيوخ معنى ، غير الذي نقلناه ؟ وإذا كان الفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالترتيب المذكور عند الناس ، فهل يكون لحديث المنزلة معنى ؟ مع أن التاريخ والقرآن لم يذكر في بني إسرائيل شخصا أفضل من هارون بعد موسى ؟ ‹ صفحة 109 › ثم ينبه الإمام السجاد عليه السلام حكيما بضربة على فخذه ، وينبهه بالعتاب فيقول : فأين يذهب بك يا حكيم ؟ وهكذا كان السجاد - رغم حصافة المواقف التي يتخذها ، والالتزام بالأهداف السامية في حفظ وحدة الكلمة - لا يترك الحقيقة مهملة عندما كان يخاطب من يفهم ، ويدرك ، وينتبه ! وإن كان له مع الغوغاء غير المتفهمين ، لأهداف الأئمة والإمامة ، تعاملا آخر يناسب حالهم ، ويخاطبهم على قدر عقولهم . والصلاة مع المخالفين : وللإمام السجاد عليه السلام موقف حازم مماثل من الدعايات المغرضة ، التي كان يبثها دعاة الضلال ضد شيعة أهل البيت عليهم السلام ، وهو ما جاء في الحديث التالي : قال محمد بن الفرات : صليت إلى جنب علي بن الحسين يوم الجمعة ، فسمعت ناسا يتكلمون في الصلاة ! فقال عليه السلام : ما هذا ؟ فقلت : شيعتكم ! لا يرون الصلاة خلف بني أمية ! قال عليه السلام : هذا - والذي لا إله إلا هو - بدع ، فمن قرأ القرآن ، واستقبل القبلة فصلوا خلفه ، فإن يكن محسنا فله حسنته ، وإن يكن مسيئا فعليه ( 1 ) . فالمسلم الشيعي يقتدي بإمامه ، فإذا كان أولئك شيعة لأهل البيت عليهم السلام حقيقة ، وكانوا يرون الإمام السجاد عليه السلام وهو زعيم أهل البيت عليهم السلام في عصره ، ها هو واقف في الصف يؤدي الصلاة مع جماعة الناس ، فما بالهم يلغطون ، ليعرفوا أنفسهم أنهم لا يصلون مع الجماعة ؟ ولماذا يعرفون أنفسهم بأنهم شيعة لأهل البيت ، وهم يقومون بمثل هذا التحدي السافر ! ؟ وإلا ، كيف عرفهم الناس بأنهم شيعة ؟ ! ‹ صفحة 110 › إن القرائن الواضحة ، تعطي أن أولئك لم يكونوا من الشيعة ، بل من المندسين لتشويه سمعة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ، لاتهام أئمة أهل البيت والشيعة المؤمنين ، بمخالفة الجماعة . ولذلك ، تدارك الإمام عليه السلام الموقف ، وأفتاهم أولا بما يلتزم به العامة من الصلاة خلف كل بر وفاجر . ولم يدل بتفصيل حكم المسألة الفقهية في مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وهو أن المؤمن إذا حض
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 104 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 97 ) ومختصر تاريخ دمشق ( 17 : 241 ) . ‹ هامش ص 105 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 98 ) ومختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 17 : 241 ) . ‹ هامش ص 107 › ( 1 ) مناقب أمير المؤمنين عليه السلام للكوفي ج 1 ص 521 ح 451 و ح 461 ص 528 . ‹ هامش ص 108 › ( 1 ) مناقب الكوفي ( ج 1 ص 522 ) ح ( 453 ) . ( 2 ) نقلنا أقوال العلماء بتواتر هذا الحديث الشريف ، وذكرنا بعض مصادره في البحث الأول من التمهيد ، فراجع ( ص 18 ) . ‹ هامش ص 109 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 110 ) ومختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 17 : 243 ) . ‹ هامش ص 110 › ( 1 ) كما في نص الحديث لاحظ وسائل الشيعة ( 8 / 300 ) الباب ( 5 ) من أبواب صلاة الجماعة كتاب الصلاة تسلسل . ( 10722 ) . ( 2 ) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الجماعة ، الباب ( 34 ) تسلسل ( 10925 ) ( 3 ) المصدر السابق ( 299 / 8 ) تسلسل ( 10717 ) و ( 10720 ) و ( 10723 ) . ( 4 ) المصدر نفسه ، تسلسل ( 10733 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 110 - 117 ضر صلاة الجماعة ، ولا بد أن يحضر ، لأنه لا يمكنه الانعزال بل هو أولى بالمسجد من غيره ( 1 ) ، فعليه أن يقتدي بإمام الصلاة ، ويصلي بصلاته ، وفي بعض النصوص : إنها أفضل الركعات ( 2 ) بل في بعضها : ( أن الصلاة معهم كالصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( 3 ) حيث تعطي روعة الوحدة التي كان عليها المسلمون في عهده الأزهر . وإذا لم يحضر المؤمن صلاة الجماعة ، فليصل منفردا في بيته ( 4 ) . وأما أن يحضر الصلاة ، ولا يصلي مع الجماعة ، أو يلغط ويتكلم فيشوش على الآخرين أيضا ، فهذا حرام قطعا ، فكيف يقوم بذلك من يدعي الانتماء إلى التشيع ، ويلتزم بإمامة الإمام زين العابدين عليه السلام ؟ ! وهو يقوم بهذا العمل المخالف لفقه الأئمة . فهذا في نفس الوقت تشهير بهم ، وتحريض للعامة ضدهم ، بجرح عواطفهم ! إن مثل هذا العمل الاستفزازي لا يصدر من عاقل يريد مصلحة نفسه ، أو مصلحة إمامه ، أو مصلحة مذهبه . مع مخالفته للإمام عليه السلام الذي هو واقف في صف الجماعة ، ويصرح بذلك التصريح ، ومخالفته لفقه أهل البيت وتعليماتهم ومواقفهم العملية في الحضور في الجماعات وأداء الصلوات معها ! ! ‹ صفحة 111 › ثالثا : في الشريعة والأحكام . يتميز الإمام في نظر الشيعة ، بأنه ليس وليا للأمر ، وحاكما على البلاد والعباد فحسب ، بل هو مصدر لتشريع الأحكام أيضا ، باعتبار معرفته التامة بالشريعة وارتباطه الوثيق بمصادرها . والانحراف الذي حصل عن أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يكن في جانب حكمهم وولايتهم فقط ، بل الأضر من ذلك هو الانحراف عن أحكام الشريعة التي كانوا يحملونها ! والحكام الذين استولوا على أريكة الخلافة بأشكال من التدابير السياسية حتى بلغ أمرها أن صارت ( ملكا عضوضا ) كانوا يدركون أن أئمة أهل البيت عليهم السلام هم أولى منهم في كلا جانبي الحكم والولاية ، وكذلك في جانب الفقه والعلم بالشريعة . وكما أزووا أئمة أهل البيت عن الحكم والولاية على الناس ، حاولوا أيضا - إزواءهم عن الفقه وإبعاد الناس عنهم ، وذلك باختلاق مذاهب فقهية روجوها بين الناس ، وعارضوا الأحكام التي صدرت من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وحاربوا فقهاءهم بشتى الأساليب ، فكان من أعظم اهتمامات الأئمة وأتباعهم هو إرشاد الناس إلى هذا المعين الصافي للشريعة الإسلامية كي ينتهلوا منه . وقد كان اهتمام الإمام السجاد عليه السلام بليغا بهذا الأمر ، حيث كان يعيش بدايات الانحراف ! ولقد دعا الإمام عليه السلام إلى فقه أهل البيت عليهم السلام لكونه أصفى المناهل وأعذبها ، وأقربها من معين القرآن الكريم ، وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ( فأهل البيت أدرى بما في البيت ) . ففي كلام له يشرح اختلاف الأمة ، يقول : وكيف بهم ؟ وقد خالفوا الآمرين ، وسبقهم زمان الهادين ، ووكلوا إلى أنفسهم ، يتنسكون في الضلالات في دياجير الظلمات ‹ صفحة 112 › وقد انتحلت طوائف من هذه الأمة مفارقة أئمة الدين والشجرة النبوية أخلاص الديانة ، وأخذوا أنفسهم في مخاتل الرهبانية ، وتغالوا في العلوم ، ووصفوا الإسلام بأحسن صفاته ، وتحلوا بأحسن السنة ، حتى إذا طال عليهم الأمد ، وبعدت عليهم الشقة ، وامتحنوا بمحن الصادقين : رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدى ، وعلم النجاة . وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا ، واحتجوا بمتشابه القرآن ، فتأولوه بآرائهم ، واتهموا مأثور الخبر مما استحسنوا ، يقتحمون أغمار الشبهات ، ودياجير الظلمات ، بغير قبس نور من الكتاب ، ولا أثرة علم من مظان العلم ، زعموا أنهم على الرشد من غيهم . وإلى من يفزع خلف هذه الأمة ؟ ! وقد درست أعلام الملة والدين بالفرقة والاختلاف ، يكفر بعضهم بعضا ، والله تعالى يقول : * ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات ) * [ ( سورة البقرة ( 2 ) الآية ( 213 ) ] . فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة ؟ وتأويل الحكمة ؟ إلا إلى أهل الكتاب ، وأبناء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، الذين احتج الله بهم على عباده ، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة . هل تعرفونهم ؟ أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة ، وبقايا صفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا ، وبرأهم من الآفات ، وافترض مودتهم في الكتاب ( 1 ) . وقال عليه السلام لرجل شاجره في مسألة شرعية فقهية : يا هذا ! لو صرت إلى منازلنا ، لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا ، أيكون أحد أعلم بالسنة منا ؟ ( 2 ) . وقال لرجل من أهل العراق : ‹ صفحة 113 › أما لو كنت عندنا بالمدينة لأريناك مواطن جبرئيل من دورنا ، استقانا الناس العلم ، فتراهم علموا وجهلنا ؟ ( 1 ) . ولنفس الهدف السامي ، قاوم الإمام السجاد عليه السلام الانحراف الفقهي الذي منيت به الأمة ، بالتزام الشريعة وأخذها من أناس تعلموا الفقه من طرق لا تتصل بمنابع الوحي الثرة الصافية المأمونة . فيقول عليه السلام : إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة ، والآراء الباطلة ، والمقاييس الفاسدة ، لا يصاب إلا بالتسليم . فمن سلم لنا سلم ، ومن اقتدى بنا هدي ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك ، ومن وجد في نفسه - مما نقوله ، أو نقضي به - حرجا ، كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم ، وهو لا يعلم ( 2 ) . وهكذا كان شديد النكير على تلك البوادر المضللة ، وحارب بدعة تقليد غير أهل البيت عليهم السلام من المذاهب المنسوبة إلى البعداء عن ينابيعه نسبيا وحتى سببيا ، أولئك الذين روجت الحكومات والدول الظالمة فقههم ، لأنهم كانوا مسالمين لهم ، ومنضوين تحت ضلالهم ، من المتكئين على آرائك الخلافة المزعومة . وهذا الذي حذر الرسول الأكرم منه في أحاديث مستفيضة ، أوردنا نصوصها في كتاب ( تدوين السنة الشريفة ) وتحدثنا عن دلالتها ( 3 ) . وقد تمكن الإمام زين العابدين عليه السلام من توضيح معالم فقه أهل البيت عليهم السلام وإرساء قواعده ، وإغناء معارفه ، وتزويد طلابه وتربيتهم ، حتى أقر كبار العلماء بأنه ( الأفقه ) من الجميع ، وفيهم عدة من فقهاء البلاط ووعاظ السلاطين : قال أبو حازم : ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين ، وما رأيت أحدا كان أفقه منه ( 4 ) . ‹ صفحة 114 › ومثله قال الزهري محمد بن مسلم بن شهاب ( 1 ) . وقال الشافعي - إمام المذهب - : إن علي بن الحسين أفقه أهل البيت ( 2 ) . وإذا لم يكن للحكام المسيطرين ، باسم الخلافة الإسلامية ، نصيب من علم الشريعة وفقه الدين ، بل كانت أعمالهم مخالفة لأحكام الله وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ! وإذا كان فقهاء البلاط ، وأصحاب المذاهب ، يفخرون بالتلمذ عند علماء أهل البيت عليهم السلام ( 3 ) . فإن إعلان الإمام السجاد عليه السلام عن حقيقة مذهب أهل البيت الفقهي وتبيين موقعيته المتقدمة على جميع المذاهب الفقهية ، والدعوة إلى الالتزام به ، هو نسف عملي لقواعد الخلافة المزعومة التي كان المتكئ على أريكتها من أجهل الناس بالفقه ، وكل الناس أفقه منه حتى المخدرات في الحجال ! وكذلك هو تقويض لأعمدة التزوير التي رفعت فساطيط المذاهب الرسمية المدعومة من قبل دار الخلافة ، والتي تبعها الهمج الرعاع من العوام أتباع كل ناعق ! ‹ صفحة 115 › وأخيرا : في إعمار الكعبة المعظمة وللإمام موقف عظيم يدل على المراقبة التامة لما يجري ، مع التصدي لاعتداءات الحكام الظلمة على الرموز الأساسية للدين ، وهو : موقفه من إعادة تعمير الكعبة ، في ما رواه الكليني والصدوق ، بسندهما عن أبان بن تغلب ، قال : لما هدم الحجاج الكعبة ، فرق الناس ترابها ، فلما جاءوا إلى بنائها وأرادوا أن يبنوها ، خرجت عليهم حية ، فمنعت الناس البناء حتى انهزموا . فأتوا الحجاج ، فأخبروه ، فخاف أن يكون قد منع بناءها ، فصعد المنبر ، وقال : أنشد الله عبدا عنده خبر ما ابتلينا به ، لما أخبرنا به . قال : فقام شيخ فقال : إن يكن عند أحد علم ، فعند رجل رأيته جاء إلى الكعبة ، وأخذ مقدارها ، ثم مضى . فقال الحجاج : من هو ؟ . قال : علي بن الحسين . قال : معدن ذلك ، فبعث إلى علي بن الحسين ، فأخبره بما كان من منع الله إياه البناء . فقال له علي بن الحسين : يا حجاج ! عمدت إلى بناء إبراهيم ، وإسماعيل عليهما السلام وألقيته في الطريق وانتهبه الناس ، كأنك ترى أنه تراث لك . إصعد المنبر ، فأنشد الناس أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئا إلا رده . قال : ففعل ، فردوه ، فلما رأى جميع التراب ، أتى علي بن الحسين فوضع الأساس ، وأمرهم أن يحفروا . قال : فتغيبت عنهم الحية ، وحفروا حتى انتهى إلى موضع القواعد . فقال لهم علي بن الحسين : تنحوا ، فتنحوا ، فدنا منها فغطاها بثوبه ، ثم بكى ، ثم غطاها بالتراب ، ثم دعا الفعلة ، فقال : ضعوا بناءكم . فوضعوا البناء ، فلما ارتفعت حيطانه ، أمر بالتراب فألقي في جوفه . ‹ صفحة 116 › فلذلك صار البيت مرتفعا يصعد إليه بالدرج ( 1 ) . فالمراقبة واضحة في أخذ الإمام ( مقادير الكعبة ) لئلا تضيع المعالم الأثرية لأكبر محور لرحى الدين ، وهي الكعبة الشريفة . وإذا كانت تلك المراقبة تتم في ظرف ولاية مثل الحجاج الملحد السفاح الناصب لآل محمد العداء المعلن ، فلن تخفى أهميتها ، ودلالتها القاطعة على التحدي . ومواجهة الحجاج بمثل ذلك الكلام ( كأنك ترى أنه تراث لك ! ) تصد لانتهاكه لحرمة الكعبة المعظمة ، والتلاعب بها حسب رغباته الخاصة . وأهم ما في الأمر جر الحجاج إلى التصريح بأن الإمام ( هو معدن ذلك ) وهي شهادة لها وقعها في الإلزام والإبكات للخصم اللدود . وأخيرا : نزول الإمام عليه السلام إلى القواعد - وحده - وربطه لنفسه بها بذلك الشكل أمام أعين الناظرين ، إثبات لحقه في إقامتها دون غيره . وهل كل ذلك يتهيأ إلا من التدبير العميق ، والتخطيط الدقيق ، ممن يحمل هدفا ساميا في قلب شجاع ، لا يملكه في تلك الظروف الحرجة ، شخص غير الإمام السجاد زين العابدين عليه السلام . ‹ صفحة 117 › الفصل الثالث النضال الاجتماعي والعملي أولا : في مجال الأخلاق والتربية ثانيا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 110 › ( 1 ) كما في نص الحديث لاحظ وسائل الشيعة ( 8 / 300 ) الباب ( 5 ) من أبواب صلاة الجماعة كتاب الصلاة تسلسل . ( 10722 ) . ( 2 ) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الجماعة ، الباب ( 34 ) تسلسل ( 10925 ) ( 3 ) المصدر السابق ( 299 / 8 ) تسلسل ( 10717 ) و ( 10720 ) و ( 10723 ) . ( 4 ) المصدر نفسه ، تسلسل ( 10733 ) . ‹ هامش ص 112 › ( 1 ) كشف الغمة للأربلي ( 2 : 98 - 99 ) وانظر جامع أحاديث الشيعة للبروجردي ( 1 : 40 ) الإمام زين العابدين للمقرم ( ص 242 ) . ( 2 ) نزهة الناظر ، للحلواني ( ص 45 ) . ‹ هامش ص 113 › ( 1 ) بصائر الدرجات ، للصفار ( ص 32 ) . ( 2 ) إكمال الدين ( ص 324 ب 31 ح 9 ) . ( 3 ) لاحظ الصفحات ( 352 - 359 ) و ( 425 ) من : تدوين السنة الشريفة . ( 4 ) تاريخ دمشق الحديث ( 45 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 240 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 394 ) وكشف الغمة ( 2 : 80 ) ‹ هامش ص 114 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 37 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 389 ) وصفوة الصفوة ( 2 : 99 ) . ( 2 ) رسائل الجاحظ ( ص 106 ) وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 15 : 274 ) عن الرسالة للشافعي - في خبر الواحد - . ( 3 ) كان أبو حنيفة - إمام المذهب - يقول : ( لولا العامان لهلك النعمان ) يشير إلى العامين اللذين حضر فيهما عند الإمام الصادق عليه السلام ، وكان قبل ذلك قد أخذ من الإمام الباقر عليه السلام وأخيه زيد الشهيد . انظر الإمام جعفر الصادق ، للجندي ( ص 162 ) والنظم الإسلامية ، لصبحي الصالح ( ص 209 ) وموقف الخلفاء العباسيين لعبد الحسين علي أحمد ( ص 37 ) - ولاحظ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 15 : 274 ) وموقف الخلفاء ( ص 31 ) عن الشكعة في الأئمة الأربعة ( ص 52 ) وعن أبي زهرة في : أبو حنيفة ( 72 ) . ‹ هامش ص 116 › ( 1 ) نقله ابن شهرآشوب في المناقب ( 4 / 152 ) ط الأضواء ، عن الكافي وعلل الشرائع للصدوق . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 117 - 124 : في مجال الإصلاح وشؤون الدولة ثالثا : في مجال مقاومة الفساد وأخيرا : مع كتاب ( رسالة الحقوق ) ‹ صفحة 119 › إن من أهم أهداف الرجال الإلهيين إصلاح المجتمع البشري ، بتربيته على التعاليم الإلهية ، ولا بد للمصلح أن يمر بمراحل من العمل الجاد والمضني في هذا الطريق الشائك : 1 - أن يربي جيلا من المؤمنين على التعاليم الحقة التي جاء بها ، والأخلاق القيمة التي تخلق بها ، لكي يكونوا له أعوانا على الخير . 2 - أن يدخل المجتمع بكل ثقله ، ويحضر بين الناس ، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه ، ويبلغهم رسالات الله . 3 - أن يقاوم الفساد ، الذي يبثه الظالمون في المجتمع ، بهدف تفكيكه وشل قواه ، وتفريغه من المعنويات ، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحق والخير والجمال ، لئلا يصنعوا منه آلة طيعة تستخدم حسب رغباتهم وطوع إرادتهم . وقد كان للإمام زين العابدين نشاط واسع في كل هذه المجالات ، حتى عد - بحق وجدارة - في صدر المصلحين الإلهيين ، بالرغم من تميز عصره بتحكم طغاة بني أمية على الأمة ، وعلى مقدراتها وباسم الخلافة الإسلامية ، التي تقتل من يعارضها وتهدر دمه بعنوان الخروج على الإسلام . إن مقاومة الإمام زين العابدين عليه السلام في مثل هذا الظرف ، بل وتمرير خططه ، وإنجاح مهماته وأهدافه ، مع قلة الأعوان والأنصار ، يعد معجزة سياسية تحققت على يد هذا الإمام العظيم ، الذي سار على خطى جده الرسول الأعظم ، في خلقه العظيم . وقد عقدنا هذا الفصل الثالث للوقوف على أوجه نشاطه العملي في تلك المجالات الاجتماعية : ‹ صفحة 120 › أولا : في مجال الأخلاق والتربية ضرب الإمام زين العابدين أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمدي العظيم في التزاماته الخاصة ، وفي سيرته مع الناس ، بل مع كل ما حوله من الموجودات . فكانت تتبلور فيه شخصية القائد الإسلامي المحنك الذي جمع بين القابلية العلمية الراقية ، والفضل والشرف السامق ، والقدرة على جذب القلوب وامتلاكها ، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدها بكل صبر وتوءدة وهدوء . فالصبر الذي تحلى به ، بتحمله ما جرى عليه في كربلاء ، وفي الأسر ، مما لا يحتاج إلى برهان وذكر . ومثابرته ومداومته على العمل الإسلامي ، بارزة للعيان ، وهذا الفصل يمثل جزءا من نشاطه السياسي والاجتماعي الجاد . وحديث مواساته للإخوان ، والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام ، بالبذل والعطاء والإنفاق ، مما اشتهر عند الخاص والعام ، وسيأتي الكلام حول ذلك كله . وحنوه وحنانه على الرقيق ، وعلى الأقارب والأباعد ، بل على أعدائه وخصومه ، مما سارت به الركبان . وأخبار عبادته وخوفه من الله وإعلانه ذلك في كل مناسبة ، ملأت الصحف ، حتى خص بلقب ( زين العابدين ، وسيد الساجدين ) . ومن أمثلة خلقه الرائع : العفو : وقد تناقل المؤلفون حديث هشام بن إسماعيل الذي كان أميرا على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، للأمويين ، فعزلوه ، وقد كان منه أو بعض أهله شي يكره ، تجاه الإمام زين العابدين عليه السلام ، أيام كان أميرا ، فلما عزل أوقف للناس ، فكان لا يخاف إلا من الإمام أن يؤاخذه على ما كان منه . فمر به الإمام ، وأرسل إليه : ( استعن بنا على ما شئت ) . ‹ صفحة 121 › فقال هشام : * ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) * [ سورة الأنعام ( 6 ) الآية ( 124 ) ( 1 ) . وبهذا ، تمكن الإمام من جذب قلوب الناس ، حتى ألد الأعداء ، فكان سببا لانفتاح الجميع على أهل البيت عليهم السلام ومذهبهم ، بعد أن انغلقوا عنهم ، واعتزلوهم بعد وقعة كربلاء . ولقد ظهرت ثمرة تلك الأخلاق والجهود ، في يوم وفاة الإمام عليه السلام ، فقد خرج الناس كلهم ، فلم يبق رجل ولا امرأة إلا خرج لجنازته بالبكاء والعويل ، وكان كيوم مات فيه رسول الله ( 2 ) . وكان من أطيب ثمرات هذه الجهود أن مهدت الأرضية للإمام محمد بن علي ، الباقر عليه السلام كي يتسنم مقام الإمامة بعد أبيه زين العابدين ، ويقوم بتعليم الناس معالم دينهم ، وتتكون المدرسة الفقهية الشيعية على أوسع مدى وأكمل شكل وأتقنه . ومن أبرز الجهود التي بذلها الإمام زين العابدين عليه السلام في تحركه القيادي هو ما قام به من جمع صفوف المؤمنين ، والتركيز على تربيتهم روحيا ، وتعليمهم الإسلام ، وإطلاعهم على أنقى المصادر الموثوقة للفكر الإسلامي ، ومن خلال روافده الثرة الغنية ، بهدف وصل الحلقات ، كي لا تنقطع سلسلة عقد الإيمان ، ولا تنفرط أسس العقيدة . وبهدف تحصين العقول والنفوس من الانحرافات التي يثيرها علماء السوء الذين كانوا يبعدون الناس عن الإسلام الحق ، ويكدرون ينابيعه وروافده بالشبه والأباطيل . وتعد هذه البادرة من أهم معالم الحركة عند الإمام زين العابدين ، وأعمقها أثرا وخلودا في مقاومة الدولة الحاكمة ، التي استهدفت كل معالم الإسلام ، بغرض القضاء عليه ، وإبادته ، والعودة بالأمة إلى الجاهلية الأولى بوثنيتها ، وفسادها ، وجهلها . ‹ صفحة 122 › فراح الإمام يدعو الأمة إلى التفكير والتدبر : فمن أقواله عليه السلام : الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته ( 1 ) . ويدعو إلى العلم والفضل والحكمة : فقال عليه السلام : سادة الناس في الدنيا : الأسخياء ، وفي الآخرة : أهل الدين ، وأهل الفضل ، والعلم ، لأن العلماء ورثة الأنبياء ( 2 ) . وقال عليه السلام : لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج . إن الله أوحى إلى دانيال : إن أمقت عبيدي إلي الجاهل ، المستخف بحق أهل العلم ، التارك للاقتداء بهم ، وإن أحب عبيدي إلي التقي ، الطالب للثواب الجزيل ، الملازم للعلماء ، التابع للحكماء ( 3 ) . وكان عليه السلام يحث الأمة - والشباب منهم خاصة - على طلب العلم ، فكان إذا نظر إلى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه ، فقال : مرحبا بكم ، أنتم ودائع العلم ، أنتم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين ( 4 ) . وكان إذا جاءه طالب علم قال : مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( 5 ) . ويدعو الأمة إلى المراقبة الذاتية لنفسها ، لتتحصن من اجتياح وسائل التزوير والخداع ، ونفوذ نفثات الشياطين . فيقول عليه السلام : ليس لك أن تقعد مع من شئت ، لأن الله تعالى يقول في الأنعام [ الآية 68 ] : * ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) * . وليس لك أن تتكلم بما شئت ، لأن الله يقول في الإسراء [ الآية 36 ] : * ( ولا تقف ما ‹ صفحة 123 › ليس لك به علم ) * وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رحم الله عبدا قال خيرا فغنم ، أو صمت فسلم ) . وليس لك أن تسمع ما شئت ، لأن الله يقول : [ الإسراء : 36 ] : * ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) * ( 1 ) . وبهذا يحذر الإمام عليه السلام الأمة من الجلوس مع المزورين والظالمين ، ومن التحدث والكلام معهم ، أو صرف العمر معهم في حديث الجهالات والخرافات ، وما لا يزيد الإنسان معرفة بحياته أو قوة وتركيزا في عقيدته وإيمانه ، أو تعديلا في سلوكه وأخلاقه ، بل لا تعدو لغو السمر ، والشعر الساقط ، وأحاديث الفكاهة والمجون ، التي كان يروجها السلاطين وأمراء السوء . وهو عليه السلام في الوقت نفسه يحيي بهذا الأسلوب سنن الاستدلال بآيات القرآن الكريم ، والاعتماد عليه وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللذين دأب الظالمون على إبعاد الأمة عنهما ، وإماتتهما ، وإبادتهما بالإحراق بالنار ، والإماثة في الماء ، والدفن تحت الأرض ، ومنع التدوين . كما حذر الأمة من الارتباط بمن لا يدعو إلى الله والحق ، ومن الاستماع إليهم ، وهم دعاة السوء ، وأدعياء العلم ، من علماء البلاط ، الذين ركنوا إلى الظالمين وآزروهم . وقد كان عليه السلام يدأب على تربية الأمة وتهذيبها ، وتقديم الإرشادات إليها ، وتجلى ذلك في وصاياه المأثورة التي جمعت بين معالم الهداية والحكمة ، ووسائل الحذر والوقاية ، وبث الأمل والقوة ، وبعث النشاط والهمة في نفوس أصحابه : ففي رسالته إليهم يقول عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم : كفانا الله وإياكم كيد الظالمين ، وبغي الحاسدين ، وبطش الجبارين . أيها المؤمنون ، لا يفتنكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا ، المائلون إليها ، المفتنون بها ، المقبلون عليها ، وعلى حطامها الهامد ، وهشيمها البائد غدا ‹ صفحة 124 › فاحذروا ما حذركم الله منها ، وازهدوا في ما زهدكم الله فيه منها . ولا تركنوا إلى ما في هذه الأمور ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان . والله ! إن لكم مما فيها لدليلا ، وتنبيها ، من تصرف أيامها ، وتغير انقلابها ومثلاتها ، وتلاعبها بأهلها ، إنها لترفع الخميل ، وتضع الشريف ، وتورد أقواما إلى النار غدا ، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه . إن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مضلات الفتن ، وحوادث البدع ، وسنن الجور ، وبوائق الزمان ، وهيبة السلطان ، ووسوسة الشيطان ، لتثبط القلوب عن تنبهها ، وتذهلها عن موجود الهدى ، ومعرفة أهل الحق إلا قليلا ممن عصم الله ، فليس يعرف تصرف أيامها وتقلب حالاتها ، وعاقبة ضرر فتنتها إلا من عصم الله ، ونهج سبيل الرشد ، وسلك طريق القصد ، ثم استعان على ذلك بالزهد ، فكرر الفكر ، واتعظ بالعبر فازدجر ، وزهد في عاجل بهجة الدنيا ، وتجافى عن لذاتها ، ورغب في دائم نعيم الآخرة ، وسعى لها سعيها ، وراقب الموت ، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين ، ونظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة حديدة النظر ، وأبصر حوادث الفتن ، وضلال البدع ، وجور الملوك الظلمة . فقد - لعمري - استدبرتم الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة ، والانهماك فيها ، ما تستدلون به على تخيب الغواة وأهل البدع ، والبغي ، والفساد في الأرض ، بغير الحق . فاستعينوا بالله . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 121 › ( 1 ) تاريخ دمشق . الحديث ( 111 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 243 ) وانظر صورا أخرى للقصة في بحار الأنوار ( 46 : 94 و 167 ) وشرح الأخبار ، للقاضي ( 3 : 260 ) وكشف الغمة ( 2 : 100 ) وتاريخ الطبري ( 5 : 216 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 : 280 و 283 ) . ( 3 ) الإمام زين العابدين ، للمقرم ( ص 412 ) . ‹ هامش ص 122 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 138 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 254 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 85 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) الوافي ، للفيض الكاشاني ( 1 : 42 ) . ( 4 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 171 ) . عن الأنوار البهية ، للقمي . ( 5 ) الخصال ، للصدوق ( ص 517 ) . ‹ هامش ص 123 › ( 1 ) علل الشرائع ، للصدوق ( ص 5 - 606 ) الحديث ( 80 ) وانظر بحار الأنوار ( 1 : 101 ) طبع الحجر . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 124 - 130 ، وارجعوا إلى طاعة الله ، وطاعة من هو أولى بالطاعة ممن اتبع فأطيع . فالحذر ، الحذر ، من قبل الندامة والحسرة والقدوم على الله ، والوقوف بين يديه . وتالله ! ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه ، وما آثر قوم - قط - الدنيا على الآخرة ، إلا ساء منقلبهم ، وساء مصيرهم . وما العلم بالله والعمل بطاعته إلا إلفان مؤتلفان ، فمن عرف الله خافه ، وحثه الخوف على العمل بطاعة الله . وإن أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ، ورغبوا إليه ، فقد قال الله : * ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) * [ فاطر ( 35 ) الآية : 4 ] . فلا تلتمسوا شيئا مما في هذه الدنيا بمعصية الله ، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله ، ‹ صفحة 125 › واغتنموا أيامها ، واسعوا لما فيه نجاتكم من عذاب الله ، فإن ذلك أقل للتبعة ، وأدنى من العذر ، وأرجى للنجاة . فقدموا أمر الله ، وطاعة من أوجب الله طاعته ، بين يدي الأمور كلها ، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من الطواغيت ، من زهرة الدنيا ، بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم . واعلموا أنكم عبيد الله ، ونحن معكم ، يحكم علينا وعليكم سيد غدا ، وهو موقفكم ، ومسائلكم ، فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمسألة والعرض على رب العالمين . واعلموا أن الله لا يصدق كاذبا ، ولا يكذب صادقا ، ولا يرد عذر مستحق ، ولا يعذر غير معذور ، له الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء . فاتقوا الله - عباد الله - واستقبلوا في إصلاح أنفسكم طاعة الله ، وطاعة من تولونه فيها ، لعل نادما قد ندم في ما فرط بالأمس في جنب الله ، وضيع من حقوق الله . فاستغفروا الله ، وتوبوا إليه ، فإنه يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئة ، ويعلم ما تفعلون . وإياكم ، وصحبة العاصين ، ومعونة الظالمين ، ومجاورة الفاسقين ، احذروا فتنتهم ، وتباعدوا من ساحتهم . واعلموا أنه من خالف أولياء الله ، ودان بغير دين الله ، واستبد بأمره دون ولي الله كان في نار تلهب ، تأكل أبدانا قد غاب عنها أرواحها ، وغلبت عليها شقوتها ، فهم موتى لا يجدون حر النار ، ولو كانوا أحيأءا لوجدوا مضض حر النار . فاعتبروا يا أولي الأبصار واحمدوا الله على ما هداكم ، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته ، وسيرى الله عملكم ورسوله ، ثم إليه تحشرون . وانتفعوا بالعظة . وتأدبوا بآداب الصالحين ( 1 ) . ‹ صفحة 126 › بهذا يحصن الإمام عليه السلام أصحابه خاصة والمسلمين عامة بالطاعة ، والزهد ، والورع عن المعاصي ، والبعد عن بهجة الدنيا وعن مفاتن الحياة المادية ، التي يستخدمها الطواغيت ، كمغريات لتحريف الأمة عن سنن الهدى |
ويحاول الإمام عليه السلام أن يهون عليهم المصائب والأتعاب التي تواجههم على هذا الطريق الوعر . ويؤكد عليه السلام على التزامهم بالحق ، واعتقادهم بولاية الأئمة الأطهار عليهم السلام : الذين فرض الله ولايتهم وأوجب طاعتهم . ويبث في نفوسهم روح المقاومة والصبر والصمود والمثابرة والجد ، ويثير فيهم روح العمل والتحرك والنشاط ! ويملؤهم بالأمل ، والبشرى بالنجاح والفلاح ، ويصلي عليهم لتكون صلاته سكنا لهم . فيقول في دعائه ليوم عرفة بعد الصلاة على الأئمة : . اللهم ! وصل على أوليائهم ، المعترفين بمقامهم ، المتبعين منهجهم ، المقتفين آثارهم ، المستمسكين بعروتهم ، المتمسكين بولايتهم ، المؤتمين بإمامتهم ، المسلمين لأمرهم ، المجتهدين في طاعتهم ، المنتظرين أيامهم ، المادين إليهم أعينهم ( 1 ) . وبهذه القوة ، ليصنع منهم جيلا ، متكتلا ، متوثبا ، طموحا ، ثابت الجأش ، قوي العزيمة ، متماسك الصف ، متحد الهدف . وفي نص آخر ، يحثهم الإمام عليه السلام على المواساة والإحسان ، والمنافسة فيقول : شيعتنا ! أما الجنة فلن تفوتكم ، سريعا كان أو بطيئا ، ولكن تنافسوا في الدرجات ! واعلموا أن أرفعكم درجات ، وأحسنكم قصورا ، ودورا ، وأبنية : أحسنكم إيجابا بإيجاب المؤمنين ، وأكثركم مواساة لفقرائهم . ‹ صفحة 127 › إن الله ليقرب الواحد منكم إلى الجنة بكلمة طيبة يكلم أخاه المؤمن الفقير ، بأكثر من مسيرة ماءة عام بقدمه ، وإن كان من المعذبين بالنار . فلا تحتقروا الإحسان إلى إخوانكم ، فسوف ينفعكم حيث لا يقوم مقام غيره ( 1 ) . وهو عليه السلام في الوقت الذي يجد من أنصار الحق تذمرا ، أو وهنا ، أو تألما من مجاري الأحداث حولهم ، يهب لنجدتهم ، وتقويتهم روحيا ومعنويا ، فيقول : فما تمدون أعينكم ؟ لقد كان من قبلكم ، ممن هو على ما أنتم عليه ، يؤخذ فتقطع يده ورجله ويصلب ! ثم يتلو عليه السلام : * ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء . . . ) * [ البقرة ( 2 ) : 214 ] ( 2 ) وبكل هذه الجهود والتحصينات والتعاليم المركزة ، تربى جيل صامد من المؤمنين ، المتسلحين بالإسلام ، بعلومه وعقيدته وتقواه وإخلاصه ، فأصبحوا أمثلة للشيعة ، وقدوة صالحة للتعريف لمن يستحق هذا الاسم من المنتمين إلى التشيع ، من أمثال : يحيى بن أم الطويل : الذي عد من القلائل الذين بقوا - بعد كربلاء - على ولائهم واتصالهم بالإمام زين العابدين عليه السلام ( 3 ) ، بل هو من حوارييه ( 4 ) ، ومن أبوابه ( 5 ) . وكان من المجاهرين بالحق ، كان يقف بالكناسة في الكوفة ، وينادي بأعلى صوته : معاشر أولياء الله ! إنا برءآء مما تسمعون . من سب عليا عليه السلام فعليه لعنة الله . ونحن برءآء من آل مروان وما يعبدون من دون الله . ثم يخفض صوته فيقول : من سب أولياء الله فلا تقاعدوه ، ومن شك في ما نحن ‹ صفحة 128 › عليه فلا تفاتحوه ، ومن احتاج إلى مسألتكم من إخوانكم . . . فقد خنتموه ( 1 ) . وكان يدخل مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - حيث يجتمع المشبهة الملحدون - ويقول : كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ( 2 ) . وقد طلبه الحجاج ، وأمر بقطع يديه ورجليه ، وقتله ( 3 ) . وسعيد بن جبير : الذي مثل به الحجاج وقتله ( 4 ) وكان قد خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث ، يحارب دولة بني أمية وكان يومئذ يقول : قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم ، بنية ويقين ، على آثامهم قاتلوهم ، وعلى جورهم في الحكم ، وتجبرهم في الدين ، واستذلالهم الضعفاء ، وإماتتهم الصلاة ( 5 ) . والذين اختفوا من جور بني أمية مثل سالم بن أبي حفصة ، وسليم بن قيس الهلالي ، وعامر بن واثلة الكناني ، ومحمد بن جبير بن مطعم . والذين هربوا فنجاهم الله مثل أبي خالد الكابلي ، وأبي حمزة الثمالي ، وشعيب مولى الإمام ( 6 ) . وآل أعين الذين قال الحجاج فيهم : ( لا يستقيم لنا الملك ومن آل أعين رجل تحت حجر ) ، فاختفوا وتواروا ( 7 ) . وفي طليعة من رباهم الإمام زين العابدين أبناؤه : الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام ، الذي تحمل الإمامة من بعده ، وقاد الأمة إلى ‹ صفحة 129 › الهدى والرشاد ، وأسس المدرسة الفقهية على قواعد الإسلام المتينة ، ومصادره وأصوله الرصينة ، عندما بدأ الحكام بترويج فقه وعاظ السلاطين ، فحفظ بذلك الشريعة المقدسة من الزوال . وابنه الحسين الأصغر ، الذي روى عن أبيه العلم ، وكان مشارا إليه في العبادة والصلاح ( 1 ) . وأخذ الحديث عن عمته فاطمة بنت الحسين ، وأخيه الإمام الباقر عليه السلام ( 2 ) . وقال فيه الإمام الباقر عليه السلام : أما الحسين فحليم ، يمشي على الأرض هونا ( 3 ) . وابنه العظيم المجاهد في سبيل الله زيد الشهيد عليه السلام الذي ضرب أروع الأمثلة في الإباء والحمية ، والفداء والتضحية . وكان عين إخوته - بعد أبي جعفر عليه السلام - وأفضلهم ، وكان عابدا ورعا ، فقيها ، سخيا ، شجاعا ، وظهر بالسيف ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويطلب بثارات الحسين عليه السلام ( 4 ) . إن ثورة زيد بن علي عليه السلام كانت عظيمة من حيث توقيتها ، وآثارها التي خلفتها ، لخدمة حق أهل البيت عليهم ، ونستعرض في ما يلي بعض ذلك : 1 - إن هذه الحركة الشجاعة دلت على أن البيت الذي يلد مثل زيد من الرجال ، في البطولة والشهامة ، والجرأة والإقدام ، فضلا عن العلم والعبادة والتقى ، لا يبنى على التخاذل والمهادنة مع الظالمين ، أو الابتعاد عن السياسة والتوجس من العذاب ، والهول من المصائب . ولو كان لأحد أثر في تربية زيد الشهيد على كل تلك الصفات ، فليس إلا لأبيه الإمام الطاهر زين العابدين ، وإلا لأخيه الإمام الباقر عليهما السلام ، اللذين علماه الإسلام بما فيه من تعاليم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودرساه التاريخ بما فيه ‹ صفحة 130 › بطولات جده علي أمير المؤمنين عليه السلام وذكراه بثارات جده الحسين عليه السلام ، وزقاه المجد والكرامة ، ولقناه الإباء والحرية ( 1 ) . واستلهم - هو - من حياة أبيه وأخيه ، وسيرتهم الحميدة والأصيلة ، ونضالهم الصامت والناطق سنن التضحية والفداء ، حتى جعل في مقدمة أهداف ثورته العظيمة : الطلب بثارات الحسين عليه السلام في كربلاء ( 2 ) . 2 - إن ثورة زيد بن علي عليه السلام هي الثمرة اليانعة للجهود السياسية التي بذلها الإمام زين العابدين ، طول فترة إمامته ، فهو الذي تمكن بتخطيطه الدقيق من استعادة القوى ، وتهيئة النفوس ، لمثل حركة ابنه الشهيد ، وإن صح التعبير فهو الذي جيش لابنه زيد ذلك الجيش المسلح ، الذي فاجأ الظالمين ، وزعزع ثقتهم بالحكم الظالم . فلم يكن الجيش الذي كان مع زيد وليد ساعته ، أو يومه ، أو شهره ، أو سنته ، مع تلك المقاومة الباسلة التي أبداها أصحابه وأنصاره ( 3 ) . 3 - ويكفي زيد بن علي عليه السلام عظمة أنه ضحى بنفسه في سبيل تعزيز مواقع الأئمة الطاهرين من أهل البيت عليهم السلام ، فقد كشف للأمويين الطغاة ، في فترة حساسة من تاريخ حكمهم ، أن أهل البيت : لا يزالون موجودين في الساحة ، ولديهم القدرة الكافية على التحرك في أي موقع زمني ، وأي موضع من البلاد ، وهذا ما جعل الأمويين ي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 125 › ( 1 ) الكافي ( 8 : 14 - 17 ) الأمالي للمفيد ( ص 200 - 204 ) وفيه : قال أبو حمزة الثمالي - راوي هذا الكتاب : ( قرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسين عليه السلام ، فكتبت ما فيها ، وأتيته به ، فعرضته عليه فعرفه وصححه ) وأمالي الطوسي ( 1 : 4 - 127 ) ورواه في تحف العقول ( 252 - 255 ) . ‹ هامش ص 126 › ( 1 ) الصحيفة السجادية ، الدعاء ( 47 ) ليوم عرفة . ‹ هامش ص 127 › ( 1 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 50 ) . ( 2 ) بحار الأنوار ( 67 - 197 ) . ( 3 ) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123 ) رقم ( 194 ) . ( 4 ) معجم رجال الحديث ( 20 : 42 ) . ( 5 ) تاريخ أهل البيت : ( ص 48 ) ‹ هامش ص 128 › ( 1 ) الكافي ، الأصول ( 2 : 281 ) باب مجالسة أهل المعاصي ( ح 16 ) ( 2 ) الاختصاص ( ص 64 ) ورواه الخصيبي في ( الأبواب ) بزيادة قوله : ( حتى تؤمنوا بالله وحده ) فلاحظ الباب ( 5 ) ص ( 124 : ألف ) . ( 3 ) رجال الكشي ( ص 123 ) رقم ( 194 ) . ( 4 ) انظر رجال الكشي ( ص 119 ) رقم ( 190 ) بحار الأنوار ( 46 : 136 ) ومروج الذهب ( 3 : 173 ) والإمامة والسياسة ( 2 : 51 ) والاختصاص ( ص 205 ) . ( 5 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 478 ) . ( 6 ) لاحظ تراجم هؤلاء في كتب رجال الحديث عند الشيعة الإمامية وغيرهم وانظر عوالم العلوم ( ص 279 ) . ( 7 ) رسالة أبي غالب الزراري ( ص 190 ) الفقرة ( 4 ) . ‹ هامش ص 129 › ( 1 ) الإرشاد للمفيد ( ص 269 ) . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( ص 269 ) . ( 3 ) حياة الإمام محمد الباقر ( 1 : ) . ( 4 ) الإرشاد للمفيد ( 268 ) ‹ هامش ص 130 › ( 1 ) تعلم زيد على أبيه وعلى أخيه الباقر عليهما السلام انظر : طبقات ابن سعد ( 5 : 240 ) وتاريخ ابن عساكر ( تهذيب بدران ) ( 6 : 19 ) وانظر : ثورة زيد لناجي حسن ( ص 28 و 32 ) . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( 268 ) وانظر الفرق بين الفرق ، للبغدادي ( ص 35 ) . ( 3 ) لاحظ ثورة زيد لناجي حسن ( ص 98 ) . ( 4 ) نقله الإمام الهادي في المجموعة الفاخرة ( ص 220 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 130 - 137 يهابون الأئمة عليهم السلام ويعدونهم المعارضين الأقوياء ، المدافعين عن هذا الدين ، برغم جسامة التضحيات التي كانوا يقدمونها ، وأبان الشهيد زيد لكل الظالمين أن أهل البيت عليهم السلام لا يسكتون عمن يعتدي على كرامة الإسلام ، مهما كلف الثمن . وبهذا يفسر قوله لابن أخيه الصادق جعفر بن محمد - لما أراد الخروج إلى الكوفة - : أو ما علمت يا بن أخي أن قائمنا لقاعدنا ، وقاعدنا لقائمنا ، فإذا خرجت أنا وأنت ، فمن يخلفنا في حرمنا ؟ ( 4 ) ‹ صفحة 131 › 4 - إن قيام الشهيد زيد بن علي عليه السلام ، بحركته خارج حدود المدينة صرف أنظار الحكام عن قطب رحى الدين ، ومحور فلك الإمامة والقيادة ، وهم الأئمة القائمون في المدينة المنورة ، بحيث تمكن الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام من أداء دوره القيادي ، مستفيدا من كل الأجواء الإيجابية التي خلقتها ثورة عمه الشهيد زيد بن علي عليه السلام ، لينشر علوم آل محمد الحقة ، ويربي الجيل الإسلامي المؤمن . وكفى ذلك عظمة ومجدا وهدفا ساميا . 5 - وكان من ثمرات ثورة زيد بن علي عليه السلام أنه أثبت للأمة صدق الدعوى التي يرفع رايتها أئمة أهل البيت ، في الدفاع عن هذا الدين والنضال من أجله ، فهذه التضحيات الكبرى أوضح شاهد على ذلك . وكان ذلك تعزيزا عمليا لمواقع أهل البيت عليهم السلام في أوساط الأمة الإسلامية ( 1 ) . ‹ صفحة 132 › ثانيا : في مجال الإصلاح وشؤون الدولة إن كان الإصلاح من أبرز ما يقصده الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، لأن مهمتهم إنما جعلت في الأرض لدفع الفساد عنها بهداية الخلق إلى ما هو صالح لهم ، وقطع دابر المفسدين . فإن كان هذا هو الحق : فإن الإمام زين العابدين عليه السلام لم يتخل عن موقعه الإلهي ، كقائد للأمة الإسلامية ، ومصلح للمجتمع الإسلامي ، وقد تبلور في ساحة العمل الاجتماعي ، في كل زواياها وأطرافها ، وأبرزها المطالبة بإصلاح جهاز الحكم . إن أقصى ما يريد أن يبعده المؤرخون المحدثون عن حياة الإمام زين العابدين هو العمل السياسي ، والتعرض للجهاز الحاكم ، والتطلع إلى إصلاح الدولة ، فيحاولون الإيحاء - بعبارات شتى - أن الإمام عليه السلام لم يكن سياسيا ، وكان بعيدا عن التورط في ما يمس قضايا السياسة من قريب أو بعيد ، وأنه انزوى متعبدا بالصلاة والدعاء والاعتكاف ! ومع اعتقادنا أن مزاولات الإمام الدينية - كلها من صميم العمل السياسي ، وخصوصا في عصره ، إذ لم يسمع نغم الفصل بين السياسة والدين ، بعد ! فمع ذلك : نجد في طيات حياة الإمام زين العابدين عليه السلام عينات واضحة ، من التدخلات السياسية الصريحة . فهو في ما يلي من النصوص المنقولة عنه ، يبدو رجلا مشرفا على الساحة السياسية ، فهو يدخل في محاورات حادة ، ويتابع مجريات الأحداث ، ويدلي بتصريحات خطرة بشأن الأوضاع الفاسدة التي تعيشها الأمة ، وهو ينميها - بكل صراحة - إلى فساد الدولة . 1 - قال عبد الله بن حسن بن حسين : كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يجلس كل ليلة ، هو ، وعروة بن الزبير ، في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ! بعد العشاء الآخرة ، فكنت أجلس معهما ، فتحدثا ليلة ، فذكرا جور من جار من بني أمية ، والمقام معهم ، وهما لا يستطيعان تغيير ذلك ! ثم ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم ! ‹ صفحة 133 › فقال عروة لعلي : يا علي ، إن من اعتزل أهل الجور ، والله يعلم منه سخطه لأعمالهم ، فكان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رجي له أن يسلم مما أصابهم . قال : فخرج عروة ، فسكن العقيق . قال عبد الله بن حسن : وخرجت أنا فنزلت سويقة ( 1 ) . أما الإمام زين العابدين فلم يخرج ، بل : آثر البقاء في المدينة طوال حياته ( 2 ) لأنه يعد مثل هذا الخروج فرارا من الزحف السياسي ، وإخلاءا للساحة الاجتماعية للظالمين ، يجولون فيها ويصولون . وما أعجب ما في النص من قوله : ( يجلسون كل ليلة . . . في مسجد الرسول ) وكأنه اجتماع منظم ، ولا ريب أن فيه تحديا صارخا للنظام يقوم به الإمام زين العابدين عليه السلام . ولعل اقتراح عروة بن الزبير - وهو من أعداء أهل البيت عليهم السلام - ( 3 ) كان تدبيرا سياسيا منه ، أو من قبل الحكام ، ومحاولة لإبعاد الإمام عليه السلام عن الحضور في الساحة الاجتماعية ، لكنه عليه السلام لم يخرج ، وظل يداوم مسيرته النضالية . 2 - وفي حديث آخر : قال الإمام زين العابدين عليه السلام : إن للحمق دولة على العقل ، وللمنكر دولة على المعروف ، وللشر دولة على الخير ، وللجهل دولة على الحلم ، وللجزع دولة على الصبر ، وللخرق دولة على الرفق ، وللبؤس دولة على الخصب ، وللشدة دولة على الرخاء ، وللرغبة دولة على الزهد ، وللبيوت الخبيثة دولة على بيوتات الشرف ، وللأرض السبخة دولة على الأرض العذبة . فنعوذ بالله من تلك الدول ، ومن الحياة في النقمات ( 4 ) . وإذا كانت ( الدولة ) - في اللسان العربي - هي : الغلبة والاستيلاء ، وهي من أبرز مقومات ( السلطة الحاكمة ) فإن الإمام عليه السلام يكون قد أدرج قضية السلطة السياسية ‹ صفحة 134 › في سائر القضايا الحيوية ، والطبيعية ، التي يهتم بها ، ويفكر في إصلاحها ، ويحاول رفع مشكلاتها التي تستولي على الإنسان ، من اقتصادية ، وثقافية ، ونفسية ، ودينية . فمن - يا ترى - يعني الإمام عليه السلام بالبيوتات الخبيثة التي لها السلطان على الأشراف ، في عصر الإمام عليه السلام ؟ ! ومن هي البيوتات الشريفة المغلوبة في عصره عليه السلام ؟ ! وهل التعوذ بالله من دولة السلطان ، يعني أمرا غير رفض وجوده ، واستنكار سلطته ؟ ! وهل لسياسي آخر حضور أقوى من هذا ، في مثل ظروف الإمام عليه السلام وموقعه ، وضمن تخطيطه الشامل لحل المشاكل ؟ وأخيرا هل يصدر مثل هذا من رجل ادعي : أنه ابتعد عن السياسة ، أو اعتزلها ! ؟ ‹ صفحة 135 › ثالثا : في مجال مقاومة الفساد وإذا كان من أهم واجبات المصلح ، وخاصة الإلهي ، مقاومة الفساد ، ومحاربة المفسدين في الأرض ، فإن الإمام زين العابدين عليه السلام قام بدور بارز في أداء هذا المهم . وقد تميز عصر الإمام عليه السلام ، بمشاكل اجتماعية من نوع خاص ، وقد تكون موجودة في كثير من الأوقات ، إلا أن بروزها في عصره كان واضحا ، ومكثفا ، كما أن الإمام زين العابدين قام بمعالجتها بأسلوبه الخاص ، مما أعطاها صبغة فريدة ، تميزت في نضال الإمام عليه السلام ، أهمها : 1 - مشكلة العصبية ، والعنصرية . 2 - مشكلة الفقر العام . 3 - مشكلة الرق والعبيد . ولنبحث عن كل واحدة ، وموقف الإمام عليه السلام في معالجتها : 1 - مقاومة العصبية والعنصرية : إن الأمويين - بعد إحكام قبضتهم على الحكم - اعتمدوا سياسة التفرقة العنصرية بين طوائف الأمة ، والعصبية القبلية بين مختلف طبقاتها ، محاولين بذلك تفتيت المجتمع الإسلامي ، وتقطيع أواصر الوحدة بين أفراد الأمة الإسلامية ، تلك الوحدة التي شرعها الله بقوله تعالى : * ( إن هذه أمتكم أمة واحدة * وأنا ربكم فاعبدون ) * [ سورة الأنبياء : ( 21 ) الآية : 92 ] . ودفعا لها على التفرق الذي نهى عنه الله بقوله تعالى : * ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) * [ سورة آل عمران : ( 3 ) الآية : 103 ] . حتى وصل الأمر إلى : أنه تتابع فخر النزارية على اليمنية ، وفخر اليمنية على النزارية ، حتى تخربت البلاد ، وثارت العصبية في البدو والحضر - كما يقول المسعودي - ( 1 ) . ‹ صفحة 136 › وقال ابن خلدون : إن عصبية الجاهلية نسيت في أول الإسلام ، ثم عادت كما كانت ، في زمن خروج الحسين عليه السلام عصبية مضر لبني أمية كما كانت لهم قبل الإسلام ( 1 ) . فقاموا بأعمال تسير على هذه السياسة الخارجة عن حدود الدين والشرع ، مثل تأمير العرب ، وتقديم العربي ولو كان خاملا على الكفوئين من غير العرب ، والسعي في تعريب كل شرائح وأجهزة الدولة ، بتنصيب العرب في مناصب الديوان ، والقضاء ، وحتى الفقه . وتجاوزوا كل الأحكام الشرعية في التزامهم بأساليب الحياة العربية الجاهلية ، فتوغلوا في اللهو والاستهتار بالمحرمات ، والظلم ، والقتل ، حتى تجاوزوا أعرافا عربية سائدة بين العرب قبل الإسلام ، فخانوا العهد ، وأخفروا الذمة ، وهتكوا العرض ( 2 ) . ولقد بلغت تعدياتهم أن كان معاوية : يعتبر الناس العرب ، ويعتبر الموالي شبه الناس ( 3 ) ! وقد استغل الجاهلون هذا الوضع ، فكان العرب لا يزوجون الموالي ( 4 ) . وجاء في بعض المصادر أن حاكم البصرة - بلال بن أبي بردة - ضرب شخصا من الموالي ، لأنه تزوج امرأة عربية ( 5 ) . ووصلت عدوى هذا المرض إلى علماء البلاط أيضا فاتبعوا سياسة الأسياد ، فقد وجهت إلى الزهري تهمة أنه لا يروي الحديث عن الموالي ، فسئل عن ذلك ؟ فاعترف به ( 6 ) . ‹ صفحة 137 › قال أحمد أمين المصري : لم يكن الحكم الأموي حكما إسلاميا يسوى فيه بين الناس ، ويكافأ فيه المحسن عربيا كان أو مولى ، ويعاقب من أجرم عربيا كان أم مولى ، ولم تكن الخدمة للرعية على السواء ، وإنما كان الحكم عربيا ، والحكام فيه خدمة للعرب على حساب غيرهم ، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية ، لا النزعة الإسلامية ( 1 ) . ولقد قاوم الإمام زين العابدين عليه السلام هذه الردة الاجتماعية عن الإسلام بكل قوة ، وتمكن - بحكم موقعه الاجتماعي ، وأصالته النسبية - أن يقتحم على بني أمية ، بلا رادع أو حرج . قال الدكتور صبحي : في ما كان الأمويون يقيمون ملكهم على العصبية العربية عامة ، كان زين العابدين عليه السلام يشيع نوعا من الديمقراطية الاجتماعية ( 2 ) بالرغم مما يجري في عروقه من دم أصيل ، أبا وأما ، وقد أقدم على ما زعزع التركيب الاجتماعي للمجتمع الإسلامي الذي أراد له الأمويون أن يقوم على العصبية ( 3 ) . وقد قاوم الإمام زين العابدين عليه السلام ذلك ، نظريا بما قدمه من تصريحات ، وعمليا بما أقدم عليه من مواقف : فكان يقول : لا يفخر أحد على أحد ، فإنكم عبيد ، والمولى واحد ( 4 ) . وكان يجال . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 130 › ( 1 ) تعلم زيد على أبيه وعلى أخيه الباقر عليهما السلام انظر : طبقات ابن سعد ( 5 : 240 ) وتاريخ ابن عساكر ( تهذيب بدران ) ( 6 : 19 ) وانظر : ثورة زيد لناجي حسن ( ص 28 و 32 ) . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( 268 ) وانظر الفرق بين الفرق ، للبغدادي ( ص 35 ) . ( 3 ) لاحظ ثورة زيد لناجي حسن ( ص 98 ) . ( 4 ) نقله الإمام الهادي في المجموعة الفاخرة ( ص 220 ) . ‹ هامش ص 131 › ( 1 ) إقرأ مفصلا عن زيد الشهيد وأخباره في عوالم العلوم ( ص 219 ) وما بعدها من الجزء الخاص بترجمة الإمام السجاد عليه السلام . ‹ هامش ص 133 › ( 1 ) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 17 : 21 ) . ( 2 ) جهاد الشيعة ، لليثي ( ص 29 ) . ( 3 ) لاحظ تنقيح المقال ( 2 : 251 ) . ( 4 ) تاريخ دمشق ( الحديث 142 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 255 ) . ‹ هامش ص 135 › ( 1 ) مروج الذهب ( 2 : 197 ) . ‹ هامش ص 136 › ( 1 ) نقله على جلال في كتاب : الحسين عليه السلام ( 2 : 188 ) . ( 2 ) لاحظ : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، لأبي الحسن الندوي . واقرأ ثورة زيد ( ص 77 وما بعدها ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ، مختصر ابن منظور ( 17 : 284 ) . ( 4 ) وسائل الشيعة ، كتاب النكاح ، الباب ( 26 ) الحديث ( 4 ) تسلسل ( 25060 ) ولاحظ العقد الفريد ، للأندلسي ( 3 : 360 - 364 ) . ( 5 ) لاحظ : طبقات ابن سعد ( 7 : 26 ق 2 ) . وانظر تهذيب الكمال ، للمزي ( 4 / 272 ) . ( 6 ) المحدث الفاصل ، للرامهرمزي ( ص 409 ) رقم ( 431 ) والجامع لأخلاق الراوي ، للخطيب ( 1 / 192 ) . ‹ هامش ص 137 › ( 1 ) ضحى الإسلام ( 1 : 187 ) . ( 2 ) يلاحظ أن هذا الكاتب نفسه يقول عن الإمام : ( لكن الإقبال على الله ، واعتزال شؤون العالم . . كان منهجه في حياته الخاصة ) وقد سبق كلامه في المقدمة ( ص 10 - 11 ) . ( 3 ) نظرية الإمامة ، للدكتور صبحي ( ص 6 - 257 ) ( 4 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 217 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 137 - 143 لس مولى لآل عمر بن الخطاب ، فقال له رجل من قريش - هو نافع بن جبير - : أنت سيد الناس ، وأفضلهم ، تذهب إلى هذا العبد وتجلس معه ؟ ! ‹ صفحة 138 › فقال عليه السلام : أءتي من أنتفع بمجالسته في ديني ( 1 ) أو قال : إنما يجلس الرجل حيث ينتفع ( 2 ) . ومن المعلوم أن ما ينتفع به الإمام عليه السلام من هذا المولى ليس إلا بنفس المجالسة ، فإن هذه المجالسة تحقق للإمام غرضه السياسي من إعلان معارضته لسياسة بني أمية المبتنية على طرد الموالي وعدم احترامهم ، فإذا جالسه الإمام زين العابدين عليه السلام - وهو من لا ينكر شرفه نسبا وحسبا - فإن ذلك نسف لتلك السياسة التي تبنتها الدولة ورجالها ! وقال له طاوس اليماني - وقد رآه يجزع ويناجي ربه بلهفة - : يا بن رسول الله ، ما هذا الجزع والفزع ، . . . ، وأبوك الحسين بن علي ، وأمك فاطمة الزهراء ، وجدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ! فالتفت الإمام عليه السلام إليه وقال : هيهات ، هيهات ، يا طاوس ، دع عني حديث أبي ، وأمي ، وجدي ، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبدا حبشيا ، وخلق النار لمن عصاه ، ولو كان ولدا قرشيا ، أما سمعت قوله تعالى : * ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) * . [ سورة المؤمنون ( 23 ) الآية : 101 ] . والله ، لا ينفعك - غدا - إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح ( 3 ) وأعتق الإمام زين العابدين عليه السلام مولاة له ، ثم تزوجها ، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي ، فعدها تحديا لعرف السلطة الحاكمة ، فكتب إلى الإمام يحاسبه ويعاتبه على ذلك ، ومما جاء في كتابه : ( إنك علمت أن في أكفائك من قريش من تتمجد به في الصهر ، وتستنجبه في الولد ، فلا لنفسك نظرت ، ولا على ولدك أبقيت . . . ) . وهذا كلام - مع أنه ينم عن التعزي بعزاء الجاهلية في عنصريتها وغرورها - فهو تعريض بالإمام عليه السلام أنه ليس بحكيم ، وأنه بحاجة إلى أن يتمجد بمصاهرة واحد من ‹ صفحة 139 › قريش ، وأن ولده لا ينجب إلا بمثل ذلك ، متغافلا عن أن الإمام عليه السلام بنفسه هو مصدر الحكمة والمجد والنجابة . فأجابه الإمام زين العابدين عليه السلام بكتاب ، جاء فيه : ( أما بعد : فقد بلغني كتابك ، تعنفني فيه بتزويجي مولاتي ، وتزعم : ( أنه كان في قريش من أتمجد به في الصهر ، وأستنجبه في الولد ) . وإنه ليس فوق رسول الله مرتقى في مجد ، ولا مستزاد في كرم . وكانت هذه الجارية ملك يميني ، خرجت مني إرادة لله عز وجل بأمر ألتمس فيه ثوابه ، ثم ارتجعتها على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ومن كان زكيا في دين الله تعالى فليس يخل به شي من أمره . وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ، وتمم به النقيصة ، وأذهب به اللؤم ، فلا لؤم على امرئ مسلم ، وإنما اللؤم لؤم الجاهلية . والسلام ) ( 1 ) . وقد عرض الإمام عليه السلام في هذا الكتاب بأن ما يقوم به حكام بني أمية من تبني العصبية هو مخالف للإسلام ولسنة الرسول ، بل قلب عليه كل الموازين التي اعتمدها في كتابه إلى الإمام ، وجعل العتاب مردودا عليه ، والنقص والعار واردا على الجاهلية التي يتبجح بها من خلال العصبية . وقال عليه السلام : لا حسب لقرشي ، ولا عربي إلا بالتواضع ، ولا كرم إلا بالتقوى ، ولا عمل إلا بالنية ، ولا عبادة إلا بالتفقه ، ألا وإن أبغض الناس إلى الله من يقتدي بسنة إمام ، ولا يقتدي بأعماله ( 2 ) . وقال عليه السلام : العصبية التي يأثم صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية أن يعين قومه ‹ صفحة 140 › على الظلم ( 1 ) . وهذا حسم قيم في هذا المجال ، حيث أن الميل إلى العصبة والقبيلة أمر طبيعي ، جرت عليه العادة ، فإذا كان على أساس الحب والولاء فهو أمر جيد ، لكن إذا كان على أساس المحاباة ، وظلم الآخرين وعلى حساب حقوق الأباعد ، أو كان من باب إعانة الظالم ، فهذا هو المردود في الإسلام . والذي يدعيه أصحاب النعرات العنصرية ، وأهل الغرور والجهل ، الفارغين من القيم ، كبني أمية ، هو النوع الثاني . إن هذه التصريحات ، وتلك المواقف ، بقدر ما كانت مثيرة للسلطة المتبنية لسياسة العصبية والعنصرية ، حتى أثارت أحاسيس الملك نفسه ، فهي في الوقت ذاته كانت منيرة للدرب أمام الأمة الإسلامية بكل طوائفها وأجناسها وألوانها وشعوبها وقبائلها ، تلك المغلوبة على أمرها ، تفتح أمامها أبواب الأمل بالإسلام ورجاله المخلصين ، الذين يقود مسيرتهم في ذلك العصر الإمام زين العابدين عليه السلام . 2 - ضد الفقر : من المشاكل الاجتماعية الخطيرة ، التي يستغلها الحكام لإحكام سيطرتهم على الأمة هي مشكلة الفقر والعوز والحاجة إلى المال ، فإن السلطات تحاول اتباع سياسة التجويع من جهة ، لإخضاع الناس وترغيبهم في العمل مع السلطات ، وثم سياسة التطميع والتمويل من جهة أخرى ، لتعويد الناس على الترف وزجهم في الجرائم والآثام . وهم بهذه السياسة يسيطرون على عصب الحياة في البلاد ، وهو المال ، يستفيدون منه في القضاء على من لا يرضى بهم ، وفي جذب من يرضون به من ضعفاء النفوس أمام هذه المادة المغرية . وقد ركن معاوية إلى هذه السياسة في بداية سيطرته على البلاد ، فأوعز إلى ولاته في جميع الأمصار : انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من ‹ صفحة 141 › الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ( 1 ) . ولا ريب في أن رفع المستوى المعيشي لدى أفراد الأمة هو واحد من أهم الأهداف المرسومة لأية محاولة ثورية ، أو عمل إصلاحي ، حتى لو لم تكن دينية ، فكيف بها إذا كانت إلاهية ، يقودها شخص الإمام العادل ؟ ! إن التحرك للإصلاح ، والناس في بؤس وتخلف اقتصادي ، سوف يكلفهم الكثير الذي قد يعجزون عنه ، ولو تمكن قائد ما أن يرفع من المستوى الاقتصادي للأمة ، فهم يكونون في حالة أفضل لتقبل أطروحة الإصلاح ، ويكون أوكد على صمودهم أمام الضغوط التي تفرض عليهم من قبل الظالمين والمعتدين . ثم إن السعي في هذا المجال ، والمال حاجة يومية لكل أحد ، أوكد في تعميق الصلة بين القيادة والقاعدة ، من حيث تحسس القيادة لأمس الحاجات ، وأكثرها ضرورة وأسرعها نفعا ، فتكون دليلا على حقانية سائر الأهداف التي تعلن للخطة الإصلاحية ولقد |
كان الإمام زين العابدين عليه السلام يزاول عملية تموين الناس بدقة فائقة ، خاصة عوائل الشهداء والمنكوبين في معارك ضد الدولة ، يقوم بذلك في سرية تامة ، حتى خفيت - في بعض الحالات - على أقرب الناس إليه عليه السلام . والأهم من ذلك : أن الفقراء أنفسهم لم يطلعوا على أن الشخص الممون لهم هو الإمام زين العابدين عليه السلام إلا بعد وفاته ، وانقطاع أعطياته ! فعن أبي حمزة الثمالي : إن علي بن الحسين عليه السلام كان يحمل الخبز بالليل ، على ظهره ، يتبع به المساكين في ظلمة الليل ، ويقول : ( إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب ) ( 2 ) . وعن محمد بن إسحاق ، قال : كان ناس من أهل المدينة يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلما مات علي بن الحسين عليه السلام فقدوا ما كان يؤتون به بالليل ( 3 ) ‹ صفحة 142 › وعن عمرو بن ثابت ، قال : لما مات علي بن الحسين عليه السلام وجدوا بظهره أثرا ، فسألوا عنه ؟ فقالوا : هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل ( 1 ) . وهذه الدقة في السرية كانت من أجل إلهاء عيون الدولة عن مواقفه . مع أن الهدف الأساسي من هذا العمل - وهو تمويل الناس وتموينهم - كان يتحقق بتلك الطريقة الهادئة . ومع أن معرفة الناس للأمر - ولو بعد حين - كان أوقع في النفوس وأكثر تأثيرا في حب الناس لأهل البيت عليهم السلام . ومع ما في ذلك من البعد عن الرياء ، والسمعة ، والمباهاة . وقد وصلت سرية عمله عليه السلام إلى حد أنه كان يتهم بالبخل : قال شيبة بن نعامة : كان علي بن الحسين يبخل ، فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة ( 2 ) . وقال ابن عائشة ، عن أبيه ، عن عمه : قال أهل المدينة : ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ( 2 ) . وهذا واحد من أساليب عمله في رفع هذه المشكلة ، وقد اتبع أساليب أخرى ، نقرأ عنها الأحاديث التالية : إنه عليه السلام كان يعتبر المشكلة الاقتصادية محنة كبيرة أن يجد الفقر متفشيا في الدولة الإسلامية ، وهي السعة بحيث لا يمكن معالجتها بسهولة : ففي الحديث : شكا إليه عليه السلام بعض أصحابه دينا ، فبكى الإمام عليه السلام فلما سئل عن سبب بكائه ؟ قال عليه السلام : وهل البكاء إلا للمحن الكبار ! ؟ وأي محنة أكبر من أن يرى الإنسان أخاه المؤمن في حاجة لا يتمكن من قضائها ، وفي فاقة لا يطيق دفعها ( 4 ) . وأسلوب آخر في التركيز على مقاومة المشكلة : ‹ صفحة 143 › عن الرضا عن أبيه ، عن جده عليهم السلام ، قال : قال علي بن الحسين : إني لأستحيي من الله عز وجل أن أرى الأخ من إخواني ، فأسأل الله له الجنة ، وأبخل عليه بالدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل لي : ( لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل ) ( 1 ) . إنه رفع لمستوى مقاومة المشكلة إلى مستوى مثالي رائع ، وخطاب موجه إلى كل من يعمل في الدنيا على حساب نعيم الآخرة ، لا على معطياتها الدنيوية فقط ، إنه معنى عرفاني دقيق ، ورفيع ، وبديع . وأسلوب آخر ، يدل على إصرار الإمام عليه السلام لتجاوز المشكلة : قال عمرو بن دينار : دخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد ، في مرضه ، فجعل محمد يبكي ، فقال : ما شأنك ؟ قال محمد : علي دين . قال : كم هو ؟ قال : خمسة عشر ألف دينار - أو بضعة عشر ألف دينار - . قال الإمام : فهي علي ( 2 ) . وقد جاء في الحديث أن الإمام عليه السلام قاسم الله تعالى ماله مرتين ( 3 ) . هذا من جهة . ومن جهة أخرى : نجد الإمام عليه السلام يؤكد على تداول الثروة ويحث على تنميتها ، واستثمار الأموال ، وعدم تجميدها ، لأن تجميدها هو التكنيز المذموم ، للخسارة الواضحة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 137 › ( 1 ) ضحى الإسلام ( 1 : 187 ) . ( 2 ) يلاحظ أن هذا الكاتب نفسه يقول عن الإمام : ( لكن الإقبال على الله ، واعتزال شؤون العالم . . كان منهجه في حياته الخاصة ) وقد سبق كلامه في المقدمة ( ص 10 - 11 ) . ( 3 ) نظرية الإمامة ، للدكتور صبحي ( ص 6 - 257 ) ( 4 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 217 ) . ‹ هامش ص 138 › ( 1 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 388 ) وانظر حلية الأولياء ( 3 : 137 ) وصفوة الصفوة ( 2 : 98 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 30 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 233 ) وطبقات ابن سعد ( 5 : 216 ) . ( 3 ) مناقب ابن شهرآشوب ( 3 : 291 ) كشف الغمة ( 4 : 151 ) بحار الأنوار ( 46 : 82 ) ونقل عن مجالس ثعلب ( 2 : 462 ) . ‹ هامش ص 139 › ( 1 ) الكافي ، الفروع ( 5 : 344 ) . ( 2 ) تحف العقول ( ص 28 ) . ‹ هامش ص 140 › ( 1 ) بلاغة علي بن الحسين ( ص 203 ) . ‹ هامش ص 141 › ( 1 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 11 : 45 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 76 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 77 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) . ‹ هامش ص 142 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 79 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 80 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) حلية الأولياء ( 3 : 361 ) ، تاريخ دمشق ( الحديث 81 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 4 : 393 ) . ( 4 ) أمالي الصدوق ( ص 367 ) ونقله في عوالم العلوم ( ص 29 ) في حديث طويل . ‹ هامش ص 143 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 84 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) وتهذيب التهذيب ( 7 : 306 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث : 83 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 75 ) . ( 4 ) تحف العقول ( ص 283 ) . ( 5 ) في هامش المصدر السابق . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 143 - 149 يها ، ولاحتمال سقوط القيمة الشرائية لها ، وتسبيبها لعدم ازدهار السوق الإسلامية ، بينما تداولها يؤدي إلى نقيض كل ذلك . فقد قال الإمام عليه السلام : استنماء المال تمام المروءة ( 4 ) وفي نص آخر : استثمار المال ( 5 ) . وإذا قارنا هذه المواقف من الإمام عليه السلام بما كان يجري على أيدي بني أمية من ‹ صفحة 144 › البذخ والترف والإسراف والإهدار لأموال بيت المال ، ومن منع الموالين لعلي عليه السلام من الرزق والعطاء ، ومن حاجة الشخصيات مثل محمد بن أسامة بن زيد ، فضلا عن عوائل الشهداء المغضوب عليهم من قبل الدولة . لو قارنا بين الأمرين : لعلمنا - بكل وضوح - أن لأعمال الإمام عليه السلام بعدا سياسيا ، وهو الوقوف أمام استغلال السلطة للأزمة الاقتصادية عند الناس ، ومنع استدراج الظالمين لذوي الحاجة والمحنة وخاصة المنكوبين إلى مهاوي الانتماء إليها أو حتى الفساد والجريمة ، بالمال الذي استحوذت الدولة عليه ، وأن لا تطبق به سياسة التطميع بعد التجويع . 3 - ضد الرق : إن تحرير الرقيق يشكل ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام بشكل ليس له مثيل في تاريخ الإمامة ، فهو أمر يسترعي الانتباه والملاحظة . وإذا دققنا في الظروف والملابسات التي عايشها الإمام ، وقمنا ببعض المقارنات بين أعمال الإمام ، والأحداث التي كانت تجري من حوله ، والظروف التي تكتنف عملية الإعتاق الواسعة التي تبناها الإمام زين العابدين عليه السلام ، تتضح الصورة الحقيقية لأهداف الإمام عليه السلام من ذلك . فيلاحظ أولا : 1 - أن أعداد الرقيق ، والعبيد ، كانت تتواتر على البلاد الإسلامية ، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل ، على أثر توالي الفتوحات ( 1 ) . 2 - أن الأمويين كانوا ينتهجون سياسة التفرقة العنصرية ، فيعتبرون الموالي شبه الناس ( 2 ) . 3 - أن الجهاز الحاكم على الدولة الإسلامية ، أخذا من نفس الخليفة ، إلى جميع الأمراء وموظفي الدولة ، لا يمثل الإسلام ، بل كان كل واحد يعارض معنوياته ‹ صفحة 145 › وأخلاقه ، وإن تنادى بشهاداته واسمه . 4 - إن انتشار العبيد والموالي ، وبالكثرة الكثيرة ، ومن دون أي تحصين أخلاقي ، أو تربية إسلامية ، لأمر يؤدي - لا محالة - إلى شيوع البطالة ، والفساد ، وهو ما تركز عليه الدولة الظالمة التي تعمل في هذا الاتجاه بالذات . ويلاحظ ثانيا : 1 - أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان يشتري العبيد والإماء ، ولكن لا يبقي أحدهم عنده أكثر من مدة سنة واحدة فقط ، وأنه كان مستغنيا عن خدمتهم ( 1 ) . فكان يعتقهم بحجج متعددة ، وبالمناسبات المختلفة . إذن ، فلماذا كان يشتريهم ؟ ولماذا كان يعتقهم ؟ 2 - إنه عليه السلام كان يعامل الموالي ، لا كعبيد أو إماء ، بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية ، مما يغرز في نفوسهم الأخلاق الكريمة ، ويحبب إليهم الإسلام ، وأهل البيت الذين ينتمي إليهم الإمام عليه السلام . 3 - إنه عليه السلام كان يعلم الرقيق أحكام الدين ويملؤهم بالمعارف الإسلامية ، بحيث يخرج الواحد من عنده محصنا بالعلوم التي يفيد منها في حياته ، ويدفع بها الشبهات ، ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح . 4 - إنه عليه السلام كان يزود كل من يعتقه بما يغنيه ، فيدخل المجتمع الجديد ليزاول الأعمال الحرة ، كأي فرد من الأمة ، ولا يكون عالة على أحد . إن المقارنة بين هذه الملاحظات ، وتلك ، تعطينا بوضوح القناعة بأن الإمام كان بصدد إسقاط السياسة التي كان يزاولها الأمويون في معاملتهم مع الرقيق . إن عمل الإمام زين العابدين عليه السلام أنتج نتائج عظيمة ، هي : 1 - حرر مجموعة كبيرة من عباد الله ، وإمائه الذين وقعوا في الأسر ، وتلك حالة استثنائية غير طبيعية ، ومع أن الإسلام كان قد أقرها لأمور يعرف بعضها من خلال قراءة التاريخ ، إلا أن الشريعة قد وضعت طرقا عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم ‹ صفحة 146 › الحرية ، وقد استغل الإمام عليه السلام كل الظروف والمناسبات لتطبيق تلك الطرق ، وتحرير العبيد والإماء . وفي عمله تطبيق للشريعة وسننها ، كما يدل عليه الحديث التالي : فعن سعيد بن مرجانة ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار ، حتى أنه يعتق باليد اليد ، وبالرجل الرجل ، وبالفرج الفرج ) . فقال علي بن الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة ! قال سعيد : نعم . فقال الإمام : ادع لي - مطرفا لغلام له أفره غلمانه - فلما قام بين يديه ، قال : إذهب ، فأنت حر لوجه الله ( 1 ) . إن الإمام زين العابدين عليه السلام لا يخفى عليه ثواب عتق الرقبة ، وإنما أراد أن يؤكد على سنة العتق من خلال تقرير الراوي على سماع الحديث ! وليكون عمله قدوة للآخرين كي يقوموا بعتق ما يملكون من الرقاب . 2 - إن الرقيق المعتقين يشكلون جيلا من التلامذة الذين تربوا في بيت الإمام عليه السلام وعلى يده ، بأفضل شكل ، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحق والمعرفة ، والصدق والإخلاص ، وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة . فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكل ذلك في قرارات النفوس ، في شعورهم أو لا شعورهم ، وينقلونه إلى الأجيال المتعاقبة ، وفي ذلك حفظ الإسلام . ولا ريب أن الإمام زين العابدين عليه السلام لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس ، فلا بد أنه كان يواجه منعا من الجهاز الحاكم ، أو عرقلة لعمله ، أو رقابة شديدة على أقل تقدير . 3 - إن الإمام عليه السلام استقطب ولاء الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحررين ، إذ ‹ صفحة 147 › لا يزال ولاء العتق يربطهم بالإمام عليه السلام ، ولا ريب أنهم أصبحوا جيشا ، فإن عددهم بلغ - في ما قيل - خمسين ألفا ، وقيل : مائة ألف ! ( 1 ) . فعن عبد الغفار بن القاسم أبي مريم الأنصاري ، قال : كان علي بن الحسين خارجا من المسجد فلقيه رجل فسبه ! فثارت إليه العبيد والموالي ، فقال علي بن الحسين : مهلا عن الرجل ، ثم أقبل على الرجل ، فقال له : ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها ؟ - فاستحيى الرجل - فألقى عليه خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم . فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسول ( 2 ) . وقد كان لهؤلاء العبيد موقف دفاعي آخر ، عن أهل البيت ، لما سمعوا أنباء ضغط ابن الزبير على آل أبي طالب في مكة ، وشيخهم محمد بن الحنفية عم الإمام زين العابدين عليه السلام ، في ما رواه البلاذري بسنده عن المشايخ يتحدثون : أنه لما كان من أمر ابن الحنفية ما كان ، تجمع بالمدينة ( ! ) قوم من السودان ، غضبا له ، ومراغمة لابن الزبير . فرأى ابن عمر غلاما له فيهم ، وهو شاهر سيفه ! فقال له : رباح ! قال رباح : والله ، إنا خرجنا لنردكم عن باطلكم إلى حقنا . فبكى ابن عمر ، وقال : اللهم إن هذا لذنوبنا ( 3 ) . وقال عبد العزيز سيد الأهل : وجعل الدولاب يسير ، والزمن يمر وزين العابدين يهب الحرية في كل عام ، وكل شهر ، وكل يوم ، وعند كل هفوة ، وكل خطأ ، حتى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار ، والجواري الحرائر ، وكلهم في ولاء زين العابدين ( 4 ) . ‹ صفحة 148 › حقا لقد تحين الإمام عليه السلام الفرص ، واهتبل حتى الزلة الصغيرة تصدر من أحد الموالي ليهب له الحرية ، فكان يكافئ الإساءة بالإحسان ليكون أعذب عند الذي يعتق ، وأركز في خلده ، فلا ينساه . إن الإمام زين العابدين عليه السلام استنفد كل وسيلة للتحرير . وإليك بعض الأحاديث عن ذلك : 1 - نادى علي بن الحسين عليه السلام مملوكه مرتين ، فلم يجبه ، ثم أجابه في الثالثة ، فقال له الإمام : يا بني ! أما سمعت صوتي ؟ قال المملوك : بلى ! قال الإمام : فما بالك لم تجبني ؟ قال المملوك : أمنتك ! قال الإمام : الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني ( 1 ) . 2 - عن عبد الرزاق ، قال : جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه ، فشقه ، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها ، فقالت الجارية : إن الله عز وجل يقول : * ( والكاظمين الغيظ ) * . فقال لها : قد كظمت غيظي . قالت : * ( والعافين عن الناس ) * . فقال لها : قد عفا الله عنك . قالت : * ( والله يحب المحسنين ) * [ آل عمران ( 2 ) الآية 124 ] . قال : اذهبي ، فأنت حرة ( 2 ) . فكأن هذا الحوار كان امتحانا واختبارا ، نجحت فيه هذه الجارية ، بحفظها هذه الآية ، واستشهادها بها ، فكانت جائزتها من الإمام عليه السلام أن تعتق ! 3 - قال عبد الله بن عطاء : أذنب غلام لعلي بن الحسين ذنبا استحق منه العقوبة ، فأخذ له السوط ، فقال : * ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) * ‹ صفحة 149 › . [ الجاثية ( 45 ) الآية ( 14 ] . فقال الغلام : وأما أنا كذلك ، إني لأرجو رحمة الله وأخاف عقابه . فألقى السوط ، وقال : أنت عتيق ( 1 ) . فلقد لقنه الإمام عليه السلام بقراءة الآية ، وهو يختبر معرفته بمعناها وذكاءه ، فأعتقه مكافأة لذلك . 4 - وكان عند الإمام عليه السلام قوم ، فاستعجل خادم له شواءا كان في التنور ، فأقبل به الخادم مسرعا ، وسقط السفود من يده على بني للإمام عليه السلام أسفل الدرجة ، فأصاب رأسه ، فقتله ، فوثب الإمام عليه السلام ، فلما رآه ، قال للغلام : إنك حر ، إنك لم تتعمده ، وأخذ في جهاز ابنه ( 2 ) . ولعملية الإعتاق على يد الإمام عليه السلام صور مثيرة أحيانا ، تتجاوز الحسابات المتداولة : ففي الحديث المتقدم عن سعيد بن مرجانة ، وجدنا أن الإمام عليه السلام قد أعتق غلاما اسمه ( مطرف ) وجاء في ذيل الحديث ، أن عبد الله بن جعفر الطيار كان قد أعطى الإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الغلام ( ألف دينار ) أو ( عشرة آلاف درهم ) ( 3 ) . ففي إمكان الإمام عليه السلام أن يبيع الغلام بهذا الثمن الغالي ، ويعتق بالثمن مجموعة من الرقيق أ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 143 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 84 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) وتهذيب التهذيب ( 7 : 306 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث : 83 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 75 ) . ( 4 ) تحف العقول ( ص 283 ) . ( 5 ) في هامش المصدر السابق . ‹ هامش ص 144 › ( 1 ) لاحظ فجر الإسلام لأحمد أمين ( ص 90 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 17 : 284 ) . ‹ هامش ص 145 › ( 1 ) لاحظ الإقبال للسيد ابن طاوس ( ص 477 ) . ‹ هامش ص 146 › ( 1 ) أخرجه البخاري في صحيحه ( 3 : 188 ) كتاب العتق والكفارات ، ومسلم في صحيحه ( 10 : 152 ) في العتق ، والترمذي في صحيحه ( 4 : 114 ) في النذور رقم ( 1541 ) وانظر حلية الأولياء ( 3 : 136 ) . ‹ هامش ص 147 › ( 1 ) لاحظ بحار الأنوار ( 46 : 104 - 105 ) . ( 2 ) صفوة الصفوة لابن الجوزي ( 2 : 100 ) ، تاريخ دمشق ( الحديث 112 ) وكشف الغمة ( 2 / 81 ) وبحار الأنوار ( 46 / 99 ) وعوالم العلوم ( ص 115 ) . ( 3 ) أنساب الأشراف ( الجزء الثالث ) ( ص 295 ) . ( 4 ) زين العابدين ، لسيد الأهل ( ص 47 ) . ‹ هامش ص 148 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 90 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 240 ) وشرح الأخبار ( 3 : 260 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 90 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 240 ) . ‹ هامش ص 149 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 113 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 244 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 118 ) مختصر ابن منظور ( 17 - 244 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 82 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 149 - 158 أكثر من واحد ، ولكن الإصرار على إعتاق هذا الغلام بالخصوص - مع غلاء ثمنه - يحتوي على معنى أكبر من العتق : فهو تطبيق لقوله تعالى : * ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) * [ سورة آل عمران ( 3 ) الآية : 92 ] . وهو إيماء إلى أن الإنسان لا يعادل بالأثمان ، مهما غلت وعلت أرقامها ! ولعل السبب الأساسي هو : أن غلاء ثمن الغلام لا يكون إلا من أجل أدبه ، وذكائه ، وحنكته ، وقوته ، وغير ذلك مما يجعله فردا نافعا ، فإذا صار حرا ، وهو ‹ صفحة 150 › متصف بهذه الصفات ، يفيد المجتمع ككل ، فهو أفضل - عند الإمام عليه السلام - من أن يكون عبدا يستخدمه شخص واحد لأغراضه الخاصة ، مهما كانت شريفة ! وبهذا واجه الإمام زين العابدين عليه السلام مشكلة الرق ، واستفاد منها ، في صالح المجتمع والدين ( 1 ) . وبما أنه عليه السلام كان يحتل موقعا رفيعا بين الأمة الإسلامية جمعاء : إما لأنه إمام مفترض الطاعة ، عند المعتقدين بإمامته عليه السلام . أو لأنه من أفضل فقهاء عصره ، والمعترف بورعه وتقواه وعلمه ، عند الكافة . أو لأنه من سادات أهل البيت الذين يمتازون بين الناس بالطهارة والكرامة والشرف والمجد . فقد كان عمله حجة معتبرة ، وقدوة صالحة ، للمسلمين كافة ، يقتدون به في تحرير الرقيق ، ومحو العنصرية المقيتة . وبعد هذه الصور الرائعة : فهل يصح أن يقال : ( إن زين العابدين عليه السلام كان منعزلا عن السياسة ، أو مبتعدا عنها ) وهو يقوم بهذا النشاط الاجتماعي الواسع . ‹ صفحة 151 › |
وأخيرا :
مع كتاب ( رسالة الحقوق ) إن رسالة الحقوق التي نظمها الإمام زين العابدين عليه السلام تدل على اهتمام الإمام بكل ما يدور حوله في المجتمع الإسلامي ، وعنايته الفائقة بسلامته النفسية والصحية ، ورعايته لأمنه واستقراره ، وحفاظه على تكوينته الإسلامية . وإذا نظرنا إلى ظروف الإمام عليه السلام من جهة ، وإلى ما يقتضيه تأليف هذه الحقوق ، من سعة الأفق وشموليته من جهة أخرى ، وقفنا على عظمة هذا العمل الجبار الذي صنعه الإمام قبل أربعة عشر قرنا . إن صنع مثل هذا القانون في جامعيته ودقته وواقعيته ، لا يصدر إلا من شخص جامع للعلم والعمل ، مهتم بشؤون الأمة ، ومتصد لإصلاحها فكريا وثقافيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ، وإداريا ، وصحيا ، ونفسيا ، ولا يصدر - قطعا - من شخص منعزل عن العالم ، وعن الحياة الاجتماعية ، ولا مبتعد عن السياسة وأمور الحكم والدولة ! ولذلك فإنا نجد الرسالة تحتوي على حقوق مثل : حق السلطان ، وحق الرعية ، وحق أهل الملة عامة ، وحق أهل الذمة ، وغيرها مما يرتبط بأمور الدولة والحكم وتنظيم الحياة الاجتماعية ، إلى جانب الشؤون الخاصة العقيدية والعبادية والمالية ، وكل ما يرتبط بحياة حرة كريمة للفرد وللمجتمع الذي يعيش معه ، ومثل هذا لا يصدر ممن يعتزل الحياة الاجتماعية . ورسالة الحقوق عمل علمي عظيم يستدعي دراسة موضوعية عميقة شاملة ، نقف من خلالها على أبعاد دلالتها على حركة الإمام زين العابدين عليه السلام الاجتماعية ، وخاصة من المنظار السياسي ، وما استهدفه من بيانها ونشرها . ونقدم هنا مقطعين هامين ، يرتبطان مباشرة بأمور الإدارة والحياة الاجتماعية ، وهما حق السلطان على الرعية ، وحق الرعية على السلطان : قال عليه السلام - في حقوق الأئمة - : وأما حق سائسك بالسلطان : ‹ صفحة 152 › فإن تعلم أنك جعلت له فتنة ، وأنه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان . وأن تخلص له في النصيحة ، وأن لا تماحكه ، وقد بسطت يده عليك ، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه . وتذلل وتلطف لإعطائه من الرضا ما يكفه عنك ، ولا يضر بدينك ، وتستعين عليه في ذلك بالله . ولا تعازه ولا تعانده ، فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك ، فعرضتها لمكروهه ، وعرضته للهلكة فيك ، وكنت خليقا أن تكون معينا له على نفسك ، وشريكا له في ما أتى إليك من سوء . ولا قوة إلا بالله ( 1 ) . وقال عليه السلام - في حقوق الرعية - : وأما حق رعيتك بالسلطان : فإن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم ، فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم وذلهم . فما أولى من كفاكه ضعفه وذله - حتى صيره لك رعية وصير حكمك عليه نافذا ، لا يمتنع عنك بعزة ولا قوة ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلا بالله - بالرحمة والحياطة والأناة . وما أولاك - إذا عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزة والقوة التي قهرت بها - أن تكون لله شاكرا ، ومن شكر الله أعطاه في ما أنعم عليه . ولا قوة إلا بالله ( 2 ) . إن الإمام عليه السلام في هاتين الفقرتين إنما يخاطب من هم من عامة الناس - سلطانا ورعية - ممن لا بد أن تربط بينهم السياسة ، إذ لا بد للناس من أمير ، على ما هو سنة الحياة وطبيعة التكوينة الاجتماعية ، فلا بد أن تكون لهم حقوق ، وتثبت عليهم واجبات ، ترتب بذلك حياتهم ترتيبا طيبا كي يعيشوا في صفاء وود وخير وسعادة . والإمام عليه السلام هنا - يقطع النظر عن الولاية الإلهية التكوينية ، ومنصب الإمامة المفروضة تشريعيا على الناس . ‹ صفحة 153 › ولذلك عبر ب ( السلطان ) و ( الرعية ) ولم يفرض في السلطان ولاية إلهية ، وإنما فرضها سلطة حاصلة بالقوة والقهر ، وهذا ما يتمكن من تحصيله حتى غير الأئمة الإلهيين ، وإن كان السلاطين يحاولون الإيحاء بأنهم ينوبون عن الله في الولاية والسلطة ، وأنهم ظل الله على الأرض ، ولذلك يلقنون الناس فكرة ( الجبر ) حتى يربطوا وجودهم بإرادة الله ( 1 ) . لكن الإمام السجاد عليه السلام فرغ الحديث عن السلطان من كل هذه المعاني ، وإنما تحدث عن حقه كمتسلط بالقوة على الرعية ، فهو في هذه الحالة لا بد أن يعرف واجباته ويؤديها ويعرف حقوقه فلا يطلب أكثر منها . كما أن الرعية المواجهة لمثل هذا السلطان لا بد أن تعرف حدود المعاملة الواجبة عليها تجاهه ، وما يحرم عليها فلا تقتحمه ، رعاية للمصالح الاجتماعية العامة بشريا . وبما أن السلاطين في هذا المقام لم تفرض لهم العصمة ، اللازمة في الولاة الإلهيين ، فلا بد أن يحذروا من المخالفات الشرعية ، كما لا بد للرعية أن يحذروا من التعرض لبطشهم وسطوتهم ، فهناك حقوق مرسومة لكل منهما - السلطان والرعية - لا بد من مراعاتها ، حددها الإمام عليه السلام . فعلى السلطان أن لا يغتر بقدرته الموقوتة المحدودة : 1 - : أن يكون رؤوفا رحيما بالبشر الذين استولى عليهم . 2 - أن يعرف قدر نعمة السلطة ، حتى يوفق للمزيد ، حسب الموعود بالمزيد لمن شكر . ويتنعم بما هو فيه من فضل وسلطة . وأما الرعية ، فعليها : 1 - أن تخلص في النصيحة للسلطان وتبذل الولاء في سبيل إنجاح المهمة الاجتماعية والحكمة والتدبير من ( لا بدية الأمير ) في سبيل الخير . 2 - وأن لا تلجأ إلى العداء والبغضاء حتى لا يلجأ السلطان إلى العدوان والفتك ، فيحصل العقوق بين الراعي والرعية فيشتركان في إثم الفساد في الأرض . ‹ صفحة 154 › ومن المعلوم - في المقامين - أن مخاطب الإمام عليه السلام إنما هم المؤمنون بالله تعالى ، ولذا جعل كلا منهما ( فتنة إلهية ) للآخر ، ليعتبر بهذا الموقع الخطر الذي يتبوأه كل منهما . فالحديث مع الذين لا يخالفون أمر الله ولا يعادونه ، وإنما يسيرون موافقين للإسلام ، ويعتمدون على ما سنه من أحكام ، ولا يضرون بالدين ، وإلا فالأمر يختلف ، والحديث يتفاوت ، والحقوق تكون غيرها ، والواجبات سواها . والحاصل : أن ما حدده الإمام عليه السلام إنما هو عن السلطان والرعية ، إذا لم يتهدد كيان الإسلام وأحكامه وشعائره خطر من قبل السلطة ، بدليل التذكير فيه بنعم الله وحوله وقوته وأنه لا حول ولا قوة إلا به . وإلا ، لم يكن الخطاب بمثل هذا الكلام المعتمد على الإيمان بالله والاعتقاد بالواجب والإحساس بالخدمة للناس والإصلاح في المجتمع ، والاعتماد على قوة الله وحوله ، كما هو الحال في كل الحقوق الأخرى التي ذكرها في ( رسالة الحقوق ) فإنه وجه الخطاب إلى الأمة الإسلامية في داخل الوطن الإسلامي ، وفي الحدود التي يلتزم رعاياها بشريعة الإسلام وقواعده . وسنثبت نصا موثوقا لرسالة الحقوق في الملحق الأول من ملاحق الكتاب بعون الله ( 1 ) . ‹ صفحة 155 › الفصل الرابع التزامات فذة في حياة الإمام عليه السلام أولا : التزام الزهد والعبادة ثانيا : التزام البكاء على سيد الشهداء عليه السلام ثالثا : التزام الدعاء وأخيرا : مع الصحيفة السجادية هدفا ومضمونا ‹ صفحة 157 › تميزت سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام بمظاهر فذة ، وهي وإن كانت متوفرة في حياة آبائه وأبنائه الأئمة عليهم السلام ، إلا أنها برزت في سيرة الإمام عليه السلام بشكل آخر ، أكثر وضوحا ، وأوسع دورا ، مما تسترعي الانتباه ، وهي : 1 - ظاهرة الزهد والعبادة . 2 - ظاهرة البكاء . 3 - ظاهرة الدعاء . فإذا سبرنا حياة الأئمة عليهم السلام ، وجدناهم - كلهم - يتميزون في هذه المظاهر على أهل زمانهم ، إلا أنها في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام تجاوزت الحد المألوف ، حتى كان عليه السلام فريدا في الالتزام بكل منها : العبادة والزهد ، فقد عد فيهما : زين العابدين وسيد الزاهدين ، حتى ضرب به المثل فيهما . والبكاء ، فقد عد فيه : من البكائين الخمسة . وأما الدعاء : فالصحيفة التي خلفها تكفي شاهدا على ما نقول . وسنحاول في هذا الفصل أن نشاهد أثر الالتزام بهذه المظاهر في ملامح سيرة الإمام عليه السلام ، ونقرأ ما خلده لنا التاريخ من آثارها في الحياة الاجتماعية للإمام عليه السلام ، وما استهدفه الإمام عليه السلام من اللجوء إليها بهذا الشكل المركز . ‹ صفحة 158 › أولا : التزام الزهد والعبادة لقد أخذت هذه الظاهرة ساعات طويلة من وقت الإمام عليه السلام ، وملأت مساحات واسعة من صفحات سيرته الشريفة ، حتى أصبح من أشهر ألقابه ( زين العابدين ) ( 1 ) و ( سيد الساجدين ) ( 2 ) . والزهد ، من الفضائل الشريفة التي يتزيى بها الرجال الطيبون ، المخلصون لله ، الراغبون في . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 149 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 113 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 244 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 118 ) مختصر ابن منظور ( 17 - 244 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 82 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ‹ هامش ص 150 › ( 1 ) واقرأ صورا مثيرة من تعامله مع عبيده وإمائه في عوالم العلوم ( ص 151 - 155 ) . ‹ هامش ص 152 › ( 1 ) رسالة الحقوق ، الحق رقم [ 15 ] ( 2 ) رسالة الحقوق ، الحق رقم [ 18 ] ‹ هامش ص 153 › ( 1 ) كما شرحنا جانبا من ذلك في بحث سابق ، لاحظ ( ص 88 - 91 ) في الفصل الثاني . ‹ هامش ص 154 › ( 1 ) لاحظ الصفحات ( 254 - 296 ) من كتابنا هذا . ‹ هامش ص 158 › ( 1 ) تاريخ أهل البيت عليهم السلام ( ص 130 - 131 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 237 ) عن مالك بن أنس و ( ص 235 ) عن الزهري . ( 2 ) قد مضى أن هذه الألقاب وردت في الحديث المرفوع ، فلاحظ ( ص 5 3 - 37 ) من كتابنا هذا . ( 3 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) وشرح الأخبار ( 3 : 254 و 272 ) والخصال للصدوق 517 وعلل الشرائع له ( ص 232 ) والإرشاد للمفيد ( 256 ) وكشف الغمة ( 1 : 33 ) نقلا عن رسالة الجاحظ في فضل بني هاشم و ( 2 : 86 ) وفلاح السائل ( ص 244 ) وتذكرة الحفاظ ( 1 : 75 ) وبحار الأنوار ( 46 / 67 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 158 - 163 جزيل ثوابه ، العارفون بحقيقة الدنيا وأنها فانية زائلة ، فلا يميلون إلى الاستمتاع بلذاتها ومغرياتها ، بل يقتصرون على الضروري الأقل ، من المشرب والملبس والمسكن والمأكل . وقد التزم أئمة أهل البيت بهذه الفضيلة بأقوى شكل ، وفي التزامهم بها معنى أكبر من مجرد الفضل والخلق الجيد ، فكونهم أئمة يقتدى بهم وأمثولة لمن يعتقد بهم ، وأسوة لمن سواهم ، وقدوة للمؤمنين ، يتبعون خطاهم ، فهم لو تخلقوا بهذا الخلق الكريم ، قام جمع من الناس بذلك معهم ، سائرين على طرق مأمونة من الانحراف . فللإمام السجاد عليه السلام في العبادة مشاهد عظيمة ، وأعمال جليلة ، وسجدات طويلة ، وصلوات متتالية ، حتى أنه كان يصلي في اليوم والليلة ( ألف ركعة ) ( 3 ) وهذا يشبه ما نقل عن جده الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام . وإذا نظرنا إلى عصر الإمام زين العابدين عليه السلام ، وإلى ما حوله من حوادث واقعة وأمور جارية : أمكننا أن نقول : إن التزام الإمام بهذه العبادة ، وبهذا الشكل من السعة ، والإصرار ، والإعلان ، لم يكن عفويا ، ولا عن غير قصد وهدف ، ولا لمجرد ‹ صفحة 159 › حاجة شخصية ، وتقرب خاص ، بل كان وراءها تدبير اجتماعي مهم جدا ، إذ أن الأمويين - في تلك الفترة بالخصوص ، وبعد سيطرتهم على مقدرات العباد والبلاد - جدوا في إشاعة الفساد ، وتمييع المجتمع ، وترويج الترف واللهو ، بين الناس ، بهدف تبرير أعمالهم المخالفة للشرع المقدس ، المنافية للعرف الذي يبتنى على العفة والشرف ، وسعيا لتخدير الناس ، وإبعاد الأمة عن الروح الإسلامية الواثبة المقتدرة التي تمكن المسلمون بها من السيطرة على مساحات شاسعة من العالم وحضارات لامبراطوريات مجاورة لها بعد أن كانوا من الشعوب المتخلفة تتخطفهم الأمم من حولهم ، لا يملكون لعدوهم دفعا ، ولا عن ذمارهم منعا . وقد خاطبتهم الزهراء فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصفة حالتهم بقولها : . . . وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطأ الأقدام ، تشربون الطرق وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي ( 1 ) . فأرشدهم الرسول إلى المجد والعلى والكرامة والعلم . لكن الأمويين - ولأجل إخماد ثورة الإسلام في نفوس الناس - أخذوا في ترويج الفحشاء والمنكر ، والفجور والخمور ، والظلم والخيانة ، حتى ضرب بهم المثل في خرق العهود والمواثيق ، وتجاوز الأعراف والموازين المقبولة بين الناس ، وتلاعبوا بكل المقدرات والمقررات ، وانغمسوا - وجروا الناس معهم - في الرذيلة واللعب ، ومعهم الجيل الناشئ من الأمة ، الذي نما على هذه الروح الطاغية اللاهية . حتى جعلوا من مدينة الرسول الطيبة ، مركزا للفساد . قال أبو الفرج الأصبهاني : إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم ، ولا يدفعه عابدهم ( 2 ) وحتى : كانت يثرب تعج بالمغنيات . . . ‹ صفحة 160 › ومن المؤسف - حقا - أن مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صارت - في العصر الأموي - مركزا للحياة العابثة ، وكان من المؤمل أن تصبح معهدا للثقافة الدينية ، ومصدرا للإشعاع الفكري والحضاري في العالم الإسلامي ، إلا أن الأمويين سلبوها هذه القابلية ، وأفقدوها مركزيتها الدينية والسياسية ( 1 ) . ولما خرج عروة بن الزبير من المدينة واتخذ قصرا بالعقيق ، وقال له الناس : قد أجفرت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! قال : إني رأيت مساجدهم لاهية ، وأسواقهم لاغية ، والفاحشة في فجاجهم عالية ( 2 ) . وأضاف القرطبي : وكان في ما هناك عما أنتم فيه عافية ( 3 ) . إنه - في مثل هذه الأجواء والظروف - ليس عفويا ، ولا عن غير هدف : أن يظل الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة ، يعظ الناس ويرشدهم ، ويدعوهم إلى نبذ المتع ، ويحذرهم من اللغو واللهو ومن الزينة والتفاخر . فكان عليه السلام يقول : لا قدست أمة فيها البربط ( 4 ) . لقد كان له مجلس في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعظ الناس فيه : قال سعيد بن المسيب : كان علي بن الحسين عليه السلام يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا ، ويرغبهم في أعمال الآخرة ، بهذا الكلام ، في كل جمعة ، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحفظ عنه ، وكتب ، كان يقول : أيها الناس ! اتقوا الله واعلموا أنكم إليه ترجعون ، فتجد كل نفس ما عملت - في هذه الدنيا - من خير محضرا وما عملت من سوء ، تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ، ويحذركم الله نفسه [ مقتبس من القرآن الكريم . سورة آل عمران ( 3 ) الآية ( 30 ) ] . ويحك ! يا بن آدم الغافل ، وليس بمغفول عنه ! ‹ صفحة 161 › يا بن آدم ! إن أجلك أسرع شئ إليك قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك ، ويوشك أن يدركك ، وكأن قد أوفيت أجلك ، وقبض الملك روحك وصرت إلى قبرك وحيدا ، فرد إليك فيه روحك ، واقتحم عليك فيه ملكان : ناكر ونكير لمسألتك وشديد امتحانك . ألا ، وإن أول ما يسألانك : عن ربك الذي كنت تعبده ؟ وعن نبيك الذي أرسل إليك ؟ وعن دينك الذي كنت تدين به ؟ وعن كتابك الذي كنت تتلوه ؟ وعن إمامك الذي كنت تتولاه ؟ ثم ، عن عمرك في ما كنت أفنيته ؟ ومالك من أين اكتسبته ؟ وفي ما أنت أنفقته ؟ فخذ حذرك ، وانظر لنفسك ، وأعد الجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار . فإن تك مؤمنا عارفا بدينك ، متبعا للصادقين ، مواليا لأولياء الله ، لقاك الله حجتك وانطلق لسانك بالصواب وأحسنت الجواب ، وبشرت بالرضوان والجنة من الله عز وجل ، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان . وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودحضت حجتك وعييت عن الجواب ، وبشرت بالنار ، واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم . واعلم يا بن آدم : أن من وراء هذا أعظم ، وأفظع ، وأوجع للقلوب يوم القيامة ، وذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود ، يجمع الله عز وجل فيه الأولين والآخرين . ذلك يوم ينفخ في الصور ، وتبعثر فيه القبور . وذلك يوم الأزفة ، إذ القلوب لدى الحناجر ، كاظمين . وذلك يوم لا تقال فيه عثرة ، ولا يؤخذ من أحد فدية ، ولا تقبل عن أحد معذرة ، ولا لأحد فيه مستقبل توبة ، ليس إلا الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات . فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده ، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده . فاحذروا ، أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عنها ، وحذركموها في كتابه الصادق ، والبيان الناطق . ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده ، عندما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا ، فإن الله عز وجل يقول : * ( إن الذين اتقوا إذا مسهم ‹ صفحة 162 › طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) * [ الأعراف ( 7 ) الآية : 201 ] . وأشعروا قلوبكم خوف الله ، وتذكروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه ، كما قد خوفكم من شديد العقاب ، فإنه من خاف شيئا حذره ، ومن حذر شيئا تركه . ولا تكونوا من الغافلين ، المائلين إلى زهرة الدنيا ، الذين مكروا السيئات ، فإن الله يقول في محكم كتابه : * ( أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف ) * [ النحل ( 16 ) الآيات 45 - 47 ] . فاحذروا ما حذركم الله ، بما فعل بالظلمة ، في كتابه ، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب . والله ، لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم ، فإن السعيد من وعظ بغيره . ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم ، حيث يقول : * ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ) * وإنما عنى بالقرية أهلها ، حيث يقول : * ( وأنشأنا بعدها قوما آخرين ) * فقال عز وجل : * ( فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ) * يعني يهربون ، قال : * ( لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ) * فلما أتاهم العذاب * ( قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ) * [ الأنبياء ( 21 ) الآيات ( 11 - 15 ) ] . وأيم الله ، إن هذه عظة لكم وتخويف ، إن اتعظتم وخفتم . ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب ، فقال الله عز وجل : * ( ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ) * [ الأنبياء ( 21 ) الآية ( 46 ) ] . فإن قلتم - أيها الناس - : إن الله عز وجل إنما عنى بهذا أهل الشرك ؟ فكيف ذاك ؟ وهو يقول : * ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) * [ الأنبياء ( 21 ) الآية ( 47 ) ] ؟ ! إعلموا - عباد الله - إن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين ، ‹ صفحة 163 › وإنما يحشرون إلى جهنم زمرا ، وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام . فاتقوا الله عباد الله . واعلموا أن الله عز وجل لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ، ولم يرغبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها ، وإنما خلق الدنيا وأهلها ليبلوهم فيها : أيهم أحسن عملا لآخرته ؟ . وأيم الله ، لقد ضرب لكم فيه الأمثال ، وعرف الآيات لقوم يعقلون ، ولا قوة إلا بالله . فازهدوا في ما زهدكم الله عز وجل فيه من عاجل الحياة الدنيا . فإن الله عز وجل يقول - وقوله الحق - : * ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) * [ يونس ( 10 ) الآية ( 24 ) ] . فكونوا عباد الله من القوم الذين يتفكرون ، ولا تركنوا إلى الدنيا فإن الله عز وجل قال لمحمد ص . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 158 › ( 1 ) تاريخ أهل البيت عليهم السلام ( ص 130 - 131 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 237 ) عن مالك بن أنس و ( ص 235 ) عن الزهري . ( 2 ) قد مضى أن هذه الألقاب وردت في الحديث المرفوع ، فلاحظ ( ص 5 3 - 37 ) من كتابنا هذا . ( 3 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) وشرح الأخبار ( 3 : 254 و 272 ) والخصال للصدوق 517 وعلل الشرائع له ( ص 232 ) والإرشاد للمفيد ( 256 ) وكشف الغمة ( 1 : 33 ) نقلا عن رسالة الجاحظ في فضل بني هاشم و ( 2 : 86 ) وفلاح السائل ( ص 244 ) وتذكرة الحفاظ ( 1 : 75 ) وبحار الأنوار ( 46 / 67 ) . ‹ هامش ص 159 › ( 1 ) بلاغات النساء ( ص 13 ) وانظر : فدك للقزويني ( ص 153 ) وخطبتها عليها السلام في مسجد أبيها صلى الله عليه وآله وسلم لما منعها أبو بكر فدكا مروية في الاحتجاج للطبرسي ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 4 / 78 ) ، وطرقها عديدة متضافرة . ( 2 ) الأغاني - طبع دار الكتب - ( 8 : 224 ) ولاحظ ( 4 : 222 ) ففيه موقف مالك فقيه المدينة ، وانظر العقد الفريد ( 3 : 233 و 245 ) . ‹ هامش ص 160 › ( 1 ) لاحظ حياة الإمام زين العابدين للقرشي ( ص 670 ) واقرأ في الصفحات ( 665 - 71 6 ) أخبارا من ترف الأمويين ، وحياة اللهو والغناء وحفلات الرقص في المدن المقدسة - المدينة ومكة - . ( 2 ) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ( 17 : 23 ) . ( 3 ) جامع بيان العلم ( 2 / ) . ( 4 ) لسان العرب مادة ( بربط ) . ‹ هامش ص 163 › ( 1 ) الكافي ، للكليني ( 8 : 72 - 76 ) وتحف العقول ( ص 249 - 252 ) وأمالي الصدوق ( المجلس ( 76 ) ص ( 407 - 409 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 163 - 169 صلى الله عليه وآله وسلم : * ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) * [ هود ( 11 ) الآية ( 113 ) ] . ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان ، فإنها دار بلغة ، ومنزل قلعة ، ودار عمل ، فتزودوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرق أيامها ، وقبل الإذن من الله في خرابها ، فكان قد أخر بها الذي عمرها أول مرة وابتدأها وهو ولي ميراثها فأسأل الله العون لنا ولكم على تزود التقوى ، والزهد فيها . جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا ، الراغبين لآجل ثواب الآخرة ، فإنما نحن به وله . وصلى الله على محمد وآله وسلم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( 1 ) . ‹ صفحة 164 › وكان عليه السلام يعظ أصحابه ( 1 ) ويعظ الخليفة وأعوانه ( 2 ) . ويجسد في نفسه كل المواعظ والنصائح ، حتى يكون أمثولة للسامعين والمشاهدين . وقد نقلت آثار في هذا الباب عنه عليه السلام ، نذكر منها : 1 - كان علي بن الحسين عليه السلام إذا مشى لا يجاوز يديه فخذيه ، ولا يخطر بيده ( 3 ) . 2 - وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة ، فقيل له : ما لك ؟ فقال : ما تدرون بين يدي من أقوم ؟ ومن أناجي ؟ ( 4 ) . 3 - وقيل : إنه كان إذا توضأ أصفر لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ؟ فيقول : تدرون بين يدي من أريد أن أقوم ؟ ( 5 ) . 4 - قال سفيان بن عيينة : حج علي بن الحسين عليه السلام فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه ، وانتفض . . . ولم يستطع أن يلبي ، فقيل له : ما لك ؟ فقال : أخشى أن أقول : ( لبيك ) فيقول لي : ( لا لبيك ) ( 6 ) . 5 - وقال مالك بن أنس : أحرم علي بن الحسين عليه السلام ، فلما أراد أن يقول : ( لبيك اللهم لبيك ) قالها فأغمي عليه ، حتى سقط من راحلته ( 7 ) . ‹ صفحة 165 › قال : وبلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات ( 1 ) . 6 - وقع حريق في بيت فيه الإمام زين العابدين عليه السلام فجعلوا يقولون له : يا بن رسول الله ! النار ! يا بن رسول الله ! النار ! فما رفع رأسه حتى أطفئت ، فقيل له : ما الذي ألهاك عنها ؟ قال : ألهتني النار الأخرى ! ( 2 ) . 7 - قالوا : وكان علي بن الحسين عليه السلام يخرج على راحلته إلى مكة ويرجع ، لا يقرعها ( 3 ) . 8 - وروى ابن طاوس عن الصادق عليه السلام قال : كان علي بن الحسين عليه السلام إذا حضر الصلاة اقشعر جلده ، واصفر لونه ، وارتعد كالسعفة ( 4 ) . ولنقرأ معا كلاما له عليه السلام في الزهد ، لنقف على معالم رفيعة وآفاق وسيعة مما عند الإمام في هذا المقام : إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة تركهم كل خليط وخليل ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون . ألا وإن العامل لثواب الآخرة هو الزاهد في عاجل زهرة الدنيا ، الأخذ للموت أهبته ، الحاث على العمل قبل فناء الأجل ونزول ما لا بد من لقائه . وتقديم الحذر قبل الحين ، فإن الله عز وجل يقول : * ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا في ما تركت ( 5 ) * فلينزلن أحدكم اليوم نفسه في هذه الدنيا كمنزلة المكرور إلى الدنيا ، النادم على ما فرط فيها من العمل الصالح ليوم فاقته . واعلموا عباد الله : أنه من خاف البيات تجافى عن الوساد . وامتنع من الرقاد ، ‹ صفحة 166 › وأمسك عن بعض الطعام والشراب من خوف سلطان أهل الدنيا ، فكيف ، ويحك يا ابن آدم ، من خوف بيات سلطان رب العزة وأخذه الأليم وبياته لأهل المعاصي والذنوب مع طوارق المنايا بالليل والنهار ؟ فذلك البيات الذي ليس منه منجى ، ولا دونه ملتجأ ، ولا منه مهرب . فخافوا الله أيها المؤمنون من البيات خوف أهل التقوى ، فإن الله يقول : * ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( 1 ) * . فاحذروا زهرة الحياة الدنيا وغرورها وشرورها وتذكروا ضرر عاقبة الميل إليها ، فإن زينتها فتنة وحبها خطيئة . واعلم ويحك يا ابن آدم أن قسوة البطنة وكظة الملأة وسكر الشبع وغرة الملك مما يثبط ويبطئ عن العمل وينسي الذكر ويلهي عن اقتراب الأجل ، حتى كأن المبتلى بحب الدنيا به خبل من سكر الشراب . وأن العاقل عن الله ، الخائف منه ، العامل له ليمرن نفسه ويعودها الجوع حتى ما تشتاق إلى الشبع ، وكذلك تضمر الخيل لسبق الرهان . فاتقوا الله عباد الله تقوى مؤمل ثوابه وخائف عقابه فقد - لله أنتم - أعذر وأنذر وشوق وخوف ، فلا أنتم إلى ما شوقكم إليه من كريم ثوابه تشتاقون فتعملون ، ولا أنتم مما خوفكم به من شديد عقابه وأليم عذابه ترهبون فتنكلون . وقد نبأكم الله في كتابه أنه : * ( من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ( 2 ) * . ثم ضرب لكم الأمثال في كتابه وصرف الآيات لتحذروا عاجل زهرة الحياة الدنيا فقال : * ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ( 3 ) * . فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ، فاتقوا الله واتعظوا بمواعظ الله . وما أعلم إلا كثيرا منكم قد نهكته عواقب المعاصي فما حذرها وأضرت بدينه فما مقتها . أما ‹ صفحة 167 › تسمعون النداء من الله بعيبها وتصغيرها حيث قال : * ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور * سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) * ( 1 ) . وقال : * ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ) * ( 2 ) . فاتقوا الله عباد الله ، وتفكروا واعملوا لما خلقتم له ، فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى ، قد عرفكم نفسه وبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه ، فيه حلاله وحرامه وحججه وأمثاله . فاتقوا الله فقد احتج عليكم ربكم فقال : * ( ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين ) * ( 3 ) فهذه حجة عليكم فاتقوا الله ما استطعتم فإنه لا قوة إلا بالله ولا تكلان إلا عليه ، وصلى الله على محمد [ نبيه ] وآله ( 4 ) . إن الأبعاد الأخرى التي أنتجتها سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام في الزهد والعبادة ، هي 1 - اعتراف علماء البلاط بفضل أهل البيت عليهم السلام . على الرغم من أن الحكام يحاولون التغطية على فضائل المعارضين لهم ولا سيما آل أمية الذين ضربوا الأرقام القياسية في هذه الخصلة الذميمة ، بإعلان السب لأهل البيت على المنابر ، وإيعازهم إلى وعاظ السلاطين بوضع الحديث في قدحهم وذمهم ، ‹ صفحة 168 › فإن علماء البلاط الأموي في عصر الإمام زين العابدين عليه السلام ، لم يمكنهم إخفاء فضل الإمام السجاد عليه السلام فضلا عن الغض منه ، لأن سيرته لم تكن تخفى على أحد من الناس ، فقد اضطروا إلى إظهار تصريحات واضحة تعلن فضل الإمام عليه السلام ، بالرغم من ارتباطهم بالحكم الأموي الجائر ، أو موالاتهم له ، وكذلك من تلاهم من فقهاء العامة ورجالهم : قال يحيى بن سعيد : سمعت علي بن الحسين ، وكان أفضل هاشمي أدركته ( 1 ) . وقال الزهري : ما رأيت قرشيا - أو هاشميا - أفضل من علي بن الحسين ( 2 ) . وقال سعيد بن المسيب : ما رأيت أورع منه ( 3 ) . وقال حماد بن زيد : كان علي بن الحسين أفضل هاشمي أدركته ( 4 ) . لقد فرض الإمام زين العابدين عليه السلام نفسه على كل المناوئين لأهل البيت عليهم السلام حتى لم يشذ أحد منهم عن تعظيمه وتجليله . 2 - إبراز فضل أهل البيت عليهم السلام . ولقد كان الموقع الذي احتله الإمام زين العابدين عليه السلام بفضله وعبادته وزهده ، بين الأمة ، أحسن فرصة كي يعلن فضل أهل البيت ، الذي جهد الأعداء الظالمون في إخفائه : ففي الحديث أن جابرا قال له : ما هذا الجهد الذي كلفته نفسك ؟ . . . يا بن رسول الله ! البقيا على نفسك ، فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء ، وبهم تستكشف اللأواء ، وبهم تستمسك السماء ؟ ‹ صفحة 169 › فقال الإمام : يا جابر ، لا أزال على منهاج أبوي مؤتسيا بهما حتى ألقاهما . فاقبل جابر على من حضر فقال : ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين ، إلا يوسف بن يعقوب ، والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف ( 1 ) . فإن قوله : ( منهاج أبوي - يعني : عليا والحسين عليهما السلام - مؤتسيا بهما ) يعني : أن ما يتمتع به الإمام زين العابدين عليه السلام هو ما كان يتمتع به أبوه الحسين وجده علي عليهما السلام ، وأن ما قام به أبواه من الجهاد يقوم به الإمام السجاد ، لأنه مثلهما في الإمامة ، ووارثهما في الكرامة . وفي حديث عن الصادق عليه السلام في ذكر أمير المؤمنين عليه السلام وإطرائه ومدحه بما هو أهله ، وزهده في المأكل ، قال : وما أطاق عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأمة غيره ، ثم قال : وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين عليه السلام . قال : ولقد دخل أبو جعفر - ابنه - عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه ، وقد اصفر لونه من السهر ، ورمصت عيناه من البكاء . . . قال أبو جعفر عليه السلام : فلم أملك - حين رأيته بتلك الحال - البكاء ، فبكيت رحمة له ، فإذا هو يفكر ، فالتفت إلي بعد هنيئة من دخولي - فقال : يا بني ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام ، فأعطيته ، فقرأ فيها شيئا يسيرا ، ثم تركها من يده تضجرا ، وقال : من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ ( 2 ) . وعن الصادق عليه السلام قال : كان علي بن الحسين عليه السلام إذا أخذ كتاب علي عليه السلام فنظر فيه قال : من يطيق هذا ؟ من يطيق هذا ؟ ( 3 ) . وهكذا يعل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 163 › ( 1 ) الكافي ، للكليني ( 8 : 72 - 76 ) وتحف العقول ( ص 249 - 252 ) وأمالي الصدوق ( المجلس ( 76 ) ص ( 407 - 409 ) . ‹ هامش ص 164 › ( 1 ) كما رأينا صحيفته في الزهد إلى أصحابه ( راجع ص 123 - 125 ) من الفصل الثالث . ( 2 ) سيأتي ذكر مواعظ لهم في الفصل الخامس ( ص 221 - 230 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق الأحاديث ( 6 - 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) . ( 4 ) تاريخ دمشق , الأحاديث ( 6 - 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) . ( 5 ) تاريخ دمشق الأحاديث ( 6 - 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) وروي الحديث الثالث في العقد الفريد ( 3 : 169 ) . ( 6 ) تاريخ دمشق الأحاديث ( 6 - 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) . ( 7 ) تاريخ دمشق ( الحديث 64 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 237 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) . ‹ هامش ص 165 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 64 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 237 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) وانظر ص 158 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 10 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 236 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 1 - 392 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 100 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 233 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 388 ) . ( 4 ) فلاح السائل ( ص 96 ) عن كتاب ( زهرة المهج وتواريخ الحجج ) . ( 5 ) المؤمنون آية 100 . ‹ هامش ص 166 › ( 1 ) سورة إبراهيم آية 14 . ( 2 ) سورة الأنبياء آية 94 . ( 13 ) سورة التغابن آية 15 . ‹ هامش ص 167 › ( 1 ) سورة الحديد آية 20 - 21 . ( 2 ) سورة الحشر آية 18 - 19 . ( 3 ) سورة البلد آية 8 - 10 . ( 4 ) تحف العقول ( ص 272 - 274 ) . ‹ هامش ص 168 › ( 1 ) طبقات ابن سعد ( 1 : 214 ) وتاريخ دمشق ( الحديث 47 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 235 ) . ( 2 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 387 ) ولاحظ تاريخ دمشق ( الأحاديث 37 و 41 و 50 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 231 و 235 ) . ( 3 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 391 ) ومختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وحلية الأولياء ( 3 : 141 ) . ( 4 ) تهذيب الأسماء واللغات ( 1 : 343 ) . ‹ هامش ص 169 › ( 1 ) مناقب آل أبي طالب ( 3 : 289 ) وبحار الأنوار ( 46 : 79 ) ولاحظ : أمالي الطوسي ( 2 : 250 ) . ( 2 ) شرح الأخبار للقاضي ( 3 : 272 ) والإرشاد للمفيد ( ص 256 ) والمناقب لابن شهرآشوب ( 4 : 149 ) وكشف الغمة ( 2 : 85 ) وبحار الأنوار ( 46 : 75 ) . ( 3 ) الكافي للكليني ، الروضة ( 8 : 163 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 169 - 175 ن الإمام زين العابدين عليه السلام - وهو في أعلى قمم العبادة والاجتهاد في الطاعة - أنه لا يقوى على عبادة جده علي عليه السلام ! فإلى أي سماء ترتفع فضيلة أمير المؤمنين علي عليه السلام في العبادة ، بعد هذه الشهادة ! ؟ ‹ صفحة 170 › إن الإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الجهاد الظريف يحرق ما كدسه بنو أمية طوال السنين المظلمة لحكمهم من أطنان الكذب والافتراء ضد علي عليه السلام ، وينسف كل الأسس التي بنوا عليها ظلمهم وجورهم لسيد العترة وزعيم أهل البيت الطاهر أمير المؤمنين علي عليه السلام . 3 - إنارة السبيل للعباد والصالحين : إن الإمام زين العابدين عليه السلام وهو يمثل الإسلام في تصرفاته وأقواله ، كان المثل الأفضل للعباد والصالحين ، ومن أراد أن يدخل هذا المسلك الشريف فله من الإمام عليه السلام خير دليل ومرشد ، ومن أقواله خير منهج وطريقة . ولقد رسم خطوطا عريضة للسير والسلوك ، تمثل أفضل ما قرره علماء هذا الفن ، وإليك أمثلة من تلك : فقال عليه السلام : إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار ، وقوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار ( 1 ) . فربط بين الحرية ، وبين عبادة الله ، وبين الروح غير الخانعة ولا الطامعة بل المتطلعة إلى الله ، والمتقربة إلى رضوانه ، بالتزام العبادة له ، والطالبة للمزيد بالشكر ، حيث وعد وقال : * ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) * [ سورة إبراهيم ( 14 ) الآية 7 ] . وسئل عليه السلام : عن صفة الزاهد في الدنيا ؟ فقال : يتبلغ بدون قوته ، ويستعد ليوم موته ، ويتبرم في حياته ( 2 ) . وقال له رجل : ما الزهد ؟ فقال عليه السلام : الزهد عشرة أجزاء : فأعلى درجات الزهد ، أدنى درجات الورع ، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين ، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا ، وإن الزهد في آية من كتاب الله * ( لكي لا ‹ صفحة 171 › تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم ) * [ الحديد ( 57 ) الآية : 23 ] ( 1 ) . ومن أظرف أمثلة مواعظه ، ما روي عنه من الخطاب الموجه إلى ( النفس ) يقول : ( يا نفس ، حتام إلى الدنيا سكونك ، وإلى عمارتها ركونك ، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ؟ ومن وارته الأرض من الإفك ؟ ومن فجعت به من إخوانك ؟ ونقل إلى الثرى من أقرانك ؟ فهم في بطون الأرض بعد ظهورها * محاسنهم فيها بوال دواثر خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم * وساقتهم نحو المنايا المقادر وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها * وضمهم تحت التراب الحفائر ( 2 ) وهكذا يسترسل الإمام عليه السلام مع النفس في خطاب رقيق ، وحساب دقيق ، ويناجيها ، يعرض عليها العبر ، ويذكرها بما فيه مزدجر ، ويبعدها عن الدنيا وزينتها والغرور بها ، ويقربها إلى الآخرة ونعيمها وما فيها من جوار الله ورحمته ، في مقاطع نثرية رائعة ، تتلوها معان منظومة ، في ثلاثة أبيات بعد كل مقطع ، بلغت ( 18 ) مقطعا ( 3 ) . وهكذا ، لم يترك الإمام عليه السلام طريقا إلا سلكه ولا جهدا إلا استنفده ، ليدرك الأمة كيلا تقع في هوة الانحراف ، وحياة الترف التي صنعتها لها آل أمية ‹ صفحة 172 › 1 - تزييف دعاوي المبطلين من دعاة التصوف والرهبنة : ومع أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان المثل الأعلى للزهد والعبادة في عصره ، حتى غلبت عليه هذه الصفة أكثر من غيرها ، إلا أنه عليه السلام وقف من المتظاهرين - كذبا - بالزهد ، والمائلين إلى الانعزال عن المشاكل ، التاركين للحكام وللناس ، يظلم أولئك هؤلاء ، ويتبع هؤلاء أولئك ، والذين قبعوا - حسب نظرتهم - على إصلاح أنفسهم وأعمالهم ، تلك الحالة التي سميت من بعد بالتصوف ، وسمي أهلها بالصوفية . وقف الإمام عليه السلام من هذه الحالة ومن دعاتها ورعاتها ، موقف الرد والإنكار وإعلان الخطأ في طرقهم ، وحاول إرشادهم إلى طرق السلوك الصائبة ، بما قدمه إليهم وإلى الأمة من مواعظ وأدعية وخطب ورسائل وأجوبة تحدد لهم معالم الطرق القويمة والسبل المستقيمة ، والموصلة إلى الهدى والرشاد . وبما كان الإمام يتمتع به من مكانة مرموقة معترف بها ، في الإيمان والشرف ، حسبا ونسبا ، وخاصة في الزهد والعبادة ، فإن كلامه في هذا المجال كان هو المقبول ، ومواقفه التي كان يتخذها من المتظاهرين بالزهد ، كانت هي الناجحة والغالبة . وقد تركز انحرافهم في نقطتين هامتين : 1 - محاولتهم الانعزال عن الحياة الاجتماعية ، بعدم تدخلهم في ما يمس وجودهم بسوء أو ضرر ، مثل التعرض للظلم والفساد الذي يجري حواليهم ، وخاصة من قبل الخلفاء والولاة وكل من يمت إلى السلطان والحكومة بصلة ! خوفا على أنفسهم من الموت والهلكة . وقد كان يجرهم هذا التفكير إلى مداراة الظلمة ، والخضوع لهم ، والحضور في مجالسهم ، بل الانخراط في مظالمهم ، وتصويب أعمالهم ، بالرغم من معرفة ظلمهم وعدم استحقاقهم للمقامات التي احتلوها . 2 - وعلى أثر النقطة الأولى ، فإنهم ابتعدوا عن أهل البيت عليه السلام ، لأنهم كانوا هم المعارضين السياسيين ، فكان الاتصال بهم يعني المحسوبية عليهم وعلى خطهم ، ‹ صفحة 173 › فابتعدوا عنهم ، وأقل آثار ذلك هو الحرمان من تعاليمهم القيمة ، والتردي في ظلمات الجهل والانحراف . وبما أن أولئك المتظاهرين كانوا يمثلون في أنظار الناس بمنزلة علماء زهاد ، فإن استمرارهم على تلك الحالة الانحرافية كان يغري الناس البسطاء بصحة سلوكهم المنحرف ، وتفكيرهم الخاطئ فكان على الإمام زين العابدين عليه السلام أن يصدهم ، إرشادا لهم ، وإيقافا للأمة على حقيقة أمرهم ، وكشفا لانحرافهم وخطئهم في السلوك والمنهج : فموقفه من عباد البصرة ، الذين دخلوا مكة للحج ، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث ، قال أحدهم : ( ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألوننا أن نستسقي لهم ) ؟ ! والكلام إلى هنا يدل على مدى اهتمام الناس بهؤلاء العباد ! قال : فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها ، فمنعنا الإجابة ، فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل ، وقد أكربته أحزانه ، وأقلقته أشجانه ، فطاف بالكعبة أشواطا ، ثم أقبل علينا ، فقال : يا مالك بن دينار ، ويا . . . ويا . . . وذكر الإمام عليه السلام أسماءهم كلهم ، بحيث يبدو أنه يريد أن يعرفهم للناس بأعيانهم ! قال الراوي : فقلنا : لبيك وسعديك ، يا فتى ! فقال : أما فيكم أحد يحبه الرحمن ؟ فقلنا : يا فتى ، علينا الدعاء وعليه الإجابة ! فقال : أبعدوا عن الكعبة ، فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه ! ثم أتى الكعبة ، فخر ساجدا ، فسمعته يقول في سجوده : ( سيدي بحبك لي إلا سقيتهم الغيث ) . قال : فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب ! قال الراوي : فقلت : يا أهل مكة ، من هذا الفتى ؟ قالوا : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ( 1 ) . ‹ صفحة 174 › إن ابتعاد أهل البصرة عن أهل البيت عليهم السلام إلى حد الجهل بهم ليس بتلك الغرابة ، لأن انحرافهم عن أهل البيت قد تجذر فيهم منذ حرب الجمل ووقعته الرهيبة ، وقد بقيت آثارها فيهم حتى دهر سحيق ، فلما خرج حفص بن غياث القاضي إلى عبادان - وهو موضع رباط - فاجتمع إليه البصريون فقالوا له : لا تحدثنا عن ثلاثة : أشعث بن عبد الملك ، وعمرو بن عبيد ، وجعفر بن محمد . . . ( 1 ) . فتلك شنشنة أعرفها من أخزم ! لكن كل الغرابة من أهل مكة المجاورين للمدينة ؟ والذين يعرفون الإمام كاملا ، كيف اغتروا بأولئك الزهاد ، القادمين من بعيد ، ولجأوا إليهم يطلبون الغيث منهم ، وهذا الإمام زين العابدين ، وحجة الزاهدين بينهم يتركونه ، بل لا يعرف إلا بالسؤال عنه ! ؟ لم يتصور ظلم على أهل البيت عليهم السلام أكثر من هذا في مركز الدين والإسلام ، مكة ، وعند أشرف البقاع وأعظمها ( الكعبة الشريفة ) ! ! وما الذي جعل أهل مكة يتركون الإمام علي بن الحسين عليه السلام وهم يعرفونه حسبا ونسبا ، فيلجأون إلى أناس جاءوا من البصرة ؟ إنه ليس إلا الانحراف عن أهل البيت عليهم السلام والجهل بحقهم وفضلهم ، إن لم يكن العداء لهم ! ! وهكذا تصدى الإمام لهذا الانحراف وأسقط ما في أيدي أولئك العباد المتظاهرين بالزهد ، الذين لا يعرف واحدهم زين العابدين ، إمام زمانه ، وسيد أهل البيت . فكشف عن زيف دعاواهم ، وسوء نياتهم ، وضلال سبلهم حيث عندوا عن حق أهل البيت ، ولم يعترفوا لهم بالفضل . وللإمام عليه السلام مواقف أخرى مع آحاد من هؤلاء العباد ، مثل موقفه من الحسن البصري ، ومن طاوس ، وغيرهما ( 2 ) . إن الزهد الذي قام الإمام زين العابدين عليه السلام بإحيائه كان مثل زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ‹ صفحة 175 › وعلي والأئمة عليهم السلام ، الذي يطابق ما قرره الإسلام ، وينبذ كل أشكال الانحراف والزيف والتزوير ، والرهبانية المبتدعة . ولقد أثرت عن الإمام زين العابدين عليه السلام نصوص جاء فيها شرح العبادات من وجهات نظر روحية بما عجز عن إدراكه كبار المتصدين لمثل هذه المعارف ، فمن ذلك ما روي عنه في تفسير معاني أفعال الحج ( 1 ) وأقسام الصوم ( 2 ) . أضف إلى أن عمل الإمام كان تعديلا لسلوك الأمة في اغترارها بمناهج أولئك المتظاهرين المزيفين ، المنحرفين عن ولاء أهل البيت عليهم السلام وأئمة الحق والصدق ، الذين مثلهم الإمام زين العابدين عليه السلام يومذاك . إن الإمام عليه السلام حذر الأمة من الاغترار بالذين يتظاهرون بالزهد ، ممن يحب الترؤس على الناس ، يجتمعون حوله ، ويلتذ بالفخفخة والتمجيد ، ولو على حساب المعرفة بالدين والفقه ! ففي الحديث أنه قال عليه السلام : إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه ، وتماوت في منطقه ، وتخاضع في حركاته ، فرويدا لا يغرنكم ! فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها ، لضعف نيته ، ومهانته ، وجبن قلبه ، فنصب الدين فخا لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره ، فإن تمكن من حرام اقتحمه . وإذا وجدتموه ، يعف عن المال الحرام ، فرويدا ، لا يغرنكم ! فإن شهو . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 169 › ( 1 ) مناقب آل أبي طالب ( 3 : 289 ) وبحار الأنوار ( 46 : 79 ) ولاحظ : أمالي الطوسي ( 2 : 250 ) . ( 2 ) شرح الأخبار للقاضي ( 3 : 272 ) والإرشاد للمفيد ( ص 256 ) والمناقب لابن شهرآشوب ( 4 : 149 ) وكشف الغمة ( 2 : 85 ) وبحار الأنوار ( 46 : 75 ) . ( 3 ) الكافي للكليني ، الروضة ( 8 : 163 ) . ‹ هامش ص 170 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 141 ) وهذا من كلام الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام رواه الرضي في نهج البلاغة بالأرقام ( 65 و 237 و 276 ) من الباب الثالث : قصار الحكم . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 134 ) . ‹ هامش ص 171 › ( 1 ) تحف العقول ( ص 278 - 279 ) . ( 2 ) ابن عساكر في تاريخ دمشق ( الحديث 135 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 249 - 254 ) ونقله ابن كثير في تاريخ البداية والنهاية ( 9 : 109 - 113 ) . وانظر عوالم العلوم ( ص 124 ) عن المناقب لابن شهرآشوب ( 3 / 292 ) وبحار الأنوار ( 46 / 83 ) . ( 3 ) وقد نسب كتاب منظوم إلى الإمام السجاد عليه السلام باسم ( المخمسات ) في نسخة محفوظة في خزانة مخطوطات مكتبة آية الله المرعشي قدس سره ذكرها السيد أحمد الحسيني في التراث العربي في تلك الخزانة ( 5 / 28 ) أوله : تبارك ذو العلى والكبرياء * تفرد بالجلال وبالبقاء وسوى الموت بين الخلق طرا * وكلهم رهائن للفناء رقم النسخة ( 5557 ) وتاريخها ( 903 ) . ‹ هامش ص 173 › ( 1 ) الاحتجاج ( 316 - 317 ) وبحار الأنوار ( 46 : 50 - 51 ) . ‹ هامش ص 174 › ( 1 ) تهذيب الكمال للمزي ( 5 / 7 - 78 ) . ( 2 ) لاحظها في حلية الأولياء ، وصفوة الصفوة ، وكشف الغمة . ‹ هامش ص 175 › ( 1 ) مستدرك الوسائل ( 2 : 186 ) أبواب العود إلى منى ، الباب ( 17 ) الحديث ( 5 ) وطبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام ( 10 / 166 ) رقم ( 11770 ) . ويلاحظ أن الراوي عن الإمام مسمى ب ( شبلي ) وليس في الرواة عنه ، ولا من عاصره من هو بهذا الاسم ، ولعله مصحف ( شيبة ) وهو ابن نعامة ، المذكور في أصحابه عليه السلام . ( 2 ) حلية الأولياء ( 3 : 141 ) وفرائد السمطين للحمويني ( 2 : 233 ) وكشف الغمة ( 2 : 103 - 105 ) ولاحظ : المقنعة للشيخ المفيد ( ص 363 ) الباب ( 32 ) ووسائل الشيعة ، كتاب الصوم ، أبواب بقية الصوم الواجب ، الباب ( 10 ) الحديث ( 1 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 175 - 181 ت الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام ، وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما . فإذا وجدتموه يعف عن ذلك ، فرويدا لا يغرنكم ! ‹ صفحة 176 › حتى تنظروا ما عقدة عقله ؟ فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله . فإذا وجدتم عقله متينا ، فرويدا لا يغرنكم ! حتى تنظروا ، أمع هواه يكون على عقله ، أم يكون مع عقله على هواه ؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة ؟ وزهده فيها ؟ فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة ، بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة ، حتى إذا قيل له : ( اتق الله ) أخذته العزة بالإثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد ( 1 ) . فهو يخبط خبط عشواء ، يوفده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمد به - بعد طلبه لما لا يقدر عليه - في طغيانه ، فهو يحل ما حرم الله ، ويحرم ما أحل الله ، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرئاسة التي قد شقي من أجلها . فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا ( 2 ) . ولكن الرجل ، كل الرجل ، نعم الرجل : هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضا الله ، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد ، من العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وأن كثير ما يلحقه من سرائها - إن اتبع هواه - يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول . فذلكم الرجل ، نعم الرجل : فبه فتمسكوا ، وبسنته فاقتدوا ، وإلى ربكم فتوسلوا ، فإنه لا ترد له دعوة ، ولا يخيب له طلبة ( 3 ) . ولحن هذا الكلام ، يعطي أنه خطاب عام وجهه الإمام إلى مستمعيه ، أو من طلب منه الإجابة عن سؤال حول من يجب الالتفاف حوله والأخذ منه ؟ ‹ صفحة 177 › ومهما يكن ، فإن كلام الإمام عليه السلام يبدو واضحا قاطعا للعذر ، وهو غير متهم في موقفه من الزهد والتواضع ، وما إلى ذلك مما يراد استغلاله من قبل المشعوذين ، لإغراء العوام ، وإغواء الجهال . إن فيه تحذيرا من علماء السوء ، المتزيين بزي أهل الصلاح ، والمتظاهرين بالورع والتقى ، ولكنهم يبطنون الخبث والمكر ، والدليل على ذلك ارتباطهم الوثيق بأهل الدنيا والرئاسات الباطلة ، من الحكام والولاة وأصحاب الأموال . وسيأتي الحديث عن موقفه من أعوان الظلمة في الفصل الخامس . 5 - إرعاب الظالمين : إن الواقعية التي التزمها الإمام زين العابدين عليه السلام في حياة الزهد والعبادة ، كما انفتحت له بها قلوب الناس الطيبين ، فكذلك اقتحم بها على الظالمين أبراجهم ، وقصورهم ، فملأ أثوابهم خيفة ورهبة ، كما غشى عيونهم وأفكارهم بما رأوه عليه من المظهر الزاهد ، والاشتغال بالعبادة . ولقد قرأنا في حديث مسلم بن عقبة - سفاح الحرة - لما طلب الإمام ، فأكرمه ، وقد كان مغتاظا عليه ، يبرأ منه ومن آبائه ، فلما رآه - وقد أشرف عليه - أرعب مسلم بن عقبة ، وقام له ، وأقعده إلى جانبه ! فقيل لمسلم : رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه ، فلما أتي به إليك رفعت منزلته ؟ فقال : ما كان ذلك لرأي مني ، لقد ملئ قلبي منه رعبا ( 1 ) . وسنقرأ في حديث عبد الملك بن مروان ، لما جلب الإمام مقيدا مغلولا من المدينة إلى الشام ، فلما دخل عليه الإمام عليه السلام بصورة مفاجئة قال لعبد الملك : ما أنا وأنت ؟ قال عبد الملك : قلت : أقم عندي . فقال الإمام : لا أحب ، ثم خرج . قال عبد الملك : فوالله ، لقد امتلأ ثوبي منه خيفة ( 2 ) . ‹ صفحة 178 › ومهما يكن من تدخل أمر ( الغيب ) في هذه القضايا ، وفرضه لنفسه على البحث ، إلا أن من المعلوم كون تصرف الإمام عليه السلام نفسه ، وحياته العملية وتوجهاته المعنوية ، وتصرفاته المعلنة في الأدعية ، والمواعظ ، والخطب والمواقف ، وما تميزت به من واقعية ، كل هذا - المجهول لأولئك العمي البصائر - قد أصبح أمرا يهز كيانهم ، ويزعزع هدوءهم ، ويملؤهم بالرعب والخيفة . ولقد استغل الإمام ذلك لصالح أهدافه الدينية وأغراضه الاجتماعية . ومع كل هذا التعرض والتحدي ، وكل هذه الأبعاد المدركة والآثار المحسوسة ، مع دقتها وعمقها ، فإن التحفظ على ما في ظواهرها ، وجعلها ( روحية ) فقط وعدم الاعتقاد بكونها نتائج طبيعية من صنع الإمام وإرادته ، يدل على سذاجة في قراءة التاريخ ، وظاهرية في التعامل مع الكلمات والأحداث ، وقصور في النظر والحكم . وكذلك الاستناد إلى كل تلك المظاهر ، ومحاولة إدراج الإمام مع كبار الصوفية ، وجعله واحدا منهم ( 1 ) ، فهو بخلاف الإنصاف والعدل ؟ ! ولماذا يقع اختيار عبد الملك الخليفة على الإمام عليه السلام ، من بين مجموعة الزهاد والعباد ، ليوجه إليه الإهانة ، ويلقي القبض عليه ، ويكبله بالقيود والأغلال ، ويرفعه إلى دمشق ؟ ! دون جميع المتزهدين والعباد الآخرين ؟ ! بينما كل أولئك المتظاهرين بالزهد ، متروكون ، بل محترمون من قبل السلطان ، وأجهزة النظام ؟ ! لو لم يكن في عمل الإمام ما يثير الخليفة إلى ذلك الحد ! ‹ صفحة 179 › ثانيا : التزام البكاء على سيد الشهداء عليه السلام لقد صاحبت هذه الظاهرة الإمام زين العابدين عليه السلام مدة إمامته ونضاله ، بحيث لا يمكن المرور على أي مرفق من مرافق عمره الشريف ، أو أي موقف من مواقفه الكريمة ، إلا بالعبور من مجرى دموعه وفيض عيونه . ولا ريب أن البكاء ، كما أنه لا يتهيأ للإنسان إلا عند التأثر بالأمور الأكثر حساسية ، وإثارة وحرقة ، ليكون سببا للهدوء والترويح عن النفس . فكذلك هو وسيلة لإثارة القضية ، أمام الآخرين ، وتهييج من يرى دموع الباكي تنهمر ، ليتعاطف معه طبيعيا ، وعلى الأقل يخطر على باله التساؤل عن سبب البكاء ؟ وإذا كان الباكي شخصية مرموقة ، وذا خطر اجتماعي كبير ، مثل الإمام زين العابدين عليه السلام ، فإن ظاهرة البكاء منه ، مدعاة للإثارة الأكثر ، وجلب الاهتمام الأكبر ، بلا ريب . والحكام الظالمون ، فهم دائما يهابون الثوار في ظل حياتهم ، فيحاولون إسكاتهم بالقتل والخنق ، مهما أمكن ، ويتصورون ذلك أفضل السبل للتخلص منهم ، أو تطويقهم بالسجن والحبس . وكذلك هم يحاولون بكل جدية ، في إبادة آثار الثورة ومحوها عن الأنظار ، والأفكار حتى لا يبقى منها ولا بصيص جذوة . ولكنهم - رغم كل قدراتهم - لم يتمكنوا من اقتلاع العواطف التي تستنزف الدموع من عيون الباكين على أهليهم وقضيتهم ، فالبكاء من أبسط الحقوق الطبيعية للباكين . والإمام زين العابدين عليه السلام قد استغل هذا الحق الطبيعي في صالح القضية التي من أجلها راح الشهداء صرعى على أرض معركة كربلاء . وإذا أمعنا النظر في تحليل التاريخ وتابعنا مجريات الأحداث ، التي قارنت كربلاء ، وجدنا أن المعركة لم تنته بعد ، وإنما الدماء الحمر ، أصبحت تجري اليوم دموعا حارة بيضا ، تحرق جذور العدوان ، وتجرف معها مخلفات الانحراف وتروي بالتالي أصول الحق والعدالة . ‹ صفحة 180 › وبينما يعد الطغاة ظاهرة البكاء دليلا على العجز والضعف والانكسار والمغلوبية ، فهم يكفون اليد عن الباكي ، لكون بكائه علامة لاندحاره أمام القوة ، وعلامة الاستسلام للواقع ، نجد عامة الناس ، يبدون اهتماما بليغا لهذه الظاهرة ، تستتبع عطفهم ، وتستدر تجاوبهم إلى حد ما ، وأقل ما يبدونه هو نشدانهم عن أسباب البكاء ؟ وتزداد كل هذه الأمور شدة إذا كان الباكي رجلا شريفا معروفا ! وبالأخص إذا كان يفيض الدمعة بغزارة فائقة ، وباستمرار لا ينقطع ! كما كان من الإمام زين العابدين عليه السلام ، حتى عد في البكائين ، وكان خامسهم بعد آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وجدته فاطمة الزهراء ( 1 ) . إن البكاء على شهداء كربلاء ، وثورتها ، لم يكن في وقت من الأوقات أمر حزن ناتج من إحساس بالضعف والانكسار ، ولا عبرة يأس وقنوط ، لأن تلك الأحداث ، بظروفها ومآسيها قد مضت ، وتغيرت ، وذهب أهلوها ، وعرف حقها من باطلها ، وأصبحت للمقتولين كرامة وخلودا ، وللقاتلين لعنة ونقمة ، لكن البكاء عليهم وعلى قضيتهم ، كان أمر عبرة وإثارة واستمداد من مفجرها ، وصانع معجزتها ، وحزنا على عرقلة أهدافها المستلهمة من ثورة الإسلام التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم . والدليل على كل ذلك أن لكل حزن أمدا ، يبدأ من حين المصيبة إلى فترة طالت أو قصرت ، وينتهي ولو بعد جيل من الناس . أما قبل حدوث المصيبة ، فلم يؤثر في المعتاد ، أو المعقول للناس ، أن يبكوا لشئ . لكن قضية الحسين أبي عبد الله عليه السلام ، قد أقيمت الأحزان عليها قبل وقوعها بأكثر من نصف قرن ، واستمر الحزن عليها إلى الأبد ، فهي إلى القيامة باقية . والذين أثاروا هذا الحزن ، قبل كربلاء ، وأقاموا المآتم بعد كربلاء : هم الأئمة من أهل البيت عليهم السلام . فمنذ ولد الحسين عليه السلام أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مآتم على سبطه الوليد ذلك اليوم ، الشهيد بعد غد . ‹ صفحة 181 › فكيف يقيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجلس الحزن على قرة عينه ، يوم ولادته ، أهكذا يستقبل العظماء مواليدهم ؟ أو لا يجب أن يستبشروا بالولادات الجديدة ، ويتهادوا التهاني والأفراح والمسرات ؟ ! وتتكرر المجالس التي يعقدها الرسول العظيم ، ليبكي فيها على وليده ، ويبكي لأجله كل من حوله ، وفيهم فاطمة الزهراء عليها السلام أم الوليد ، وبعض أمهات المؤمنين ، وأشراف الصحابة ( 1 ) . وحقا عد ذلك من دلائل النبوة ومعجزاتها ( 2 ) . وهكذا أقام الإمام علي عليه السلام ، مجلس العزاء على ولده الحسين عليه السلام ، لما مر على أرض كربلاء ، وهو في طريقه إلى صفين ، فوقف بها ، فقيل : هذه كربلاء ، قال : ذات كرب وبلاء ، ثم أومأ بيده إلى مكان ، فقال : هاهنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم ، وأومأ بعده إلى موضع آخر ، فقال : هاهنا مهراق دمائهم ( 3 ) . ونزل إلى شجرة ، فصلى إليها ، فأخذ تربة من الأرض فشمها ، ثم قال : واها لك من تربة ، ليق . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 175 › ( 1 ) مستدرك الوسائل ( 2 : 186 ) أبواب العود إلى منى ، الباب ( 17 ) الحديث ( 5 ) وطبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام ( 10 / 166 ) رقم ( 11770 ) . ويلاحظ أن الراوي عن الإمام مسمى ب ( شبلي ) وليس في الرواة عنه ، ولا من عاصره من هو بهذا الاسم ، ولعله مصحف ( شيبة ) وهو ابن نعامة ، المذكور في أصحابه عليه السلام . ( 2 ) حلية الأولياء ( 3 : 141 ) وفرائد السمطين للحمويني ( 2 : 233 ) وكشف الغمة ( 2 : 103 - 105 ) ولاحظ : المقنعة للشيخ المفيد ( ص 363 ) الباب ( 32 ) ووسائل الشيعة ، كتاب الصوم ، أبواب بقية الصوم الواجب ، الباب ( 10 ) الحديث ( 1 ) . ‹ هامش ص 176 › ( 1 ) اقتباس من القرآن الكريم ، سورة البقرة ( 2 ) الآية : 206 . ( 2 ) اقتباس من القرآن الكريم ، سورة الأحزاب ( 33 ) الآية ( 57 ) . ( 3 ) الاحتجاج ( ص 320 - 321 ) . ‹ هامش ص 177 › ( 1 ) مروج الذهب ( 3 : 80 ) وانظر ما مضى ص ( 71 ) الفصل الأول . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 42 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 4 - 235 ) . ‹ هامش ص 178 › ( 1 ) لاحظ الفكر الشيعي ( ص 31 و 68 ) والصلة بين التصوف والتشيع ( ص 148 ) و ( ص 151 و 157 ) وانظر خاصة ( ص 161 ) . ‹ هامش ص 180 › ( 1 ) الخصال للصدوق ( ص 272 ) وأمالي الصدوق ( المجلس 29 ) ص ( 121 ) ‹ هامش ص 181 › ( 1 ) إقرأ عن المجالس التي أقامها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كتاب : سيرتنا وسنتنا للأميني ، ولاحظ تاريخ دمشق لابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ( ص 165 - 185 ) . ( 2 ) دلائل النبوة للبيهقي ( 6 : 468 ) ومسند أحمد ( 3 : 242 و 265 ) وانظر أمالي الصدوق ( ص 126 ) ودلائل النبوة ، لأبي نعيم ( ص 709 ) رقم ( 492 ) . ( 3 ) وقعة صفين ( ص 141 ) والمصنف لابن أبي شيبة ( 15 : 98 ) رقم ( 191214 ) وكنز العمال ( 7 : 105 و 110 ) وأمالي الصدوق المجلس ( 78 ) ( ص 478 و 479 ) . ( 4 ) تاريخ دمشق لابن عساكر ( ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ) ( ص 235 ) رقم 280 وانظر الأرقام ( 236 - 239 ) . ( 5 ) أمالي الصدوق ( المجلس ( 24 ) ص 101 ) . ( 6 ) فضل زيارة الحسين للعلوي ( ص 41 ) الحديث ( 13 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 181 - 188 لن بك قوم يدخلون الجنة بغير حساب ( 4 ) . ورثاه أخوه الحسن عليه السلام وقال له : لا يوم كيومك يا أبا عبد الله . . . ويبكي عليك كل شئ . . . ( 5 ) . وحتى الحسين عليه السلام نفسه ، نعى نفسه ودعا إلى البكاء على مصيبته ، وحث المؤمنين عليه ، حيث قال : أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى ( 6 ) . وهكذا الأئمة عليهم السلام بعد الحسين ، أكدوا على البكاء على الحسين بشتى الأشكال . ‹ صفحة 182 › لكن الإمام زين العابدين عليه السلام : قد تحمل أكبر الأعباء ، في هذه المحنة ، إذ عايش أسبابها ، وعاصر أحداثها ، بل باشر جراحها وآلامها ، فكان عليه أن يؤدي رسالتها ، لأنه شاهد صدق من أهلها ، بل الوحيد الذي ملك أزمة أسرارها ، ولا بد أن يمثل أفضل الأدوار التي لم يبق لها ممثل غيره ، ولم تبق لها صورة في أي منظار ، غير ما عنده ! وإذا عرفنا بأن الإمام زين العابدين عليه السلام هو أوثق من يروي حديث كربلاء ، فهو أصدق الناقلين له ، وخير المعبرين عنه بصدق . وأما أهداف شهداء كربلاء التي من أجلها صنعت ، فلا بد لها أن تستمر ، ولا تنقطع عن الحيوية ، في ضمير الناس ووجدانهم ، حتى تستنفد أغراضها . وبينما الحكام التائهون لا يعبأون ببكاء الناس ، فإن الإمام زين العابدين عليه السلام اتخذ من البكاء عادة ، بل اعتمدها عبادة ، فقد كانت - وفي تلك الفترة بالذات - وسيلة هامة لأداء المهمة الإلهية التي حمل الإمام عليه السلام أعباءها . والناس ، لما رأوا الإمام زين العابدين عليه السلام يذرف الدموع ليل نهار ، لا يفتأ يذكر الحسين الشهيد ومصائبه ، فهم : بين من يدرك : لماذا ذلك البكاء والحزن ، والدمع الذارف المنهمر ، والحزن الدائب المستمر ؟ وعلى من يبكي الإمام عليه السلام ؟ فكان ذلك سببا لاستمرار الذكرى في الأذهان ، وحياتها على الخواطر ، وبقاء الأهداف حية نابضة ، في الضمائر ووجدان التاريخ ، وتكدس النقمة والنفرة من القتلة الظلمة . وبين من يعرف الإمام زين العابدين بأنه الرجل الفقيه ، الزاهد في الدنيا ، الصبور على مكارهها ، فإنه لم يبك بهذا الشكل ، من أجل أذى يلحقه ، أو قتل أحد ، أو موت آخر ، فإن هذه الأمور هي مما تعود عليها البشر - على طول تاريخ البشرية - بل هي سنة الحياة . كما قال القائل : له ملك ينادي كل يوم * لدوا للموت وابنوا للخراب ‹ صفحة 183 › وخصوصا النبلاء والنابهين ، والأبطال الذين يقتحمون الأهوال ويستصغرونها من أجل أهداف عظام ومقاصد عالية رفيعة . فبكاء مثله ، ليس إلا لأجل قضية أكبر وأعظم ، خاصة البكاء بهذا الشكل الذي لا مثيل له في عصره ( 1 ) . لقد ركز الإمام زين العابدين |
عليه السلام على قدسية بكائه لما سئل عن سببه ؟ فقال : لا تلوموني . فإن يعقوب عليه السلام فقد سبطا من ولده ، فبكى ، حتى ابيضت عيناه من الحزن ، ولم يعلم أنه مات . . وقد نظرت إلى أربعة عشر ( 2 ) رجلا من أهل بيتي يذبحون في غداة واحدة ! فترون حزنهم يذهب من قلبي أبدا ؟ ! ( 3 ) . إنه عليه السلام في الحين الذي يربط عمله بما في القرآن من قصة يعقوب وبكائه ، وهو نبي متصل بالوحي والغيب ، إذ لا ينبع فعله عن العواطف الخالية من أهداف الرسالات الإلهية . وفي الحين الذي يمثل لفاجعة الطف في أشجى مناظرها الدامية ، وبأقصر عبارة وافية . فهو يؤكد على تبرير بكائه ، بحيث يعذره كل سامع . وفي حديث آخر : جعل الإمام عليه السلام من قضية كربلاء مدعاة لكل الناس إلى إحيائها ، وتزويدها بوقود الدموع ، وإروائها بمياه العيون ، ولا يعتبرونها قضية خاصة بعائلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسب ، بل هي مصاب كل الناس ، وكل الرجالات الذين لهم ‹ صفحة 184 › كرامة في الحياة ، أو يحسون بشئ اسمه الكرامة ، أو شخص يحس بالعاطفة ، فهو يقول : وهذه الرزية التي لا مثلها رزية . أيها الناس ، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله ؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله ؟ أم أي عين منكم تحبس دمعها ؟ ( 1 ) . وكان عليه السلام يحث المؤمنين على البكاء ويقول : أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه السلام حتى تسيل على خده ، بوأه الله تعالى بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا . وأيما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خديه مما مسنا من الأذى من عدونا في الدنيا ، بوأه الله منزل صدق ( 2 ) . وكان البكاء واحدا من الأساليب التي جعلها وسيلة لإحياء ذكرى كربلاء ، وقد استعمل أساليب أخرى . منها : زيارة الحسين عليه السلام : قال أبو حمزة الثمالي : سألت علي بن الحسين ، عن زيارة الحسين عليه السلام ؟ فقال : زره كل يوم ، فإن لم تقدر فكل جمعة ، فإن لم تقدر فكل شهر ، فمن لم يزره فقد استخف بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( 3 ) . ومنها : الاحتفاظ بتراب قبر الحسين عليه السلام : فكانت له خريطة ديباج صفراء ، فيها تربة قبر أبي عبد الله عليه السلام ، فإذا حضرت الصلاة سجد عليها ( 4 ) . ‹ صفحة 185 › ومنها : خاتم الحسين عليه السلام : فقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يتختم بخاتم أبيه الحسين عليه السلام ( 1 ) . كما كان ينقش على خاتمه : ( خزي وشقي قاتل الحسين بن علي عليه السلام ) ( 2 ) . ومن المؤكد أن الإمام عليه السلام لم يتبع هذه الأساليب لمجرد الانعطاف مع العواطف والسير وراءها ، ولا لضعف في نفسه ، أو لاستيلاء هول الفجيعة على روحه ، ولم يتخذ مواقفه من بني أمية نتيجة للحقد أو الانتقام الشخصي ، ممن له يد في مذبحة كربلاء . وإنما كان عليه السلام يلتزم بتلك الخطط ويتبع تلك الأساليب لإحياء الفكرة التي من أجلها قتل الحسين عليه السلام واستشهد هو وأصحابه على أرض كربلاء فضرجوا تربتها بدمائهم الزكية . ولقد أثبت ذلك بصراحة في حياته العملية : فقد كانت له علاقات طبيعية مع عوائل بعض الأمويين مثل مروان بن الحكم ، الذي التجأ بأهله وزوجته وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان إلى بيت الإمام زين العابدين عليه السلام ، فأصبحوا تحت حمايته ، مع أربعمائة عائلة من بني عبد مناف ، مدة وجود الجيش الأموي في المدينة ، فأمنوا من استباحتهم لها وهتكهم الأعراض فيها ، في واقعة الحرة الرهيبة ( 3 ) . وبالإضافة إلى أن الأئمة عليهم السلام بعيدون عن روح الانتقام الشخصي وإنما يغضبون لله لا لأنفسهم ، فإنهم يشملون باللطف والرحمة النساء والأطفال في مثل تلك الظروف ، وبذلك يكسبون ود الجميع حتى الأعداء ، ويثبتون جدارتهم ، ولياقتهم ‹ صفحة 186 › لمنصب الإمامة والزعامة . فكسب الإمام زين العابدين عليه السلام بمواقفه اعتقاد الجهاز الحاكم فيه أنه ( خير لا شر فيه ) ( 1 ) وأنه ( مشغول بنفسه ) ( 2 ) . ذلك الاعتقاد الذي أفاد الإمام عليه السلام نوعا من الحرية في العمل في مستقبل تخطيطه ضد الحكم الأموي الغاشم ، وعزز موقعه الاجتماعي حتى تمكن من اتخاذ المواقف الحاسمة من الظالمين وأعوانهم . كما رسمت في سيرته الشريفة صور من صبره على المصائب والبلايا ، مما يدل على صلابته تجاه حوادث الدنيا ومكارهها ، وهي أمثلة رائعة للمقاومة والجلد . فعن إبراهيم بن سعد ، قال : سمع علي بن الحسين واعية في بيته ، وعنده جماعة ، فنهض إلى منزله ، ثم رجع إلى مجلسه ، فقيل له : أمن حدث كانت الواعية ؟ قال : نعم . فعزوه ، وتعجبوا من صبره . فقال : إنا أهل بيت نطيع الله في ما نحب ، ونحمده في ما نكره ( 3 ) . ونتمكن من استخلاص الهدف الأساسي من كل هذه الإثارات لقضية كربلاء وشهدائها خصوصا ذكر أبيه الإمام الشهيد عليه السلام من خلال الحديث التالي : قال عليه السلام لشيعته : عليكم بأداء الأمانة ، فوالذي بعث محمدا بالحق نبيا ، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به ، لأديته إليه ( 4 ) . ففي الوقت الذي يشير فيه إلى مأساة قتل الحسين عليه السلام ، ويذكر بقتله ، ليحيي معالمها في الأذهان ، فهو يؤكد بأغلظ الأيمان على أن أمرا ( مثل أداء الأمانة ) يوجبه الإسلام ، هو فوق العواطف والأحاسيس الشخصية . وهو يوحي بأن الإمام الحسين عليه السلام إنما قتل من أجل تطبيق كل المبادئ التي ‹ صفحة 187 › جاء بها الإسلام ، والتي بعث بها جده النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الإمام زين العابدين يريد الاستمرار على تلك المبادئ والخطط التي أنار الحسين الشهيد عليه السلام معالمها بوقود من دمه الطاهر . وهو في الوقت ذاته ، يرفع من قيمة البكاء أن يكون من أجل أمور مادية ولو كانت الدنيا كلها : ففي الخبر أنه عليه السلام نظر إلى سائل يبكي ! فقال عليه السلام : لو أن الدنيا كانت في كف هذا ثم سقطت منه ما كان ينبغي له أن يبكي ( 1 ) . ‹ صفحة 188 › ثالثا : التزام الدعاء ومن أبرز المظاهر الفذة في سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام الأدعية المأثورة عنه ، فقد تميز ما نقل عنه بالكثرة ، والنفس الطويل ، والشهرة التداول ، لما تحتويه من أساليب جذابة ومستهوية للقلوب ، تتجاوب معها الأرواح والنفوس ، وما تضمنته من معان راقية تتفاعل مع العقول والأفكار . وقد كان للأدعية التي أصدرها أبعاد فكرية واسعة المدى ، بالنصوص الحاسمة لقضايا عقائدية إسلامية ، كانت بحاجة إلى البت فيها بنص قاطع ، بعد أن عصفت بالعقيدة ، تيارات الإلحاد ، كالتشبيه والجبر والإرجاء ، وغيرها مما كان الأمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها ، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل ، تمهيدا للردة عن الإسلام ، والرجوع إلى الجاهلية الأولى . وفي حالة القمع والإبادة ، ومطاردة كل المناضلين الأحرار ، وتتبع آثارهم وخنق أصواتهم ، كان قرار الإمام زين العابدين عليه السلام باتباع سياسة الدعاء ، أنجح وسيلة لبث الحقائق وتخليدها ، وأءمن طريقة ، وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة ، وأقوى أداة اتصال سرية مكتومة ، هادئة ، موثوقة . كما كانت لنصوص الأدعية أصداء قوية في ميادين الأدب ، الذي له وقع كبير في نفوس الشعوب ، وخاصة الشعب العربي ، وله تركيز كثير في قرارات أذهان الناس وذاكرتهم . ولقد استخ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 181 › ( 1 ) إقرأ عن المجالس التي أقامها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كتاب : سيرتنا وسنتنا للأميني ، ولاحظ تاريخ دمشق لابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ( ص 165 - 185 ) . ( 2 ) دلائل النبوة للبيهقي ( 6 : 468 ) ومسند أحمد ( 3 : 242 و 265 ) وانظر أمالي الصدوق ( ص 126 ) ودلائل النبوة ، لأبي نعيم ( ص 709 ) رقم ( 492 ) . ( 3 ) وقعة صفين ( ص 141 ) والمصنف لابن أبي شيبة ( 15 : 98 ) رقم ( 191214 ) وكنز العمال ( 7 : 105 و 110 ) وأمالي الصدوق المجلس ( 78 ) ( ص 478 و 479 ) . ( 4 ) تاريخ دمشق لابن عساكر ( ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ) ( ص 235 ) رقم 280 وانظر الأرقام ( 236 - 239 ) . ( 5 ) أمالي الصدوق ( المجلس ( 24 ) ص 101 ) . ( 6 ) فضل زيارة الحسين للعلوي ( ص 41 ) الحديث ( 13 ) . ‹ هامش ص 183 › ( 1 ) أمالي الصدوق ( ص 121 ) ولاحظ بحار الأنوار ( 46 : 108 ) الباب ( 6 ) الحديث ( 1 ) . ( 2 ) يلاحظ أن المعروف في عدد المقتولين من أولاد علي وفاطمة عليهما السلام في كربلاء هم ( ستة عشر ) رجلا ، - الوسائل - المزار - الباب ( 65 ) تسلسل ( 19694 ) عن عيون أخبار الرضا عليه السلام ( 1 : 299 ) ولاحظ نزهة الناظر ( ص 45 ) . ( 3 ) كامل الزيارات ( ص 107 ) أمالي الصدوق ( المجلس 9 و 91 ) تيسير المطالب لأبي طالب ( ص 118 ) وتاريخ دمشق الحديث ( 78 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 239 ) وحلية الأولياء ( 3 : 138 ) . ‹ هامش ص 184 › ( 1 ) كامل الزيارات ( ص 100 ) مقتل الحسين عليه السلام للأمين ( ص 213 ) ولاحظ كتابنا هذا ( ص 66 ) . ( 2 ) ثواب الأعمال ( ص 83 ) . ( 3 ) فضل زيارة الحسين عليه السلام للعلوي ( ص 43 ) ح 17 . ( 4 ) بحار الأنوار ( 46 : 79 ) باب 5 ، الحديث 75 وعوالم العلوم ( ص 129 ) وباختصار في مناقب ابن شهرآشوب ( 4 / 162 ) عن مصباح المتهجد للشيخ الطوسي . ‹ هامش ص 185 › ( 1 ) نقش الخواتيم ، للسيد جعفر مرتضى ( ص 11 ) . ( 2 ) نقش الخواتيم ، للسيد جعفر مرتضى ( ص 25 ) الكافي ( 6 : 473 ) ومسند الرضا عليه السلام ( 2 : 365 ) وبحار الأنوار ( 46 : 5 ) . ( 3 ) أنساب الأشراف ( 4 : 323 ) تاريخ الطبري ( 5 : 493 ) ومروج الذهب ( 2 : 14 ) وكشف الغمة ( 2 : 107 : ) . ‹ هامش ص 186 › ( 1 ) قاله مسرف بن عقبة لما استباح المدينة ، انظر في ما مضى من كتابنا هذا ( ص 71 ) . ( 2 ) قاله الزهري لعبد الملك ، انظر ( ص 212 ) في ما يأتي . ( 3 ) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 1 : 240 ) . ( 4 ) أمالي الصدوق ( ص 128 ) المجلس ( 43 ) . ‹ هامش ص 187 › ( 1 ) كشف الغمة ( 2 : 106 ) عن كتاب نثر الدرر للآبي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 188 - 194 خدم الأئمة عليهم السلام تأثير الأدب في الناس ، فكانوا يهتمون بذلك ، سواء في تطعيم ما يصدرونه ، بألوان زاهية من الأدب العربي الراقي ، نثرا وشعرا ، كما كانوا يبعثون الشعراء على نظم القضايا الفكرية ، والحقة ، في أشعارهم ، ويروجونها بين الناس . ولقد استثار الأئمة عليهم السلام - على طول خط الإمامة - شعراء فطاحل من المتشيعين ، للنظم في قضايا عقيدية تؤدي إلى تثبيت الحق والدعوة إلى الإسلام من خلال مذهب أهل البيت عليهم السلام ، حتى اشتهر عنهم الحديث ( من قال فينا بيتا من ‹ صفحة 189 › الشعر ، بنى الله له بيتا في الجنة ) . ولقد كان لهذا التوجيه أثر آخر ، وهو انتشال الأدب - وخاصة الشعر - من مهاوي الرذيلة والمجون والاستهتار الذي سقط فيه والأدباء وخاصة الشعراء في تلك العصور المظلمة ، التي كادت تؤدي إلى ضياع جهود جبارة من ذوق الشعراء وفنهم في متاهات الأغراض الفاسدة ، وكذلك جهود الأمة في سماع ذلك الأدب الماجن ، ونقله وضبطه وتداوله ! وقد أثرت جهود الأئمة عليهم السلام بتعديل ذلك المجرى ، للسير في السبل الآمنة ، والأغراض الشرعية ، والتزام الأدب الهادف المؤدي إلى رفع المستوى الخلقي والفكري والثقافي . ولقد أثرى الإمام زين العابدين عليه السلام الأدب العربي : بمادة غزيرة من النصوص الموثوقة ، بشكل الأدعية التي تعد من أروع أمثلة الأدب العربي في النثر ( 1 ) . وامتازت بين مجموع ما روي عن الإمام زين العابدين من الأدعية ، تلك التي ضمنها ( الصحيفة السجادية ) التي تتلألأ بين أدعيته ، لأنها من تأليف الإمام نفسه ، وإملائه ، فلذلك فتح العلماء لها مجالا خاصا في التراث الإسلامي ، وأغدق عليها المبدعون بأجمل ما عندهم من مهارات في الخط والزخرفة ، وأولاها الداعون عناية فائقة في الالتزام والأداء ، والعلماء في الشرح والرواية ، فلنتحدث عنها في الصفحات الأخيرة من هذا الفصل . ‹ صفحة 190 › وأخيرا : مع الصحيفة السجادية هدفا ومضمونا أولا : مع الصحيفة هدفا إن التشيع ، وفي عصر الإمام زين العابدين عليه السلام خاصة - كان يواجه صعوبات بالغة الشدة ، حيث كان الظلم مستوليا على كل المرافق والمقدرات ، ولم يكن بالإمكان القيام بأية مقاومة إيجابية ، أو محاولة . فآخر ثورة تلك التي أعلنها الإمام الحسين عليه السلام في صد التعدي الغاشم ، كان قد قضي عليها ، وعلى جميع عناصرها بشكل دموي ، وبقي منهم ( غلام ) فقط ، وهو ( الإمام زين العابدين عليه السلام ) . وكانت الأوضاع الاجتماعية تسير باتجاه خطر ، خطورة الإجهاز على أساس النهضة ، وإخماد روح الوثبة الإسلامية ، بل القضاء على كل تفكير من هذا القبيل ، وتناسيه إلى الأبد . وأبرز نموذج لهذه المشكلة ، أن الإمامة - وهي الجهاز الوحيد الباقي من كل مرافق الحكومة الإسلامية العادلة - أصبحت على شرف التناسي عن الأذهان ، لأن نظام الحكم الأموي استولى على كل أجهزة الإعلام من المنبر ، والمحراب ، والمسجد ، واشترى ذمم كل ذوي النفوذ في الرأي العام من قاض وحاكم ووال ، وأصبحت كل الإمكانات في قبضة ( الخلافة ! ) وفي خدمة ( الخليفة ) ! أما الإمام زين العابدين ، فقد بقي وحيدا في مواجهة المشكلات ، مع أن الإرهاب والذعر كان يتحكم في الرقاب ، ويستولي على النفوس . في مثل هذه الظروف أصبح ( الدعاء ) ملجأ للإمام وللإمامة ، لا ، بل موقعا اتخذه الإمام زين العابدين عليه السلام للصمود والهجوم : صمود ماذا ؟ - صمود ذلك الفكر ، وذلك الهتاف ، وذلك الإيمان ، الذي جندت الدولة الأموية كل الإمكانات في العالم الإسلامي ضده . والهجوم على من ؟ ‹ صفحة 191 › - للهجوم على سلطة تمكنت من كل قواعد القدرة ، وسلبت من الأمة كل إمكانات المقاومة ! فكان الدعاء هو سلاح النضال . ومعنى ذلك : أنه إذا طوقت مقاومة ، أو فكرة ، أو نضال ، وأدت بها الظروف إلى مثل ما حصل في ( كربلاء ) إذ تعرض كل رجالها للإبادة الدامية ، ولم يبق سوى رجل ( واحد ) ووقع كل النساء والصغار في الأسر ، وتحت القيود ، وإذا لم تبق أية إمكانية للعمل المسلح ، والدفاع عن الحق بالقوة ، فإن هذا الرجل الوحيد لا تسقط عنه المسؤولية . إنه مسؤول أن يدرب الأمة على القناعة بأن على عاتقه إحياء الفكرة ، وتحريك الأحاسيس ، والدفاع عن ذلك الحق ، ولو بلسان الدعاء ، وجعل الرسالة مستمرة ولو بالأمل والرجاء ، ونقلها كذلك إلى الأجيال . إن الإمام زين العابدين عليه السلام : وإن كان قد فقد إمكانات التضحية والنضال المستميت إلى حد الشهادة ، كما فعل أبوه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء . وفقد إمكانات العمل الاجتماعي الحر ، كما قام به ابنه الإمام الباقر وحفيده الإمام الصادق عليهما السلام . لكنه لم يفقد فرصة المقاومة من طريق هذه الحربة النافذة في أعماق أشلاء النظام الحاكم ، والقابلة للتغلغل في أوساط المجتمع الفاسد ، والسارية مع كل نسيم ، والممكنة في كل الظروف ، والتي اسمها ( الدعاء ) . وإن قيل : إن هذا هو من أضعف فروض النضال والجهاد ؟ قلنا : نعم ، لكن الدعاء أمر ضروري حتى لو كان الإنسان في غير هذه الحال ، فلو كان بإمكانه النضال والمقاومة ، بأشكال أخر ، أقوى وأقدر ، فإن من المستحيل استغناؤه عن الدعاء ، وليس بالإمكان أن يمنع من هذا النضال ، ولو كان أضعف ، فلا بد له أن يكون قادرا على عملية الدعاء ، وأن يضمر في نفسه الارتباط بربه ، وأن يعلن عن أفكاره وعقائده بأسلوب المناجاة والدعاء ، ويعبر عن آماله وآلامه ، ومكنون نفسه ، وأن يبرز هتافاته ، وأن يطالب برعباته المهضومة ، والمغصوبة ‹ صفحة 192 › على أن من الضروري لكل مناضل أن يركز معتقداته ، ويحدد مواقعه الفكرية ويحصن أصول دينه ، حتى يكون على بصيرة من أمره ، فيوحي إلى ذاته بالحق ، ويوصي نفسه بالصبر عليه ، بالدعاء . وليس في المقدور لأية سلطة حاكمة أن تسلبه هذه القدرة ، أو أن تحاسبه على هذه الإرادة . وفي مثل هذا التركيز والتحديد يكمن سر خلود الإنسان ، عندما يكون مهددا بالإبادة . والنطق بالدعاء . وسيلة للإعلان عن المعتقدات وتبليغ الرسالات وتنمية الشعور بالمسؤليات ، في أحلك الظروف وأحرجها ، وبث روح النضال والمقاومة ، وتوثيق الرابطة الفكرية ، وتأكيد التعهدات الاجتماعية ، وتثبيت العواطف الصالحة ، حبا بالتولي والإعلان عنه ، وبغضا بالتبري وإبدائه ، وتعميق الوعي العقائدي بين الأمة ، وتهيئة الأجواء - روحيا وفكريا وجسميا - للإعداد للمسؤوليات الكبرى ، كل ذلك في ظروف جندت فيه القوى المضادة ، للقضاء على الأهداف كلها . إن الإمام في مثل ذلك عليه أن يخطط للعمل ، عندما لا يستطيع المؤمن من القيام بأي عمل ، حتى الموت الشريف ، بعزة وكرامة ، حيث لا طريق إلى اختيار الشهادة كسلاح أخير ، لأن الشهادة - أيضا - تحتاج إلى أرضية وظروف مؤاتية ، ومعركة ، كي يتسنى للشهيد أن يفجر بدمه الوضع ، ويكسر الصمت ، وإلا فهو الموت الصامت غير المؤثر ، المهمل الذي لا يستفيد منه إلا العدو . والإمام زين العابدين عليه السلام أصبح قدوة للنضال في مثل هذه الظروف بكل سيرته ، ووجوده ، ومصيره ، وسكوته ، ونطقه ، وخلقه ، ورسم بذلك منهاجا للعمل في مثل هذه الأزمات . إنه رسم الإجابة عن كل الأسئلة التي تطرح : عن العمل ضد إمبراطورية ضارية ، مستحوذة على كل المرافق والقدرات ؟ ! وعن الصمت الثقيل القاتل ، المطبق ، الذي يستحيل فيه التفوه بكلمة الحق ، كيف يمكن أن يكسر ؟ وعن أسلوب شخصي لعرض جميع الطلبات والقيم والعواطف ؟ ‹ صفحة 193 › إن الصحيفة السجادية هي : كتاب الجهاد عند الوحدة ! وكتاب التعبير عند الصمت ! وكتاب التعبئة عند النكسة ! وكتاب الهتاف عند الوجوم ! وكتاب التعليم بالشفاه المختومة ! وكتاب التسلح عند نزع كل سلاح ! وهو قبل هذا وبعده ، كتاب ( الدعاء ) . إن الدعاء - كما يقول الدكتور الفرنسي الكسيس كارل - : ( تجل للعشق والفاقة ) وقد أضاف الإسلام إلى هذين : ( التوعية ) . وفي مدرسة الإمام زين العابدين عليه السلام يأخذ الدعاء بعدا رائعا هو تأثيره الاجتماعي الخاص . وبكلمة جامعة : إن الدعاء في مدرسة الإمام زين العابدين - في الوقت الذي يعد كنزا لأعمق التوجهات ، وأحر الأشواق ، وأرفع الطلبات - منهاج يتعلم فيه المؤمن تخطيطا متكاملا للوجود والتفكير والعمل ، على منهج الإمامة وبقيادة حكيمة تستلهم التعاليم من مصادر الوحي . ثانيا : مع الصحيفة السجادية مضمونا : إن الحديث عن هذا الكتاب العظيم وأثره العلمي والديني عقيديا وحضاريا وأثره الاجتماعي يحتاج إلى تفرغ وتخصص ، وإلى وقت ومجال أوسع من هذا الفصل ، ولا ريب أن النظر فيه سيوقف القارئ على مقاطع رائعة تدل على مفردات ما نقول بوضوح وصراحة . وإذا أخذ الإنسان بنظر الاعتبار ظروف الإمام زين العابدين عليه السلام وموقعه الاجتماعي وقرأ عن طغيان الحكام وعبثهم ، وقارن بين مدلول الصحيفة ومؤشرات التصرفات التي قام بها أولئك الحكام ، اتضح له أن الإمام قد قام من خلالها بتحد صارخ للدولة ومخططاتها التي استهدفت كيان المجتمع الإسلامي لتزعزعه . ‹ صفحة 194 › وإذ لا يسعنا الدخول في غمار هذا البحر الزخار لاقتناص درره فإنا نقتصر على إيراد مقطعين من أدعية الصحيفة ، يمثلان صورة عما جاء فيها ، مما تبرز فيه معالم التصدي السياسي الذي التزمه الإمام عليه السلام بمنطق الدعاء . المقطع الأول : دعاؤه لأهل الثغور : إن الإمام ، لكونه الراعي الإلهي ، المسؤول عن رعيته وهي الأمة ، يكون الحفاظ على وجود الإسلام ، من أهم واجباته التي يلتزمها ، فلا بد من رعاية شعائره ، واستمرار مظاهره ، ومتابعة مصالحه العامة ، وتقديمها على غيرها من المصالح الخاصة بالأفراد ، أو الأعمال الجزئية الفرعية ، فالحفاظ على سمعة الإسلام وحدوده ، أهم من الالتزام بفروع الدين وواجباته ومحرماته ، إذا دار الأمر بينه وبينها . ففي سبيل ذلك الهدف العام السامي ، لا بد من تجاوز الاهتمامات الصغيرة ، والمحدو . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 189 › ( 1 ) لاحظ مقال : من أدب الدعاء في الإسلام ، مجلة تراثنا ، العدد ( 14 ) السنة الرابعة ( 1409 ) ( ص 30 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 194 - 199 ة ، بالرغم من كونها في أنفسها ضرورات ، لا بد من القيام بها في الظروف العادية ، لكنها لا تعرقل طريق الأهداف العامة الكبرى . فالاسلام : كدين ، ليس قائما بالأشخاص ، ولا يتأثر بتصرفاتهم الخاصة ، في مقابل ما يهدده من الأخطار الكبيرة ، فكرية أو اجتماعية أو عسكرية ، فإذا واجه الإسلام خطر يهدد التوحيد الممثل بكلمة ( لا إله إلا الله ) أو الرسالة المتجلية في ( محمد رسول الله ) فإن الإمام يتجاوز كل الاعتبارات ويهب للدفاع عن هذين الركنين الأهم ، وحتى لو كان على حساب وجود الإمام نفسه ، أو عنوان إمامته ، فضلا عن مصالحه الخاصة ، وشؤونه وصلاحياته . ومن هذا المنطلق ، يمكن تحديد المواقف الهامة للأئمة من أهل البيت عليهم السلام : فسكوت الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام عن مطالبته بحقه ، ولجوء الإمام الحسن المجتبى عليه السلام إلى توقيع كتاب الصلح مع معاوية ، وتضحية الإمام الحسين الشهيد عليه السلام بنفسه في كربلاء . كل ذلك نحدده على أساس متحد ، وهو رعاية المصلحة الإسلامية العامة ، والحفاظ على كيان الإسلام لئلا يمسه سوء . وبهذا - أيضا - نميز وقوف الإمام زين العابدين عليه السلام للدعاء لأهل الثغور . ومن هم أهل الثغور في عصره ؟ ‹ صفحة 195 › ليس للدعاء تاريخ محدد ، حتى نعرف الفترة التي أنشئ فيها الدعاء بعينها ، إلا أنها لا تخرج من مجمل الفترة التي عايشها الإمام زين العابدين عليه السلام من سنة ( 61 ) إلى سنة ( 94 ) ولم تخرج عن حكم واحد من الخلفاء الأمويين . وحتى لو فرضنا إنشاءه في فترة حكم ( معاوية بن يزيد بن معاوية ) الذي عرف بولائه لأهل البيت عليهم السلام ، على قصرها ، فلا ريب أن نظام الحكم وأجهزة الدولة كافة ، وعناصر الإدارة ورموز السلطة لم تتغير ، وخاصة أهل الثغور الذين هم حرس الحدود ، لم يطرأ عليهم التغيير المبدئي ، في تلك الفترة القصيرة بتبدل الخليفة . ومن المعلوم : أن الذين يتجهون إلى حدود الدولة الإسلامية ، وهي أبعد النقاط عن أماكن الرفاه والراحة ، ليسوا إلا من سواد الناس ، ويمكن أن يكون اختيارهم لتلك الجهات البعيدة دليلا على ابتعادهم عن التورطات التي انغمس فيها أهل المدن في داخل البلاد . ومع ذلك ، يبقى التساؤل : عن دعاء الإمام عليه السلام بتلك القوة ، وذلك الشمول ، وبهذه اللهجة ، وهذا الحنان ، لحرس الحدود ، وهم جزء من جيش الحكومة الفاسدة ، ووحدة من وحدات كيان الدولة الظالمة ؟ إن الحقيقة التي عرضناها سابقا ، هي الجواب عن هذا التساؤل ، لأن مصلحة الإسلام ، ككل ، مقدمة على كل ما سواه من أمور الإسلام سواء فروع الدين ، أو عناوين الأشخاص ، أو مصالح الآخرين حتى الجماعات المعينة . ثم إن هذا الدعاء بنفسه دليل مقنع على أن الإمام زين العابدين عليه السلام لم يكن - كما شاء أن يصوره الكتاب الجدد - متخليا عن مركزه القيادي والسياسي ، كإمام يرعى مصلحة الإسلام ، والأمة الإسلامية . فمن خلال أوسع جبهاتها ، وهي الحدود الإسلامية ، المهددة دائما ، بلا شك ، من قبل الدول المجاورة الحاقدة على الإسلام الذي قهرها ، واستولى على مساحات من أراضيها ، فرض الإمام عليه السلام رعايته واهتمامه ، وبشكل الدعاء الذي لا يثير الحكام . وحرس الحدود أنفسهم ، مهما كانت هوياتهم ، لا يعدون أنصارا للحكومة ، بقدر ما هم محافظون على الأرض الإسلامية ، وكرامة الإسلام ، فإنهم مدافعون عن ثغوره ، ومراقبون لحماية خطوط المواجهة الإمامية : وهو أمر واجب على كل مسلم أن يبذل ‹ صفحة 196 › جهدا في إسناده ودعمه وتسديد القائمين به ، بكل شكل ممكن . وهذا هو الذي استهدفه الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه لأهل الثغور ، فهو ينبه الناس إلى خطورة هذا الواجب ويهيج الأحاسيس تجاه الثغور وحمايتها . ومهما كان الحكام في الداخل ، يعيثون فسادا ، فإنهم لا محالة زائلون ، ومهما جدوا في التقتيل والظلم والإجرام ، والتخريب فإنهم لن يتمكنوا من القضاء على كل معالم هذا الدين ، الذي يعد المسلمون الحفاظ عليه من واجباتهم . والإمام عليه السلام وإن كان معارضا للنظام الأموي ، ويجد في فضحه وتزييف عمله والكشف عن سوء إدارته ، ويحكم على القائمين به بالخروج عن الحق والعدل ، وهو لا يزال ينظر إلى مصارع شهداء كربلاء بعيون تملؤها العبرة ، لكنه يدعو بصوت تخنقه العبرة كذلك لأهل الثغور الإسلامية ، وباللهجة القوية القاطعة لكل عذر . وبالنبرة الحادة ذاتها التي يدعو بها لزوال حكم الظالمين ، يدعو لاستتباب الأمن والعدل والصلاح على أرض الإسلام . فلنقرأ معا هذا الدعاء العظيم : اللهم : صل على محمد وآله ، وحصن ثغور المسلمين بعزتك ، وأيد حماتها بقوتك ، وأسبغ عطاياهم من جدتك . اللهم : صل على محمد وآله ، وكثر عدتهم ، واشحذ أسلحتهم ، واحرس حوزتهم ، وامنع حومتهم ، وألف جمعهم ، ودبر أمرهم ، وواتر بين ميرهم ، وتوحد بكفاية مؤنهم ، واعضدهم بالنصر ، وأعنهم بالصبر ، والطف لهم في المكر . اللهم : صل على محمد وآله ، وعرفهم ما يجهلون ، وعلمهم ما لا يعلمون ، وبصرهم ما لا يبصرون . اللهم : صل على محمد وآله ، وأنسهم عند لقائهم العدو ذكر دنياهم الخداعة الغرور ، وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون ، واجعل الجنة نصب أعينهم ، ولوح منها لأبصارهم ما أعددت ‹ صفحة 197 › فيها من مساكن الخلد ، ومنازل الكرامة ، والحور الحسان ، والأنهار المطردة بأنواع الأشربة ، والأشجار المتدلية بصنوف الثمر ، حتى لا يهم أحد منهم بالإدبار ، ولا يحدث نفسه عن قرنه بفرار . اللهم : افلل بذلك عدوهم ، وأقلم عنهم أظفارهم ، وفرق بينهم وبين أسلحتهم ، واخلع وثائق أفئدتهم ، وباعد بينهم وبين أزودتهم ، وحيرهم في سبلهم ، وضللهم عن وجههم ، واقطع عنهم المدد ، وانقص منهم العدد ، واملأ أفئدتهم الرعب ، واقبض أيديهم عن البسط ، واخزم ألسنتهم عن النطق ، وشرد بهم من خلفهم ، ونكل بهم من ورائهم ، واقطع بخزيهم أطماع من بعدهم . اللهم : عقم أرحام نسائهم ، ويبس أصلاب رجالهم ، واقطع نسل دوابهم وأنعامهم ، لا تأذن لسمائهم في قطر ، ولا لأرضهم في نبات . اللهم : وفق بذلك محال أهل الإسلام ، وحصن به ديارهم ، وثمر به أموالهم ، وفرغهم عن محاربتهم لعبادتك ، وعن منابذتهم للخلوة بك ، حتى لا يعبد في بقاع الأرض غيرك ، ولا تعفر لأحد منهم جبهة دونك . اللهم : اغز بكل ناحية من المسلمين على من بإزائهم من المشركين ، وامددهم بملائكة من عندك مردفين ، حتى يكشفوهم إلى منقطع التراب قتلا في أرضك وأسرا ، أو يقروا بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت ، وحدك لا شريك لك . اللهم : واعمم بذلك أعداءك في أقطار البلاد ، من الهند ، والروم ، والترك ، والخزر ، والحبش ، والنوبة ، والزنج ، والسقالبة ، والديالمة ، وسائر أمم الشرك الذين تخفى أسماؤهم وصفاتهم ، وقد أحصيتهم ، بمعرفتك ، وأشرفت عليهم بقدرتك . اللهم : أشغل المشركين بالمشركين عن تناول أطراف المسلمين ، وخذهم بالنقص عن ‹ صفحة 198 › تنقيصهم ، وثبطهم بالفرقة عن الاحتشاد عليهم اللهم : أخل قلوبهم من الأمنة ، وأبدانهم من القوة ، وأذهل قلوبهم عن الاحتيال ، وأوهن أركانهم عن منازلة الرجال ، وجنبهم عن مقارعة الأبطال ، وابعث عليهم جندا من ملائكتك ببأس من بأسك ، كفعلك يوم بدر ، تقطع به دابرهم ، وتحصد به شوكتهم ، وتفرق به عددهم . اللهم : وامزج مياههم بالوباء ، وأطعمتهم بالأدواء ، وارم بلادهم بالخسوف ، وألح عليها بالقذف ، وأفرعها بالمحول ، واجعل ميرهم في أحص أرضك ، وأبعدها عنهم ، وامنع حصونها منهم ، أصبهم بالجوع المقيم والسقيم الأليم . اللهم : وأيما غاز غزاهم من أهل ملتك ، أو مجاهد جاهدهم من أتباع سنتك ليكون دينك الأعلى ، وحزبك الأقوى ، وحظك الأوفى ، فلقه اليسر ، وهيئ له الأمر ، وتوله بالنجح ، وتخير له الأصحاب ، واستقو له الظهر ، وأسبغ عليه في النفقة ، ومتعه بالنشاط ، وأطفئ عنه حرارة الشوق ، وأجره من غم الوحشة ، وأنسه ذكر الأهل والولد ، وأثر له حسن النية ، وتوله بالعافية ، وأصحبه السلامة ، وأعفه من الجبن ، وألهمه الجرأة ، وارزقه الشدة ، وأيده بالنصرة ، وعلمه السير والسنن ، وسدده في الحكم ، واعزل عنه الرياء ، وخلصه من السمعة ، واجعل فكره وذكره وظعنه وإقامته فيك ولك ، فإذا صاف عدوك وعدوه فقللهم في عينه ، وصغر شأنهم في قلبه ، وأدل له منهم ، ولا تدلهم منه . فإن ختمت له بالسعادة ، وقضيت له بالشهادة ، فبعد أن يجتاح عدوك بالقتل ، وبعد أن يجهد بهم الأسر ، وبعد أن تأمن أطراف المسلمين ، وبعد أن يولي عدوك مدبرين . اللهم : وأيما مسلم خلف غازيا ، أو مرابطا ، في داره ، أو تعهد خالفيه في غيبته ، أو أعانه بطائفة من ماله أو أمده بعتاد ، أو شحذه على جهاد ، أو أتبعه في وجهه دعوة ، أو رعى له من ورائه حرمة ، فأجر له مثل أجره ، وزنا بوزن ، ومثلا بمثل ، وعوضه من فعله عوضا حاضرا يتعجل به نفع ما قدم ، وسرور ما أتى به ، إلى أن ينتهي به الوقت إلى ما أجريت له من ‹ صفحة 199 › فضلك ، وأعددت له من كرامتك . اللهم : وأيما مسلم أهمه أمر الإسلام ، وأحزنه تحزب أهل الشرك عليهم ، فنوى غزوة ، أو هم بجهاد ، فقعد به ضعف ، أو أبطأت به فاقة ، أو أخره عنه حادث ، أو عرض له دون إرادته مانع ، فاكتب اسمه في العابدين ، وأوجب له ثواب المجاهدين ، واجعله في نظام الشهداء والصالحين . اللهم : صل على محمد عبدك ورسولك ، وآل محمد ، صلاة عالية على الصلوات ، مشرفة فوق التحيات ، صلاة لا ينتهي أمدها ، ولا ينقطع عددها ، كأتم ما مضى من صلواتك على أحد من أوليائك . إنك المنان ، الحميد ، المبدي ، المعيد ، الفعال لما تريد ( 1 ) . هذا على مستوى كيان عسكري مرتبط بالدولة ، وأما على مستوى الشعب فلنقرأ معا : المقطع الثاني : دعاء الاستسقاء بعد الجدب : حيث تتجلى فيه رعاية الإمام عليه السلام لحالة الأمة ، ومراقبته لأحوالها ، وبخصوص اقت . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 199 › ( 1 ) الصحيفة السجادية ، الدعاء السابع والعشرون . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 199 - 208 تصادها الذي هو عصب حياتها ، فإذا رآه يتعرض للانهيار على أثر الجفاف ، ينبري عليه السلام لإنجاده بطريقته الخاصة ، التي لا تثير أحقاد الحكام ضده ، ولا تمكنهم من أخذ نقاط سياسية عليه ، ومع ذلك فهو يجلب أنظار الشعب المسلم المقهور ، المغلوب على أمره ، إلى أن هناك من يعطف عليه إلى هذا الحد ، ومن يراقب أوضاعه ، ويهتم بشؤونه ومشاكله . والإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الشكل ، يفرض نفسه على الساحة السياسية ، وهو تدخل صريح في شؤون الأمة ، وظهور واضح على أرض العمل ، فإن الملجأ في مثل هذه المشاكل هم كبار القوم ، ومن لهم قدسية ، وفضل ، وتقدم على الآخرين ، ولا ‹ صفحة 200 › تشخص الأبصار في مثل ذلك إلا إلى الخليفة ! إن كانت له قابلية ما يدعي من مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتسنم أريكة الحكم ! والإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الدعاء ، يثبت أنه الأحق بالتصدي لذلك المقام ، وأنه الملجأ الذي لا بد أن يوسط بين الأرض والسماء . هذا كله ، مع أن الأمة لم تقف إلى جانب الإمام عليه السلام ، ولم تراع حرمته في النسب ، ولاحقه في الإمامة ، بل خذلته ، حتى راح يقول : ( ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا ) . وليس المراد بذلك الحب مجرد العواطف والدموع والمجاملات ، فهؤلاء أهل الكوفة كانوا من أحذق الناس في ذرف دموع التماسيح على أهل البيت عليهم السلام بعنوان ( الحب ) حتى كان الإمام عليه السلام يستغيث من حبهم له ، ذلك الحب المعلن ، المبطن بالنفاق ، والذي انقلب على أبيه الإمام الحسين عليه السلام سيفا أودى به ! فليس الحب المطلوب لآل الرسول ، والذي دلت على لزومه آية المودة في القربى وأحاديث الرسول المصطفى ، هو الفارغ عن كل حق لهم في الحكم والإدارة ، أو الفقه والتشريع وعن كل معاني الولاء العملي ، والاقتداء والاتباع وإن ادعاه المحرفون ، أو حرفوه إلى مثل ذلك ، مكتفين لأهل البيت باسم ( الحب ) ( 1 ) . لكن قضية الأمة الإسلامية ، واقتصاد البلاد الإسلامية ، من القضايا المصيرية الكبرى ، التي لا توازيها الأضرار الصغيرة ولا الأخطاء الخاصة ، بل لا بد من تجاوز كل الاعتبارات في سبيل إحياء تلك القضايا الكبار . وبعد ، فلنعش في رحاب دعاء الاستسقاء : اللهم : اسقنا الغيث ، وانشر علينا رحمتك بغيثك المغدق ، من السحاب المنساق لنبات أرضك ، المونق في جميع الآفاق ، وامنن على عبادك بإيناع الثمرة ، وأحي بلادك ببلوغ الزهرة ، وأشهد ملائكتك الكرام السفرة بسقي منك نافع ، دائم غزره ، واسع درره ، وابل ، سريع ، عاجل ، ‹ صفحة 201 › تحيي به ما قد مات ، وترد به ما قد فات ، وتخرج به ما هو آت ، وتوسع به في الأقوات ، سحابا متراكما ، هنيئا مريئا ، طبقا مجلجلا ، غير ملث ودقه ، ولا خلب برقه . اللهم : اسقنا غيثا مغيثا ، مريعا ممرعا ، عريضا واسعا ، غزيرا ، ترد به النهيض ، وتجبر به المهيض . اللهم : اسقنا سقيا تسيل منه الظراب ، وتملأ منه الجباب ، وتفجر به الأنهار ، وتنبت به الأشجار ، وترخص به الأسعار في جميع الأمصار ، وتنعش به البهائم ، والخلق ، وتكمل لنا به طيبات الرزق ، وتنبت لنا به الزرع ، وتدر به الضرع ، وتزيدنا به قوة إلى قوتنا . اللهم : لا تجعل ظله علينا سموما ، ولا تجعل برده علينا حسوما ، ولا تجعل صوبه علينا رجوما ، ولا تجعل ماءه علينا أجاجا . اللهم : صل على محمد وآل محمد ، وارزقنا من بركات السماوات والأرض إنك على كل شئ قدير ( 1 ) . وهكذا فإن الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء الاستسقاء ، لا يحصر اهتمامه بما حوله من الأفراد والشؤون الخاصة ، بل يعمم اهتمامه على كل العباد وكل البلاد ، وينظر برقة ولطف إلى كل قضاياها الطبيعية والنفسية والمعاشية ، وحتى الجوية والزراعية وحتى طلب ( القوة ) . إن التأمل في مضامين هذا الدعاء يفتح آفاقا من سياسة الإمام السجاد عليه السلام . وهكذا ننتهي من هذا الفصل ، وقد وقفنا فيه على أبرز ما امتاز به الإمام زين العابدين عليه السلام من التزام العبادة ، والبكاء ، والدعاء ، ووجدنا كيف أن الإمام عليه السلام قد استخدم كل ذلك في تمرير خطته الحكيمة التي اتخذها لتثبيت قاعدة الإمامة الحقة ، وما في عمله من تعرض للحاكمين ، وتعريض بهم وبفساد تصرفاتهم ومخالفتهم ‹ صفحة 202 › للشريعة والدين . ومع أن الإمام كان يقوم بما يخصه ، ويعد من حقه الشخصي أن يتعبد ، ويبكي ، ويدعو ، فإننا نرى في أعماله نضالا سياسيا ، وتدبيرا حكيما ضد الحكومات . وسنقرأ في الفصل الآتي ، مواقف في مواجهة الحكام وأعوانهم الظلمة ، من دون غطاء أو تقية ، وهي المواقف الحاسمة التي وقفها الإمام زين العابدين عليه السلام منهم . ‹ صفحة 203 › الفصل الخامس مواقف حاسمة للإمام عليه السلام أولا - موقفه من الظالمين ثانيا - موقفه من أعوان الظلمة ثالثا - موقفه من الحركات المسلحة ‹ صفحة 205 › وبعد سنين من النضال المرير ، الذي قام به الإمام زين العابدين عليه السلام ، بالأساليب التي شرحنا صورا منها في الفصول السابقة ، والتي كان تطبيقها والاستفادة منها في تلك الظروف الحرجة لا يقل صعوبة عن إشهار السيف ، وفائدتها لا تقل عن دخول المعارك الضارية . فلقد أنتجت نتائجها الهائلة : فعززت موقع الإمام عليه السلام لكونه القائد الإلهي المسؤول عن هذا الدين ، وهذه الأمة ، والهادي لها . وتمكن - بالتزامه بالخطط الدقيقة المذكورة من أداء وظائف الإمامة ، وتجميع القوى المتبددة حول مركز الحق ، وتأسيس القاعدة لانطلاق الأئمة من بعده على أسس رصينة محكمة . وعززت تلك المواقف الاجتماعية العظيمة ، مكانة الإمام عليه السلام في أنظار الأمة ، باعتباره سيدا من أهل البيت عليهم السلام يتمتع بمكارم الأخلاق وفضائلها ، وعالما بالإسلام من أصفى ينابيعه وروافده ، ومحاميا عن الأمة . وكانت لهذه المواقع ، وهذه المكانة ، آثارها في تغيير أسلوب العمل السياسي . عند الإمام زين العابدين عليه السلام في الفترة التالية ، حيث نجد أن تعامله مع الحكام والأحداث يختلف عما سبق ، ويكاد الإمام عليه السلام يعلن عن المعارضة ، ويبدي التعرض للحكام . وكان من أبرز مظاهر هذا التعامل هو ما اتخذه من مواقف حاسمة تجاه الحكام الظالمين ، وتجاه أعوانهم ، وتجاه الحركات السياسية التي عاصرته . ‹ صفحة 206 › أولا : موقفه من الظالمين موقفه من يزيد : فقد اتخذ الإمام عليه السلام موقفا حكيما من يزيد - وهو من أعتى طغاة بني أمية وأخبثهم ، وأبعدهم عن كل معاني الدين والإنسانية والمروءة وحتى السياسة - فكان موقف الإمام عليه السلام منه فذا ، فلم يدع له مبررا للقضاء عليه ، مع أنه واجهه بكل الحقيقة التي لا يتحملها الطغاة ، بل أجبره على إطلاق سراح الأسرى من آل محمد ، وذلك بما صنعه الإمام عليه السلام من أجواء لمثل هذا الإجراء . فرجع الإمام عليه السلام إلى المدينة ليبدأ عمله طبق التخطيط الرائع الذي شرحنا صورا منه في هذه البحوث . وبعد أن قضى الإمام السجاد عليه السلام عمرا في تطبيق خططه القويمة في معارضة الدسائس التي كان يضعها الحكام من بني أمية ضد الدين وأهله ، وفضحها ، وحاول أن يبني ما كانوا يهدمونه ، ويهدم ما كانوا يبنونه ، وصد ما يحاولونه . وبعد تعزيز المواقع والمكانة لوجوده الشريف بين الأمة ، سواء من كان من أتباعه أو من عامة الناس ، لم يكن للحكام أن يتعرضوا للإمام عليه السلام من دون أن يكشفوا عن وجوههم أغطية التزوير ، وأقنعة الدجل والكفر والنفاق . فالإمام الذي ذاع صيته في الآفاق بالكرامة ، والإمامة ، والسيادة والشرف ، والتقى والعلم والحلم والعبادة والزهد ، أضف إلى ذلك حنانه وعطفه على الأمة ورعايته لشؤونها ، قد دخل أعماق القلوب ، وأصبح له من الاحترام والتقدير ما لا يكون من مصلحة الحكام التعرض له بأذى . كما يبدو أن الإمام عليه السلام بعد أن استنفذ أغراضه من خططه ، وعلم بأن الدولة الأموية وحكامها الحاقدين على الإسلام ورجاله وخاصة من أهل البيت عليهم السلام ، سوف يقضون على حياته إن عاجلا أو آجلا ، إن خفية أو علنا ، بدأ العمل الهجومي عليهم . فكان يفرغ ما بقي في كنانته من السهام على هيكل الحكم الأموي الفاسد ، والذي ‹ صفحة 207 › بدأ التنازل من كثير من المواقع الاستراتيجية التي كان يحتلها ، فقام الإمام عليه السلام بالإشهار بهم ، من خلال أعمال أصدق ما يقال فيها أنها الاستفزاز والتحرش السياسي . ومواقفه من عبد الملك بن مروان : قد رأينا أن الأمويين بكل مرافق أجهزتهم ، كانوا يرون من الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام خيرا لا شر فيه . وقد كانت علاقة مروان بن الحكم الأموي ، بالخصوص ، طيبة مع الإمام عليه السلام لما أبداه الإمام تجاهه من رعاية ، أيام وقعة الحرة ، وكان مروان شاكرا للإمام عليه السلام هذه المكرمة . وطبيعي أن يعرف عبد الملك بن مروان ، للإمام زين العابدين عليه السلام هذه اليد والمكرمة . ولذلك نراه ، لما ولي الخلافة ، يكتب إلى واليه على المدينة الحجاج الثقفي السفاك يقول : أما بعد : فانظر دماء بني عبد المطلب فاحتقنها واجتنبها ، فإني رأيت آل أبي سفيان بن حرب ( لما قتلوا الحسين ) لما ولغوا فيها ( نزع الله ملكهم ) لم يلبثوا إلا قليلا . والسلام ( 1 ) . لكن الإمام عليه السلام لم يمر بهذه الرسالة بشكل طبيعي ، بل بادر إلى إرسال كتاب إلى عبد الملك ، يقول فيه : بسم الله الرحمن الرحيم . . . أما بعد : فإنك كتبت يوم كذا وكذا ، من ساعة كذا وكذا ، من شهر كذا وكذا ، بكذا وكذا . وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنبأني وأخبرني ، وأن الله قد شكر لك ذلك وثبت ملكك ، وزاد فيه برهة ) . ‹ صفحة 208 › وطوى الكتاب ، وختمه ، وأرسل به مع غلام له على بعيره ، وأمره أن يوصله إلى عبد الملك ساعة يقدم عليه ! ( 1 ) . إن أسلوب هذا الكتاب ، ومحتواه ، كلاهما مثار للاستفزاز : فأولا : يحاول الإمام عليه السلام أن يعرف الحاكم باطلاعه الكامل على تاريخ كتابته للر . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 199 › ( 1 ) الصحيفة السجادية ، الدعاء السابع والعشرون . ‹ هامش ص 200 › ( 1 ) لقد تحدثنا عن هذا التحريف لمؤدى الحب لأهل البيت عليهم السلام والذي تعمده الأعداء ظلما ، والتزمه العامة جهلا ، في كتابنا الحسين عليه السلام سماته وسيرته ، الفقرة ( 13 ) . ‹ هامش ص 201 › ( 1 ) الصحيفة السجادية ( الدعاء التاسع عشر ) . ‹ هامش ص 207 › ( 1 ) المحاسن والمساوي للبيهقي ( ص 78 ) وفي طبعة ( 55 ) كشف الغمة للأربلي ( 2 : 112 ) مروج الذهب ( 3 : 179 ) والاختصاص ( ص 314 ) وبحار الأنوار ( 46 : 28 و 119 ) . ‹ هامش ص 208 › ( 1 ) كشف الغمة ( 2 : 112 ) وبحار الأنوار ( 46 : 29 ) ورواه في عوالم العلوم ( ص 42 ) عن الخرائج للقطب الراوندي . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 208 - 214 سالة ، بدقة ، حتى اليوم والساعة . فهو يوحي إليه علم الإمام بما يجري داخل القصر الملكي . وهذا أمر لا يمر به الطواغيت بسهولة . وثانيا : يصرح الإمام عليه السلام باتصاله المباشر بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه الذي أخبره وأنبأه بالرسالة ومحتواها . وهذا أيضا يوحي أن الإمام عليه السلام مع أنه مرتبط بالرسول نسبيا ، فهو مرتبط به روحيا ، ويأخذ علمه ومعارفه منه مباشرة ! ومثل هذا الادعاء لا يتحمله الخليفة ، بل يثقل عليه ، لأن ادعاء ذلك يعني كون الإمام عليه السلام أوثق صلة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، من هذا الذي يدعي خلافته ! والمقطع الأخير من الكتاب ، حيث يخبر الإمام عليه السلام عن أن فعل عبد الملك وتوصيته بآل عبد المطلب ( مشكور عند الله ) وأنه ثبت بذلك ملكه ، وزيد فيه برهة ، ليس قطعا أسلوب دعاء وثناء وتملق ، وإنما هو تعبير عن قبول الصنيع ، ورد الجميل ، والعطف عليه بزيادة برهة - فقط - في الملك ! لا الخلافة . مع أن صدور مثل هذا الخبر من الإمام عليه السلام إلى عبد الملك الخليفة ! فيه نوع من التعالي والفوقية الملموسة ، التي لا يصبر عليها من هو في موقع القدرة ، فضلا عن الطغاة أمثال عبد الملك . والحاصل أن هذا الكتاب الصادر من الإمام عليه السلام لم يكن يصدر ، إذا أراد الإمام عليه السلام أن يجتنب التعرض بالحاكم ، وخاصة بهذا الأسلوب المثير ، ومع أن الرسالة التي كتبها عبد الملك لم تكن مرسلة إلى الإمام عليه السلام . ‹ صفحة 209 › وكان عبد الملك واقفا على بعض ما للإمام عليه السلام من موقعية ومكانة ، لوجوده فترة كبيرة في المدينة إلى جوار الإمام عليه السلام وعلمه بأوضاعه . مضافا إلى أن الإمام عليه السلام قد تحدث معه بلغة الأرقام مما لا يمكنه دفعه أو إنكاره ، فلذلك كله تظاهر عبد الملك بفرحه بهذا الكتاب . فقد جاء في ذيل ذلك الحديث أن عبد الملك لما نظر في تاريخ الكتاب وجده موافقا لتلك الساعة التي كتب فيها الرسالة إلى الحجاج ، فلم يشك في صدق علي بن الحسين ، وفرح فرحا شديدا ! وبعث إلى علي بن الحسين وفر راحلته دراهم وثيابا ، لما سره من الكتاب ( 1 ) . ثم الذي يشير إليه الحديث التالي أن الإمام عليه السلام قاطع النظام ، مقاطعة سلبية ، توحي بعدم الاعتراف والاعتناء برأس الحكومة ، وهو شخص الخليفة : فقد روي أن عبد الملك بن مروان كان يطوف بالبيت ، وعلي بن الحسين عليه السلام يطوف أمامه ، ولا يلتفت إليه . فقال عبد الملك : من الذي يطوف بين أيدينا ؟ ولا يلتفت إلينا ؟ فقيل له : هذا علي بن الحسين ! فجلس مكانه ، وقال : ردوه إلي ، فردوه ، فقال له : يا علي بن الحسين إني لست قاتل أبيك ، فما يمنعك من المسير إلي . فقال عليه السلام : إن قاتل أبي أفسد - بما فعله - دنياه عليه ، وأفسد أبي عليه آخرته ، فإن أحببت أن تكون هو ، فكن ( 2 ) . إن تحدي الإمام عليه السلام الاستفزازي ، يتبلور في نقاط : فأولا ، يمشي بين يدي الخليفة متنكرا لوجوده ، لا يأبه به ، وفي مرأى ومسمع من الحجيج الطائفين ، ولا بد أنه كان في الموسم ، بحيث أثار الخليفة ، وبعثه على السؤال عنه : من هذا الذي يجرؤ على تحدي احترام الخليفة هكذا ! ‹ صفحة 210 › ولما سمع أنه الإمام ( علي بن الحسين ) أجلسه ( الاسم ) في مكانه ، وهذا يعني أنه قطع طوافه ، لعظم وقع النبأ عليه ، وقطع الطواف على الإمام برده إليه . وثانيا ، عتاب عبد الملك للإمام عليه السلام لعدم السير إليه ، يكشف عن أن مقاطعة الإمام للخليفة والمسير إليه ولقائه ، اتخذ شكلا أكبر من مجرد العزلة ، بل دل على عدم الرغبة ، أو الإعراض ، حتى أصبح الخليفة يحاسب عليه . وثالثا ، إن قول عبد الملك : ( إني لست قاتل أبيك ) كما يحتوي على التبرؤ من الدماء المراقة على أرض المعركة المحتدمة بين أهل البيت عليهم السلام والأمويين ، فإنه في نفس الوقت تهديد ، بهز العصا في وجه الإمام زين العابدين عليه السلام ، وتلويح له بإمكانية كل شئ : حتى القتل ! ورابعا ، ولذلك كان جواب الإمام حاسما ، وقويا ، وشجاعا ، إذ حدد النتيجة في تلك المعارك السابقة ، وأثبت فيها انتصار أهل البيت الذين ربحوا النتيجة ، وخسران قتلتهم الأمويين ! ومع ذلك أبدى استعداده ، لأن يقف نفس الموقف المشرف الذي وقفه أبوه ، إذا كان عبد الملك بصدد الوقوف على نفس الموقع الظالم الذي وقف عليه قاتل أبيه . إنه استعداد ، وطلب المبارزة والقتال ، وتحد سافر لسلطة خليفة لا يمنعه شئ من الإقدام على الفتك والقتل والظلم والإبادة . وهذا الموقف ، وحده ، كاف للدلالة على أن الإمام عليه السلام لم يكن - طول عمره - ذلك المسالم ، الموادع ، المنعزل عن الدنيا وسلطانها ، والمشغول بالعبادة ، والصلاة والدعاء والبكاء ، فقط ! ويبدو أن عبد الملك رأى أن الإمام عليه السلام بمواقفه الاستفزازية تلك ، يبرز في مقام أبيه وجده ، ويتزعم الحركة الشيعية ، وقد ركز موقعيته كإمام ، بعد تلك الجهود المضنية ، واستعاد جمع القوى المؤمنة حوله ، فأصبح له من القوة والقدرة ، أن يقف في وجه الخليفة ، فلذلك تصدى للإمام عليه السلام وحاول أن يفرغ يد الإمام عليه السلام من بعض ‹ صفحة 211 › إثباتات الإمامة ، كوجود مخلفات النبوة عند الإمام ( 1 ) ، ومنها سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فلما بلغ عبد الملك أن ذلك السيف موجود عند الإمام زين العابدين عليه السلام بعث إليه يستوهبه منه . فأبى الإمام عليه السلام . فكتب إليه عبد الملك ، يهدده أن يقطع رزقه من بيت المال . فأجابه الإمام عليه السلام : أما بعد : فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون ، والرزق من حيث لا يحتسبون ، وقال جل ذكره : * ( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) * [ سورة الحج ( 22 ) الآية ( 38 ) ] . فانظر أينا أولى بهذه الآية ( 2 ) . إن طلب عبد الملك ، للسيف الإمام عليه السلام بهذه الشدة إلى حد التهديد ، ليس ناشئا من مجرد الرغبة ، وإلا فعبد الملك هو ذا معرض عن الاحتفاء بأقدس الأشياء المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعز من سيف الرسول ، وهاهم أهله يعرضون من قبله بالتهديد بقطع الرزق . فإن موقف الإمام عليه السلام بإبائه إعطائه السيف ، إذا كانت الأمور في حالتها الطبيعية ، لا يبرره شئ . إلا أن الوضع ليس طبيعيا قطعا . وتشير بعض الأحاديث إلى بلوغ حدة التوتر بين الإمام وبين النظام إلى حد أن الحجاج الثقفي ، وهو من أعتى ولاة الأمويين ، يكتب إلى عبد الملك بما نصه : ( إن ‹ صفحة 212 › أردت أن يثبت ملكك فاقتل علي بن الحسين ) ( 1 ) . فلو كان الإمام زين العابدين عليه السلام كما هو المعروف زاهدا في السياسة ، فما معنى ربط الحجاج - الذي لا يرتاب في دهائه - بين الإمام وبين الملك . فكلام الحجاج واضح الدلالة على أن وجود الإمام عليه السلام أصبح يشكل خطرا عظيما على الملك ، يزعزعه ويزيله ، فهو لا يثبت إلا بقتل الإمام . وأما عبد الملك ، فقد حاول أن يحدد الإمام عليه السلام ، كما يقوله الحديث التالي : قال الزهري : شهدت علي بن الحسين ، يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام ، فأثقله حديدا ، ووكل به حفاظا عدة . فاستأذنتهم في التسليم عليه ، والتوديع له ، فأذنوا لي ، فدخلت عليه ، وهو في قبة ، والأقياد في رجليه ، والغل في يديه ، فبكيت ، وقلت : وددت أني مكانك ، وأنت سالم . فقال : يا زهري ، أو تظن هذا - مما ترى علي وفي عنقي - يكرثني ، أما لو شئت ما كان ، فإنه - وإن بلغ فيك وفي أمثالك - ليذكرني عذاب الله . ثم أخرج يديه من الغل ورجليه من القيد ، وقال : لأجزت معهم على ذا منزلتين من المدينة . قال الزهري : فما لبثت إلا أربع ليال ، حتى قدم الموكلون به ، يظنون أنه بالمدينة ، فما وجدوه . فكنت فيمن سألهم عنه ؟ فقال لي بعضهم : إنا نراه متبوعا ، إنه لنازل ، ونحن حوله لا ننام ، نرصده ، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديده . قال الزهري : فقدمت - بعد ذلك - على عبد الملك بن مروان ، فسألني عن علي بن الحسين ؟ فأخبرته ، فقال لي : إنه قد جاءني في يوم فقدوه الأعوان ، فدخل علي فقال : ما أنا وأنت ؟ فقلت : أقم عندي . فقال : لا أحب . ‹ صفحة 213 › ثم خرج ، فوالله ، لقد امتلأ ثوبي منه خيفة . قال الزهري : فقلت : يا أمير المؤمنين ! ليس علي بن الحسين حيث تظن ، إنه مشغول بنفسه . فقال : حبذا شغل مثله ، فنعم ما شغل به ( 1 ) . إن هذا الحديث - على طوله - فيه من الدلالات على أن وضع الإمام عليه السلام السياسي أصبح بمستوى يلجئ الدولة إلى اعتقال الإمام وتقييده وتكبيله الغل ، وتطويقه بالحرس . فهل يعامل المنعزل عن السياسة والزاهد فيها ، بهذا الشكل حتى لو فرضنا أن الضرورة اقتضت جلبه إلى العاصمة ؟ إن أسلوب الجلب هذا فيه الدلالة القوية على أن تحرك الإمام عليه السلام كان على مستوى بالغ الخطورة على الدولة . ثم ماذا كان يظن الخليفة في الإمام حتى التجأ إلى فعل كل هذا ضده ، لو لم يتوجس منه خيفة التحرك السياسي . ويبدو الإمام عليه السلام مصمما على التزامه ، فقد أجاب الخليفة بما أحب هو ، لا ما أراد الخليفة . وفي التجاء الإمام عليه السلام إلى إعمال قدراته الملهمة من الله كإمام للأمة ، وولي من أولياء الله المخلصين ، فأظهر للملك وللزهري إعجازه الخارق ، تأكيد على ما نريد إثباته وهو أن الإمام زين العابدين عليه السلام صرح بأنه يقوم بمهمة الإمامة الإلهية ، ويثبت للملك وأعوانه ولكل من اطلع على مجاري الأحداث ، أنه الإمام الحق ، والأولى بمقام الحكم الذي يدعيه عبد الملك . وهذا هو أظهر أشكال النضال السياسي . ‹ صفحة 214 › وموقفه من هشام بن عبد الملك : وموقف الإمام زين العابدين عليه السلام من هشام ، من أشهر المواقف بين المسلمين ، وقد تناقله الأعلام في صحفهم وكتبهم ، وأرسلوه إرسال المسلمات ، وفيه من الدلالات الواضحة على قيام الإمام عليه السلام بالاستفزاز السياسي ، ما لا يخفى على أحد . والحديث . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 208 › ( 1 ) كشف الغمة ( 2 : 112 ) وبحار الأنوار ( 46 : 29 ) ورواه في عوالم العلوم ( ص 42 ) عن الخرائج للقطب الراوندي . ‹ هامش ص 209 › ( 1 ) كشف الغمة ( 2 : 112 ) . ( 2 ) بحار الأنوار ( 46 : 120 ) وإثبات الهداة ، للحر العاملي ( 3 : 15 ) . ‹ هامش ص 211 › ( 1 ) إقرأ عن سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموجود عند الإمام عليه السلام حديث أبي خالد الكابلي في المناقب لابن شهرآشوب ( 4 / 148 ) ط الأضواء . ( 2 ) عوالم العلوم ( ص 117 ) عن المحاسن للبرقي ، والمناقب لابن شهرآشوب ( 4 : 302 ) وانظر بحار الأنوار ( 46 : 95 ) . ‹ هامش ص 212 › ( 1 ) بحار الأنوار ( ج 46 ص 28 ح 19 ) . ‹ هامش ص 213 › ( 1 ) حلية الأولياء ( 3 : 135 ) تاريخ دمشق ( الحديث 42 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 234 ) ورواه ابن شهرآشوب في المناقب ( 4 : 145 ) ط الأضواء . ‹ هامش ص 214 › ( 1 ) هذه الأبيات هي التي اختارها الأستاذ الفاضل المحقق الدكتور السيد جعفر الشهيدي ، من مجموع ما نسب إلى الفرزدق في مدح الإمام السجاد عليه السلام بعنوان ( الميمية ) بعد أن أشبعها بحثا وتحقيقا في كتابه القيم ( زندگاني علي بن الحسين عليه السلام ) ( الصفحات 112 - 133 ) وقد فصل فيه الحديث عما وقع من الاختلاف في ما ورد من أبيات على وزن الميمية في التراث العربي ، من حيث قائلها ، والممدوح الذي قيلت في حقه ، وفي عدد أبيات ما قيل في كل مناسبة ، وفي خصوص ما نسب إلى الفرزدق في مدح الإمام عليه السلام في مقام الحجر الأسود ، من حيث عدد الأبيات ، ودقق في مضمون الأبيات المنسوبة ، فتوصل إلى أن الأنسب بالمقام - زمانا ومكانا ووضعا - هو هذه الأبيات السبعة التي اختارها ، وأنها الأنسب بالشاعر وبالمناسبة لفظا وبلاغة ، ومعنى ودلالة . وأبان الوجوه التي استبعد بها الأبيات الأخر ، بتفصيل واف ، ومما يحسن ترجمته من كلامه ، بعد إيراده البحث المذكور ، قوله : إن كان الفرزدق قد أنشأ هذه الأبيات في حق الإمام علي بن الحسين ، فقد أدى جزءا ضئيلا من دينه ، وخفف شيئا من أثقال جرائمه التي يحملها على عاتقه ، حيث يعج ديوان هذا الشاعر بمدائح معاوية ، وعبد الملك بن مروان ، وابنه الوليد ، ويزيد بن عبد الملك ، وعمالهم مثل : الحجاج بن يوسف ، ويعثر في ديوانه على أكثر من عشرة قصائد في مديح هشام وابنه ، بالخصوص . إن ما كتبه اليافعي - في حق الفرزدق - يبدو وافيا جدا ، حيث قال : ( وتنسب إلى الفرزدق مكرمة يرتجى له بها الرحمة في دار الآخرة ) وأورد حديث الميمية ، في مرآة الجنان ( ج 1 ص 239 ) طبع مؤسسة الأعلمي بيروت - عن طبعة حيدرآباد الهند 1337 . وإليك بعض مصادر هذه القصيدة : تاريخ دمشق ( الحديث 133 ) مختصره ( 17 : 6 - 247 ) ديوان الفرزدق ( 2 : 178 ) الأغاني ( 15 : 327 ) و ( 15 : 261 ثقافة ) وصفوة الصفوة ( 2 : 8 - 99 ) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ( 1 : 153 ) وأمالي المرتضى ( 1 / 62 ) وانظر الإمام زين العابدين عليه السلام ، للمقرم ( ص 385 ) وما بعدها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 214 - 220 : أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه ، فطاف بالبيت ، وأراد أن يستلم الحجر الأسود ، فلم يقدر عليه من الزحام ، فنصب له منبر فجلس عليه . فبينا هو كذلك إذ أقبل علي بن حسين عليه السلام ، عليه إزار ورداء ، أحسن الناس وجها ، وأطيبهم رائحة ، وبين عينيه سجادة ، كأنها ركبة بعير . فجعل يطوف بالبيت ، فإذا هو بلغ إلى موضع الحجر تنحى الناس له عنه ، حتى يستلمه ، هيبة له وإجلالا . فقال رجل من أهل الشام لهشام : من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة ، فأفرجوا له عن الحجر ؟ فقال هشام : لا أعرفه ! - لئلا يرغب فيه أهل الشام - ! فقال الفرزدق - وكان حاضرا - : أنا أعرفه : هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر وقربهم منجى ومعتصم إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت * والأسد أسد الشرى واليأس محتدم ( 1 ) ‹ صفحة 215 › إن الموقف لم يكن بحيث يخفى شئ من أبعاده على الإمام عليه السلام ، ولم يكن هو عليه السلام بحيث يقوم بما قام متجاهلا عواقبه وآثاره ، فلا بد لمن يحضر المطاف أن ينتبه لحضور مثل هشام - ولي العهد - على المنبر ، وحوله الجلاوزة من أهل الشام . |
لكن الإمام زين العابدين عليه السلام تجاهل وجود هشام ، قاصدا إلى عواقب إقدامه الجرئ ذلك : فهو يسير في إكمال أشواط الطواف ، متزييا بزي الأنبياء ، والناس يتنسمون منه ريح النبوة وعبق الرسالة ، وهذا واحد من آثار نضال السنوات الطويلة العجاف الشداد ، التي كابد فيها الإمام أنواع الصعاب ، ليفتح أمام الناس طريق معرفة الإمام والوصول إلى الإمامة ، بينما كانت الخلافة في غفلة عن هذا كله ، ومنهمكة في عتوها ‹ صفحة 216 › وظلمها ولهوها وبذخها وترفها وطغيانها ، بعيدا عن الناس . والناس ، أولئك الذين تجاهلوا ابن الخليفة ، ولم يأبهوا به ، ولم يفتحوا له طريقا إلى لمس الحجر الأسود ، هاهم يقفون سماطين ، هيبة للإمام زين العابدين عليه السلام ، يفرجون له عن الحجر ، ليستلمه ! ومثل هذا العمل يخدش غرور هشام الذي يمثل الخلافة ، ويغيض المنتمين إلى الدولة ، ولذلك تجاهل هشام شخص الإمام عليه السلام . ومما يدل على حدة تأثير الموقف فيهم رواية المدائني , عن كيسان عن الهيثم أن عبد الملك قال للفرزدق : أو رافضي أنت يا فرزدق ؟ فقال : إن كان حب أهل البيت رفضا ، فنعم ( 1 ) . والشاعر الشعبي - الفرزدق - الذي يعيش بين العامة ، استصعب ذلك التجاهل ، وانبرى بإنشاد الميمية العصماء ، التي طار صيتها مع الحجاج عندما عادوا إلى مختلف البقاع . إن أي حكم سياسي لا يتحمل مثل هذه المواقف التي تحط من كرامة رجال الدولة ، وخاصة رجال البلاط ، وبهذه الصورة . ولذلك ، فإن الأمويين سجنوا الفرزدق على هذا الشعر الذي اعتبروه إهانة للنظام . فكيف لا يكون عمل الإمام زين العابدين عليه السلام استفزازا سياسيا ؟ ! ومما يؤكد على استهداف الإمام عليه السلام للنظام في هذا التصرف هو أن الإمام زين العابدين عليه السلام سارع إلى الاتصال بالفرزدق في السجن ، ووصله بشئ رمزي من المال ، مكافأة لموقفه السياسي ذلك . ولا ريب أن في هذا - أيضا - إعلانا لدعم المعارضة المعلنة من قبل الفرزدق ، لا يمكن إغفاله عن سجل الأعمال السياسية التي قام بها الإمام عليه السلام . وموقفه من عمر بن عبد العزيز : كان عمر بن عبد العزيز ، قبل توليه الخلافة ، يسكن المدينة ، يرفل أثواب الترف ، ‹ صفحة 217 › باعتباره من العائلة المالكة . وكان من ترفه انه يلبس الثوب بأربعمائة دينار ، ويقول : ( ما أخشنه ) ( 1 ) . وقال بعضهم : كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز ، من كثرة الطيب الذي فيها ( 2 ) . قال عبد الله بن عطاء التميمي : كنت مع علي بن الحسين في المسجد فمر عمر بن العزيز ، وعليه نعلان شراكهما فضة ، وكان من أمجن الناس ، وهو شاب . . . ( 3 ) . ولما كان يتمتع به من ذكاء وتدبير ، كان يراقب أعمال الإمام زين العابدين عليه السلام عن كثب ، فيجد أنه عليه السلام قد هيأ بجهاده وصبره الأرضية الصالحة لانقلاب اجتماعي جذري على الحكم الأموي المرواني . وكان الإمام يتوسم في عمر التطلع إلى الخلافة ، فقد قال عليه السلام لعبد الله بن عطاء - ذيل حديثه السابق - : أترى هذا المترف - مشيرا إلى عمر - إنه لن يموت حتى يلي الناس ، فلا يلبث إلا يسيرا حتى يموت ، فإذا مات لعنه أهل السماء ، واستغفر له أهل الأرض ( 4 ) . ففي هذا الحديث : 1 - يشاهد توسم الإمام عليه السلام في عمر أنه يتطلع إلى الحكم والولاية ، رغم بعده عنها ، واشتغاله في المدينة بما لا يمت إلى ذلك . وإعلانه عن هذا التوسم يدل بوضوح على أن الإمام كان يفكر في شؤون الحكومة لا حاضرها بل ومستقبلها ، وأنه كان مفتوحا أمامه بوضوح . 2 - إن الإمام عليه السلام كان يعرف من ذكاء عمر ودهائه أنه سوف ينافق في ولايته ، ‹ صفحة 218 › بما ينطلي على الناس أنه صالح و ( عادل ) في الحكم ، بينما هو ، قد احتال في ضرب الحق وتثبيت الباطل مدة أطول ، وقد كان من شأن الدولة الأموية أن تزول قبل ذلك , لولا تصرفاته المريبة ! حيث أن آثار جهود الإمام زين العابدين عليه السلام ونضاله ضد الطاغوت الأموي ، كانت قد بدت ظاهرة ، فكان الجو السياسي - على أثر انتشار الوعي - مشرفا على الانفتاح ، بحيث لم يطق التعنت الأموي على الاستمرار في عتوه ، وإعلان فساده ، وانتهاكه للحرمات كسب الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر ، على رؤوس الأشهاد ، وصد الأمة عن المعارف والثقافة الإسلامية الصحيحة بمنع الحديث والسنة ، والأدهى من كل ذلك استمرار الضغط على كبار المسلمين وسادتهم كعلماء أهل البيت عليهم السلام بالتقتيل والتشريد والسجن ، وكعلماء الصحابة ومؤمنيهم بالإهانة والمطاردة والقتل . فكان عمر بن عبد العزيز ، وهو الذي راقب الأوضاع عن كثب يعرف كل هذه المفارقات في حكم آبائه وسلفه ، فلما استولى على كرسي الخلافة بدأ بتبديل تلك السياسة الخاطئة . فعمد إلى رفع ذلك السب عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، الذي كان وصمة عار على جبين الحكم الأموي ، ولطخة سوداء في صفحات تاريخ المسلمين لا تمحى مدى الدهر ، إذ يسب أحد الخلفاء ، ابن عم رسول الله وصهره ، وأحد كبار الصحابة ، على منابرهم مدة مديدة ، بكل صلافة وجرأة ! ! ( 1 ) . وقد كان عمر نفسه ممن يلعن عليا قبل توليه السلطة ، حينما كان يتعلم في المدينة ( 2 ) . ثم إن سب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لم يؤد إلا إلى النتائج المضادة لأهداف بني أمية ، مهما تطاول ، وقد تنبه العقلاء إلى ذلك ، وجاء نموذج من هذا في ما روي عن عامر بن عبد الله بن الزبير - وكان من عقلاء قريش - سمع ابنا له ينتقص علي بن ‹ صفحة 219 › أبي طالب عليه السلام ، فقال له : لا تنتقص عليا ، فإن الدين لم يبن شيئا فاستطاعت الدنيا أن تهدمه ، وإن الدنيا لم تبن شيئا إلا هدمه الدين ! يا بني ، إن بني أمية لهجوا بسب علي بن أبي طالب عليه السلام في مجالسهم ولعنوه على منابرهم ، فإنما يأخذون - والله - بضبعيه إلى السماء مدا ، وإنهم لهجوا بتقريظ ذويهم وأوائلهم من قومهم فكأنما يكشفون منهم عن أنتن من بطون الجيف ، فأنهاك عن سبه ( 1 ) . ثم رفع عمر بن عبد العزيز المنع عن نشر الحديث والسنة ، فعمم أمرا بكتابة الحديث وتدوين العلم ، وسجل باسمه هذه المأثرة التي لا يزال كثير من المصنفين يمدحونه بها ! إن عمر بادر إلى هذه الأعمال وأمثالها ، لتلافي أمر انهدام الدولة الأموية ، وقبل أن ينسحب البساط من تحته وتحت قبيلته . وأخطر ما في عمله أنه أخر نتائج الجهود الجبارة التي قام بها الإمام زين العابدين عليه السلام إلى فترة أبعد ، لما فتحه أمام الناس من نوافذ للأمل بالإصلاح ، فتقاعسوا عن متابعة الأهداف التي خطط لها الإمام عليه السلام ، لأنهم علقوا آمالا طوالا عراضا على عمر ، وتظاهره بالصلاح ، بل عدوه مجددا للإسلام ! في بداية القرن الثاني ، وكالوا له المدح والثناء ، وكسب ود كثير من الناس ، حتى أتبعوه بالاستغفار بعد هلاكه . بينما هو ، لو كان يريد الخير للأمة لرد الأمر إلى أهله ، والحق إلى نصابه ، ولأصلح أهم ما أفسده بنو أمية والخلفاء من قبله ، وهو إرجاع الأمر إلى أهل البيت عليهم السلام الذين هم أولى بالأمر منه . قال السيد المقرم : ولو كان ابن عبد العزيز صادقا . . . لرد الخلافة إلى أهلها ، وهل ظلامة أحد أكبر من ظلامة أهل البيت عليهم السلام في عدم إرجاع الحق إليهم ؟ وتعريف الأمة أنهم الأولى ممن تسنم منبر النبوة بغير رضا من الله ولا من رسوله ؟ ( 2 ) ‹ صفحة 220 › ولكنه لم يفعل أي شي في هذا المجال . ولو كان محبا للعلم ، وحفظه من الدروس ، لما اكتفى برفع المنع من تدوينه ، بل لتصدى لتلك المجموعة التي دأب الخلفاء - وخاصة معاوية - على اختلاقها ووضعها ونشرها وتشويه الحق بها ، وكان من السهل وقوف عمر عليها ! فجمعها وأبادها ، أو كشفها وأعلن عن زيفها ! ولأمكنه - كذلك - السعي لفسح المجال أمام تلك المجموعة الممنوع نقلها وتداولها من الحديث والعلم ، والتي كانت تحتوي على فضائل علي وآله عليهم السلام ، فنشرها وأفصح عنها وأذاعها . ولكن تلك الأحاديث لو نشرت لما بقي لدولة بني أمية ذكر . فهو لم يفعل شيئا من هذا ، وإنما اكتفى بتصرفات تغر الناس وتقنعهم بأنه عادل ، يحب العلم ، ويحافظ على الإسلام ، كي لا تتعمق نقمة الناس عليه وعلى الخلافة الأموية ، فتنقلب عليه الأمة . ومهما يكن ، فإن تعرض الإمام زين العابدين عليه السلام لعمر بن عبد العزيز ، في ذلك الوقت ، وهو من . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 214 › ( 1 ) هذه الأبيات هي التي اختارها الأستاذ الفاضل المحقق الدكتور السيد جعفر الشهيدي ، من مجموع ما نسب إلى الفرزدق في مدح الإمام السجاد عليه السلام بعنوان ( الميمية ) بعد أن أشبعها بحثا وتحقيقا في كتابه القيم ( زندگاني علي بن الحسين عليه السلام ) ( الصفحات 112 - 133 ) وقد فصل فيه الحديث عما وقع من الاختلاف في ما ورد من أبيات على وزن الميمية في التراث العربي ، من حيث قائلها ، والممدوح الذي قيلت في حقه ، وفي عدد أبيات ما قيل في كل مناسبة ، وفي خصوص ما نسب إلى الفرزدق في مدح الإمام عليه السلام في مقام الحجر الأسود ، من حيث عدد الأبيات ، ودقق في مضمون الأبيات المنسوبة ، فتوصل إلى أن الأنسب بالمقام - زمانا ومكانا ووضعا - هو هذه الأبيات السبعة التي اختارها ، وأنها الأنسب بالشاعر وبالمناسبة لفظا وبلاغة ، ومعنى ودلالة . وأبان الوجوه التي استبعد بها الأبيات الأخر ، بتفصيل واف ، ومما يحسن ترجمته من كلامه ، بعد إيراده البحث المذكور ، قوله : إن كان الفرزدق قد أنشأ هذه الأبيات في حق الإمام علي بن الحسين ، فقد أدى جزءا ضئيلا من دينه ، وخفف شيئا من أثقال جرائمه التي يحملها على عاتقه ، حيث يعج ديوان هذا الشاعر بمدائح معاوية ، وعبد الملك بن مروان ، وابنه الوليد ، ويزيد بن عبد الملك ، وعمالهم مثل : الحجاج بن يوسف ، ويعثر في ديوانه على أكثر من عشرة قصائد في مديح هشام وابنه ، بالخصوص . إن ما كتبه اليافعي - في حق الفرزدق - يبدو وافيا جدا ، حيث قال : ( وتنسب إلى الفرزدق مكرمة يرتجى له بها الرحمة في دار الآخرة ) وأورد حديث الميمية ، في مرآة الجنان ( ج 1 ص 239 ) طبع مؤسسة الأعلمي بيروت - عن طبعة حيدرآباد الهند 1337 . وإليك بعض مصادر هذه القصيدة : تاريخ دمشق ( الحديث 133 ) مختصره ( 17 : 6 - 247 ) ديوان الفرزدق ( 2 : 178 ) الأغاني ( 15 : 327 ) و ( 15 : 261 ثقافة ) وصفوة الصفوة ( 2 : 8 - 99 ) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ( 1 : 153 ) وأمالي المرتضى ( 1 / 62 ) وانظر الإمام زين العابدين عليه السلام ، للمقرم ( ص 385 ) وما بعدها . ‹ هامش ص 216 › ( 1 ) المحاسن والمساوي للبيهقي ( ص 212 - 213 ) . ‹ هامش ص 217 › ( 1 ) طبقات ابن سعد ( 5 : 246 ) . ( 2 ) الأغاني ( 9 - 262 ) . ( 3 ) مناقب ابن شهرآشوب ( 4 / 155 ) ط الأضواء . ( 4 ) بصائر الدرجات ( ص 45 ) ودلائل الإمامة للطبري ( ص 88 ) وبحار الأنوار ( 46 : 23 و 327 ) وإثبات الهداة ( 3 : 12 ) وقد روى عاصم بن حميد الحناط في أصله ( ص 23 ) قريبا من هذا النص عن عبد الله بن عطاء قال : كنت آخذا بيد أبي جعفر , وعمر بن عبد العزيز عليه ثوبان معصفران ، قال : فقال أبو جعفر : أما إنه سيلي ثم يموت ، فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء ، ودلالته على المعاني التي ذكرناها أوضح . ‹ هامش ص 218 › ( 1 ) لاحظ الكشكول في ما جرى على آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ( ص 156 ) . ( 2 ) الكامل في التاريخ لابن الأثير ( 5 / 42 ) . ‹ هامش ص 219 › ( 1 ) الأمالي للطوسي - ط - البعثة ص 588 رقم 1217 المجلس ( 25 ) . ( 2 ) الإمام زين العابدين عليه السلام ( ص 65 ) . ‹ هامش ص 220 › ( 1 ) مناقب شهرآشوب ( 3 / 276 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 220 - 227 العائلة المالكة ، ويتطلع إلى الخلافة ، وهو على ما كان عليه من الترف والبذخ اللذين يدلان على روح الطاغوت في وجوده . إن تعرض الإمام له يدل على نوع من الاقتحام السياسي ، وهو موقف خطر يقفه الإمام ، بلا ريب ، يستتبع المؤاخذة من الحكام الظلمة . ولكن الإمام عليه السلام كان يقتطف ثمار خطته السياسية ، فلا يبالي بما سيقع عليه من جراء هذا الإعلان . ولقد أعلن ، فعلا تصديه لمثل ذلك في ما رواه حفيده جعفر الصادق عليه السلام في قوله تعالى : * ( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ) * [ سورة مريم : 98 ] قال : هم بنو أمية ، ويوشك أن لا يحس منهم أحد ولا يخشى . . . ما أسرعه ! سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول : إنه قد رأى أسبابه ( 1 ) . نعم ، رأى الإمام السجاد عليه السلام تلك الأسباب التي كانت من صنع سياسته الحكيمة . ‹ صفحة 221 › ثانيا : موقفه من أعوان الظلمة لقد شدد الإسلام النكير على إعانة الظالمين ، واعتبره ظلما وتعديا وتجاوزا للحدود ، حتى عد في بعض النصوص من الكبائر التي توعد عليها بالنار . ففي رواية معايش العباد التي ذكر فيها وجوه الاكتساب وأحكامها ، قال الصادق عليه السلام : وأما وجه الحرام من الولاية : فولاية الوالي الجائر ، وولاية ولاته ، الرئيس منهم ، وأتباع الوالي ، فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم ، . . . لأن كل شئ من جهة المعونة لهم معصية ، كبيرة من الكبائر ، وذلك : أن في ولاية الوالي الجائر درس الحق كله ، وإحياء الباطل كله ، وإظهار الظلم والجور والفساد ، وإبطال الكتب ، وقتل الأنبياء والمؤمنين ، وهدم المساجد ، وتبديل سنة الله وشرائعه . فلذلك حرم العمل معهم ، ومعونتهم ، والكسب معهم ( 1 ) . ومما لا يخفى على أحد : أن الجائرين لم يصلوا إلى مآربهم ، لو لم يجدوا أعوانا على ما يقومون به من مظالم ومآثم . وقد عبر الإمام عليه السلام عن ذلك لمن راح يذرف الدموع على ما يجري على أهل البيت من المصائب والظلم ، ما معناه : أن المسؤول عن ذلك ليسوا هم الظالمين فقط ، بل من توسط في إيصال الظلم وتمكين الظلمة ، وتمهيد الأمر لهم ، كلهم مشاركون في الجريمة . ولذلك - أيضا - ورد اللعن على ( من لاق لهم دواة ، أو قط لهم قلما ، أو خاط لهم ثوبا ، أو ناولهم عصا ) . مع أن هذه الأدوات لا تباشر الظلم ، وإنما هي جوامد لا تعقل ، إلا بوسائط وبعد مراحل ، وقد يستفاد منها للخير والصلاح ، ولكن القيام بخدمة الظالم ، ولو بهذه الأمور ، يكون من المعونة له . ‹ صفحة 222 › وقد اعتمد الإمام زين العابدين عليه السلام على هذه القاعدة الإسلامية ، وجعلها ركيزة في مقاومة النظام الفاسد ، وحاول تجريده من سلاح الوعاظ المحيطين به ، المتزلفين ، الذين تمرر السلطة على وجودهم ما تقوم به من إجراء يحسنون بذلك أفعالها أمام العوام ، ويوقع علماء الزور على آثامها . ففي الحديث أن الإمام السجاد عليه السلام كان يقول : العامل بالظلم ، والمعين له ، والراضي به : شركاء ثلاثة ( 1 ) . وكان يحذر الناس من التورط في أعمال الظلمة ، ولو بتكثير سوادهم والحضور في مجالسهم ، والانخراط في صحبتهم ، لأن الظالم لا يريد الصالح لكي يستفيد من صلاحه ، وإنما يريده : إما لتوريطه في مظالمه وآثامه ، أو أن يجعله جسرا يعبر عليه للوصول إلى مآربه وأهدافه الفاسدة . فكان الإمام عليه السلام يقول : لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم ، إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم ، ولا اصطحب اثنان على غير طاعة الله ، إلا أوشك أن يتفرقا على غير طاعة الله ( 2 ) . فبعض ظاهري الصلاح يتصور أن اصطحاب الظالمين لا يضره شيئا ، وإنما يفيد من خلاله خدمة أو على الأقل يكفيه شرا ويدفع عنه ضررا ! ولكنه تصور خاطئ ، مرتكز على الغفلة عن الذي قلناه من استغلال الظالم لصحبة الصالحين لتوريطهم ، أو تمرير أغراضه عبر سمعتهم ، وهو لا يصحبهم على أساس الطاعة قطعا ، فلا بد أن يتفرقا على غير طاعة الله أيضا ، وهذا أقل الأضرار الحاصلة من هذه المصاحبة الخطرة . كما أن الذي يعيش مع الظالم ، ولو لفترة قصيرة ، فإن اصطحابه لا يخلو من كلمات التزلف والمجاملة ، والملاطفة بما لا واقع لكثير منه ، ولو بعمل مثل الاحترام والتبجيل ، وهذا كله مما يزيد من غرور الظالم وهو تصديق لما يقول ، وتوقيع على ما يفعل . كما أن فيه تغريرا للناس البسطاء الذين يرون الصالحين في صحبة الظالم ، ‹ صفحة 223 › فيعتبرون ذلك تصويبا لتصرفاته ، وإسباغا للشرعية عليها . بل ، إن مجرد سكوت من يصحب الظالم ، على ما يرى من فعله ، هو جريمة يحاسب عليها . وقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يسعى بكل الوسائل من النصح والموعظة والإرشاد ، إلى التخويف والتهديد ، إلى الفضح والتشهير ، في سبيل إقناع المتصلين بالأمويين من علماء السوء ، ليرتدعوا ، ويتركوا الارتباط بالبلاط ، هادفا من وراء ذلك فضح الحكام ، وتجريدهم عن كل أشكال الشرعية . ومن أعلام البلاط الذين ركز الإمام عليه السلام جهوده في سبيل قطع ارتباطه بالحكام هو : الزهري . الذي أكسبه الأمويون - زورا وبهتانا - شهرة عظيمة ، وروجوا له ، ونفخوا في جلده ، حتى جعلوه من أوثق الرواة في نظر الناس . بينما كان من المنحرفين عن الإمام علي عليه السلام ( 1 ) . وقال محمد بن شيبة : شهدت مسجد المدينة ، فإذا الزهري ، وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليا عليه السلام فنالا منه ! ( 2 ) . واشتهر أنه كان يعمل لبني أمية ( 3 ) وكان صاحب شرطتهم ( 4 ) ولا يختلف الناس أنه كان يأخذ جوائزهم ( 5 ) . ولم يزل مع عبد الملك وأولاده هشام وسليمان ويزيد ، وقد استقضاه الأخير ( 6 ) . وجميع أهل البيت عليهم السلام يجرحونه ، وتكلم أناس فيه من غيرهم : قال عبد الحق الدهلوي : إنه قد ابتلي بصحبة الأمراء ، وبقلة الديانة ، وكان أقرانه من العلماء والزهاد يأخذون عليه وينكرون ذلك منه . ‹ صفحة 224 › وكان يقول : أنا شريك في خيرهم دون شرهم ! فيقولون له : ألا ترى ما هم فيه ، وتسكت ؟ ! ( 1 ) ولذلك - أيضا - كانوا يعلنون : ( من كان يأتي السلطان ، فلا يحضر مجلسنا ) ( 2 ) . وفي علوم الحديث للحاكم : قيل ليحيى بن معين : الأعمش خير أم الزهري ؟ فقال : برئت منه إن كان مثل الزهري ، إنه كان يعمل لبني أمية ، والأعمش مجانب للسلطان ، ورع ( 3 ) . وفي ميزان الذهبي في ترجمة خارجة بن مصعب أنه قال : قدمت على الزهري - وهو صاحب شرطة بني أمية - فرأيته يركب وفي يده حربة ، وبين يديه الناس ، وفي أيديهم الكافر كوبات ! فقلت : قبح الله ذا من عالم ، فلم أسمع منه ( 4 ) . وقد عده ابن حجر في من أكثر من التدليس وقال : وصفه الشافعي والدار قطني وغير واحد بالتدليس ( 5 ) . وقال القاسم بن محمد - من أئمة الزيدية - : أما الزهري فلا يختلف المحدثون وأهل التاريخ في أنه كان مدلسا ( 6 ) ، وأنه كان من أعوان الظلمة بني أمية ، وقد أقروه على شرطتهم ( 7 ) . وقال الشيخ محمد محمد أبو شهبة : اعتبروا من الجرح الذهاب إلى بيوت الحكام ، وقبول جوائزهم ، ونحو ذلك مما راعوا فيه إن الدوافع النفسية قد تحمل صاحبها ‹ صفحة 225 › على الانحراف ( 1 ) . وقد جرح أبو حازم سلمة بن دينار ، الزهري لما أرسل إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك ، ومعه ابن شهاب الزهري ، فدخل أبو حازم فإذا سليمان متكئ ، وابن شهاب عند رجليه ، فقال أبو حازم كلمات لاذعة لابن شهاب ، منها قوله : ( إنك نسيت الله ، ما كل من يرسل إلي آتيه ، فلولا الفرق من شركم ما جئتكم . . . ) ( 2 ) ولقد تكلم فيه شيخ أهل الجرح والتعديل يحيى بن معين بكلام خشن - حول قتل الزهري لغلامه - وقال : إنه ولي الخراج لبعض بني أمية ( 3 ) . وقال يحيى بن معين في معرفة رجاله : هجا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود - وكان أعمى - : الزهري وصالح بن كيسان ، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر ، في بيت واحد فقال : ليس بإخوان الثقات ابن مسلم * ولا صالح ولا الطويل معاوية ( 4 ) فنفى ابن معين الوثاقة عن الزهري على لسان الشاعر ، وهو لو لم يوافق عليه ولم يعتقده لم ينقله أو لرد عليه ، لكنه لم يفعل . وقال القاسم بن محمد : أليس كان بنو أمية وأتباعهم يلعنون عليا عليه السلام على المنابر ، وابن شهاب يسمع ويرى ، فماله ما يغضب ويظهر علمه ؟ ( 5 ) . وقال السيد مجد الدين المؤيدي : أما كون الزهري من أعوان الظلمة فمما لا خلاف فيه ، وقد قدح فيه نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم . وابن شهاب ممن لا يعدلون ، بطاعة بني أمية ، وتلبيسه وتحريفه - لمكان كثرة ‹ صفحة 226 › وفادته إليهم - معروف ، وهو لسان بني أمية ( 1 ) . وقال المؤيد بالله في شرح التجريد : الزهري عندنا في غاية السقوط ( 2 ) . واستعمل الإمام زين العابدين عليه السلام أساليب عديدة لإتمام الحجة على الزهري ، ليعتبر به هو وأمثاله ، وكان التركيز عليه لكونه أكبر علماء البلاط ، وأعرفهم عند العوام : فمن أساليبه : إسماعه المواعظ في المناجاة . قال الزهري : سمعت علي بن الحسين سيد العابدين يحاسب نفسه ويناجي ربه ، ويقول : حتام إلى الدنيا غرورك : وإلى عمارتها ركونك . . . ؟ ( 3 ) . ولما سأله الزهري : أي الأعمال أفضل عند الله تعالى ؟ فقال عليه السلام : ما من عمل بعد معرفة الله تعالى ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من بغض الدنيا ، وإن لذلك لشعبا كثيرة ، وللمعاصي شعبا : فأول ما عصي الله به : الكبر . . . ثم الحسد . فتشعب من ذلك حب النساء ، وحب الدنيا ، وحب الرئاسة ، وحب الراحة ، وحب الكلام ، وحب العلو والثروة ، فصرن سبع خصال . فاجتمعن كلهن في حب الدنيا ، فقال الأنبياء والعلماء : ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) والدنيا دنياوان : دنيا بلاغ : ودنيا ملعونة ( 4 ) . ومنها : التنبيه الخاص : قال المدائني : قارف الزهري ذنبا استوحش منه ، وهام على وجهه ، فقال له علي ابن الحسين : يا زهري ، قنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شي أعظم عليك من ذنبك . ‹ صفحة 227 › فقال ال . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 220 › ( 1 ) مناقب شهرآشوب ( 3 / 276 ) . ‹ هامش ص 221 › ( 1 ) تحف العقول ( ص 332 ) . ‹ هامش ص 222 › ( 1 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( 224 ) عن الاثني عشرية ، للعاملي . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 128 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 24 ) . ‹ هامش ص 223 › ( 1 ) شرح نهج البلاغة ( 4 - 102 ) . ( 2 ) شرح نهج البلاغة ( 4 : 102 ) والاعتصام بحبل الله المتين ( 2 : 258 ) . ( 3 ) تهذيب التهذيب ( 4 : 225 ) . ( 4 ) الجامع لأخلاق الراوي ( 2 / 203 ) . ( 5 ) الاعتصام ( 1 : 285 ) . ( 6 ) لاحظ وفيات الأعيان ، لابن خلكان ( 3 : 371 ) . ‹ هامش ص 224 › ( 1 ) رجال المشكاة ، للدهلوي . ( 2 ) رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي ( 1 / 530 ) ضمن كلام الفزاري ، ونقل ابن حجر الكلام في ترجمته في تهذيب التهذيب ( 1 / 152 ) إلا أنه حذف هذه الجملة ! ( 3 ) الاعتصام ( 2 : 257 ) ومعرفة علوم الحديث للحاكم ( ص 54 ) . ( 4 ) الاعتصام ( 2 : 257 ) وميزان الاعتدال ( 1 : 625 ) والكامل لابن عدي ( 3 : 922 ) . ( 5 ) تعريف أهل التقديس ( ص 109 ) رقم ( 102 ) . ( 6 ) لاحظ طبقات المدلسين لابن حجر ( ص 15 ) وانظر الجامع لأخلاق الراوي ( 1 : 191 ) الحديث 131 . ( 7 ) الاعتصام ( 2 : 257 ) . ‹ هامش ص 225 › ( 1 ) دفاع عن السنة ( ص 31 ) وانظر قصة حماد بن سلمة مع أمير البصرة ، في الجامع لأخلاق الراوي ( 1 / 7 - 568 ) وحلية الأولياء ( 6 / 249 ) . ( 2 ) الاعتصام ( 2 : 258 ) والكلام بطوله في الإمامة والسياسة ( 2 : 105 - 110 ) . ( 3 ) انظر جامع بيان العلم للقرطبي ( 2 / 160 ) وصرح بأنه ترك الكلام الخشن لأنه لا يليق بمثله ، ولكن لم نجد ذكرا لمثل ذلك في رجال ابن معين ، ولعل الطابعين أيضا تركوا ذلك رعاية لما يليق بالزهري ، وإن كان فيه إساءة إلى ابن معين وإلى التراث بالخيانة فيه . ( 4 ) معرفة الرجال ( 2 / 50 ) رقم ( 80 ) . ( 5 ) الاعتصام ( 2 : 260 ) . ‹ هامش ص 226 › ( 1 ) لوامع الأنوار ( ص 79 ) . ( 2 ) لوامع الأنوار ( ص 110 ) وقد ألف سماحة السيد بدر الدين الحوثي حول ( الزهري ) كتابا حافلا في فصلين ، فليراجع . ( 3 ) إلى آخر ما ذكره عليه السلام . ( 4 ) الكافي ( 2 : 130 ) المحجة البيضاء ( 5 : 365 ) . ‹ هامش ص 227 › ( 1 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 245 ) وكشف الغمة ( 2 : 302 ) وبحار الأنوار ( 46 : 7 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 125 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 246 ) . ( 3 ) شرح نهج البلاغة ( 4 : 102 ) . ( 4 ) الاعتصام ( 2 : 257 ) وانظر نزهة الناظر ( ص 43 ) . ( 5 ) إحياء علوم الدين ( 2 : 143 ) وانظر المحجة البيضاء في إحياء الإحياء ( 3 : 260 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 227 - 232 زهري : * ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) * [ الأنعام ( 6 ) الآية ( 124 ) ] فرجع إلى ماله وأهله ( 1 ) . وكان يقول - بعد ذلك - : علي بن الحسين أعظم الناس علي منة ( 2 ) . ومنها : التصغير والتهوين : فحيثما كان الزهري وعروة بن الزبير ينالان من الإمام علي عليه السلام ، بلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فجاء حتى وقف عليهما ، وقال : أما أنت يا عروة ، فإن أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك . وأما أنت يا زهري ، فلو كنت بمكة لأريتك كير أبيك ( 3 ) . ومنها : التكذيب لتزلفاته : ففي الحديث أن الزهري قال لعلي بن الحسين عليه السلام : كان معاوية يسكته الحلم ، وينطقه العلم ! فقال الإمام عليه السلام : كذبت يا زهري ، كان يسكته الحصر ، وينطقه البطر ( 4 ) . ومنها : الرسالة التي وجهها الإمام عليه السلام إليه : ويبدو أن الزهري لم يأبه بكل النصائح والتوجيهات السابقة ، فتوغل في دوامة الحكم الغاشم ، والتحق بالبلاط الشامي ، فلم يتركه الإمام عليه السلام ، بل أرسل إليه رسالة دامغة ، يصرح فيها بكل أغراضه ، ويكشف له ، ولأمثاله ، أخطار الاتصال بالأجهزة الظالمة . وقد رواها العامة والخاصة ، ونص الغزالي على أنها كتبت إلى الزهري ( لما خالط السلطان ) ( 5 ) . ‹ صفحة 228 › ورواها من أعلامنا ابن شعبة ، ونعتمد نسخته هنا ( 1 ) قال : كتابه عليه السلام إلى محمد بن مسلم الزهري ، يعظه : كفانا الله ، وإياك ، من الفتن ، ورحمك من النار ، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك ، فقد أثقلتك نعم الله بما أصح من بدنك ، وأطال من عمرك ، وقامت عليك حجج الله بما حملك من كتابه ، وفقهك من دينه ، وعرفك من سنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرضي لك - في كل نعمة أنعم بها عليك ، وفي كل حجة احتج بها عليك - الفرض بما قضى ، فما قضى إلا ابتلى شكرك في ذلك ، وأبدى فيه فضله عليك ، فقال : * ( لئن شكرتم لأزيدنكم ، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) * [ إبراهيم ( 14 ) الآية ( 7 ) ] . فانظر : أي رجل تكون غدا إذا وقفت بين يدي الله ! فسألك عن نعمه عليك : كيف رعيتها ؟ وعن حججه عليك : كيف قضيتها ؟ ولا تحسبن الله قابلا منك بالتعذير ، ولا راضيا منك بالتقصير ! هيهات ! هيهات ! ليس كذلك أخذ على العلماء في كتابه إذ قال : * ( لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) * [ آل عمران ( 3 ) الآية ( 187 ) ] . واعلم أن أدنى ما كتمت ، وأخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم ، وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت ، وإجابتك له حين دعيت ! فما أخوفني أن تبوء بإثمك غدا ، مع الخونة ، وأن تسأل عما أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة ، إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك ، ودنوت ممن لم يرد على أحد حقا ، ولم ترد باطلا حين أدناك ، وأحببت من حاد الله ! أوليس بدعائهم إياك حين دعوك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم ، وسلما إلى ضلالتهم . داعيا إلى غيهم ، سالكا سبيلهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم . فلم يبلغ أخص وزرائهم ، ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم ، ‹ صفحة 229 › واختلاف الخاصة والعامة إليهم . فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمروا لك في كنف ما خربوا عليك ؟ فانظر لنفسك ، فإنه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسؤول . وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا ؟ فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه : * ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ) * [ الأعراف ( 7 ) الآية ( 169 ) ] . إنك لست في دار مقام ، أنت في دار قد آذنت برحيل ، فما بقاء المرء بعد قرنائه ؟ . طوبى لمن كان في الدنيا على وجل ، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده . احذر فقد نبئت ، وبادر فقد أجلت . إنك تعامل من لا يجهل ، وإن الذي يحفظ عليك لا يغفل . تجهز فقد دنا منك سفر بعيد ، وداو دينك فقد دخله سقم شديد . ولا تحسب أني أردت توبيخك وتعنيفك وتعييرك ، لكني أردت أن ينعش الله ما فات من رأيك ، ويرد إليك ما عزب من دينك ، وذكرت قول الله تعالى في كتابه : * ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) * [ الذاريات ( 51 ) الآية ( 55 ) ] . أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك ، وبقيت بعدهم كقرن أعضب . انظر : هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به ؟ أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه ؟ أم هل تراهم ذكرت خيرا أهملوه ؟ وعلمت شيئا جهلوه ؟ . بل : حظيت بما حل من حالك في صدور العامة ، وكلفهم بك ، إذ صاروا يقتدون برأيك ، ويعملون بأمرك ، إن أحللت أحلوا ، وإن حرمت حرموا ، وليس ذلك عندك ، ولكن أظهرهم عليك رغبتهم في ما لديك ذهاب علمائهم ، وغلبة الجهل عليك وعليهم ، وحب الرئاسة ، وطلب الدنيا منك ومنهم . أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة ؟ وما الناس فيه من البلاء والفتنة ؟ قد ابتليتهم ، وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا ، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغت ، أو يدركوا به مثل الذي أدركت ، فوقعوا منك في بحر لا يدرك عمقه ، وفي ‹ صفحة 230 › بلاء لا يقدر قدره . فالله لنا ولك ، وهو المستعان . أما بعد : فأعرض عن كل ما أنت فيه حتى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم ، لاصقة بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، ولا تفتنهم الدنيا ، ولا يفتنون بها . رغبوا ، فطلبوا ، فما لبثوا أن لحقوا . فإن كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ ، مع كبر سنك ، ورسوخ علمك ، وحضور أجلك ، فكيف يسلم الحدث في سنه ؟ الجاهل في علمه ؟ المأفون في رأيه ؟ المدخول في عقله ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون . على من المعول ؟ وعند من المستعتب ؟ نشكو إلى الله بثنا ، وما نرى فيك ، ونحتسب عند الله مصيبتنا بك ! فانظر : كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا ؟ وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلا ؟ وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيرا ؟ وكيف قربك أو بعدك ممن أمرك أن تكون منه قريبا ذليلا ؟ مالك لا تنتبه من نعستك ؟ وتستقيل من عثرتك ؟ فتقول : والله ما قمت لله مقاما واحدا أحييت به له دينا ! أو أمت له فيه باطلا ؟ ! فهذا شكرك من استحملك ؟ ما أخوفني أن تكون كما قال الله تعالى في كتابه : * ( أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، فسوف يلقون غيا ) * [ مريم ( 19 ) الآية ( 59 ) ] . استحملك كتابه ، واستودعك علمه ، فأضعتهما ! فنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به ! والسلام ( 1 ) . ‹ صفحة 231 › إن هذه الرسالة تدل على سياسة الإمام عليه السلام من جهتين : فأولا : محتواها يدل على أن الإمام كان يراقب الأوضاع بدقة فائقة ، فهو يضع النقاط على مواضعها من الحروف ، ولا تشذ عنه صغار الأمور فضلا عن كبارها ؟ ومثل هذا لا يصدر إلا ممن لم ينعزل عن الحياة الاجتماعية ، ولم يزهد في السياسة . وثانيا : إن إرسال مثل هذه الرسالة إلى الزهري ، وهو من أعيان علماء البلاط ، لا بد أن لا تخفى عن أعين الحكام ، أو على الأقل يحتمل أن يرفعها الزهري إلى أسياده من الحكام ! وفي هذا من الخطورة على الإمام الذي أرسل الرسالة ما هو واضح وبين ، وقد وصفهم فيها بالظلم والفساد ، ونهى ، وحذر ، وحاول صرف الزهري عن اصطحابهم . فالسياسة تطفح من جمل هذه الرسالة . لكن الإمام عليه السلام - في هذه المرحلة - لا يأبه بكل الاحتمالات ، والأخطار المتوقعة ، بل يصارح أعوان الظلمة بكل ما يجب إعلانه من الحق ، كما صارح الظالمين أنفسهم بالمواجهة ، والاستفزاز . وقد وقفنا على شئ من مواجهة الإمام عليه السلام للمتظاهرين بالزهد والصلاح ممن كان يميل باطنا إلى الدنيا ، ويحب الرئاسة والوجاهة ، وأوضح مصاديق ذلك : هم علماء البلاط ووعاظ السلاطين الذين ارتبطوا بالولاة والحكام ، ليستمتعوا باللذات من خلال الحضور معهم ، والتطفل على موائدهم . ‹ صفحة 232 › ثالثا : موقفه من الحركات المسلحة كان الإمام زين العابدين عليه السلام يخطو نحو أهدافه بحذر تام ، ووعي كامل ، لا يثير انتباه الحكام والولاة المغرورين ، كي لا يقضوا على حركته وهي في المهد . فهم ، بانهماكهم في ترفهم واغترارهم بقدراتهم ، كانوا بعيدين عن الأجواء التي يصنعها الإمام عليه السلام ، فكانوا يعدون مواقفه شخصية خاصة وفردية ، بل يستوحون منها الانصراف عن التصدي لأي نشاط سياسي . فلذلك لم يظهر الإمام انتماءا إلى أية حركة معارضة للدولة ، ولم يسمح لها أن تتصل بالإمام ، سواء الحركات المتحببة إليه ، كحركة التوابين وحركة المختار ، أو الحركات المحايدة كحركة أهل الحرة ، أم المعادية له كحركة ابن الزبير في مكة والعراق ! لكن الآثار تشير إلى أن الإمام عليه السلام لم يكن في معزل عن تلك الحركات ، سلبا أو إيجابا ، حسب قربها أو بعدها عن الأهداف الأساسية التي كان الإمام وراء تحقيقها وتثبيتها . فهو من جهة كان يركز على خططه العميقة والواسعة ، بالشكل الذي يغرر بالحكام الأمويين بصحة تصوراتهم عن شغله وشخصه ، حتى أعلنوا عنه أنه ( الخير ) . ولعل رجال الدولة كانوا في رغبة شديدة في الاحتفاظ بهذا التصور ، حتى لا يتورطوا مع آل أبي طالب بأكثر مما سبق ، وليتفرغوا لغير الإمام زين العابدين عليه السلام ممن أعلن الثورة والمعارضة لهم كابن الزبير ، فلذا نشروا هذا المعنى في عملية تحريف ، ليدفعوا مجموعة من الناس للمشي بسيرة الإمام عليه السلام . وقد وقف كتاب من مؤرخي عصرنا الحاضر على هذه الآثار ، فأعلنوا : ( أن الإمام عليه السلام تبنى مسلكا ، يرفض فيه كل تحرك مناهض للسلطة ، ويبتعد عن كل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 227 › ( 1 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 245 ) وكشف الغمة ( 2 : 302 ) وبحار الأنوار ( 46 : 7 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 125 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 246 ) . ( 3 ) شرح نهج البلاغة ( 4 : 102 ) . ( 4 ) الاعتصام ( 2 : 257 ) وانظر نزهة الناظر ( ص 43 ) . ( 5 ) إحياء علوم الدين ( 2 : 143 ) وانظر المحجة البيضاء في إحياء الإحياء ( 3 : 260 ) . ‹ هامش ص 228 › ( 1 ) تحف العقول ( ص 274 ) والمحجة البيضاء ( 3 : 260 ) . ‹ هامش ص 230 › ( 1 ) روى الرسالة في تحف العقول ( 274 - 277 ) ورواها الحائري في : بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 122 - 126 ) ورواها المقرم في : الإمام زين العابدين ( ص 4 - 159 ) ولاحظ إحياء علوم الدين للغزالي ( 2 : 143 ) . ‹ هامش ص 232 › ( 1 ) الإمام السجاد عليه السلام لحسين باقر ( ص 98 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 232 - 238 شاط معاد لها ) ( 1 ) . مع أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان يهدف من خلال مواقفه - حتى العبادية - ‹ صفحة 233 › والعلمية والشخصية منها - إلى تثبيت مخططاته السياسية كما عرفنا في الفصول السابقة . وكان مع ذلك يتعامل مع الحركات السياسية الأخرى بشكل مدروس ومدبر ، حسب المواقع والظروف : فبالنسبة إلى حركة الحرة : وجدنا الإمام عليه السلام قد أحرز أنها حركة لم تنبع عن مبدأ يتفق وضرورات الموقف الإسلامي الصحيح ، فلا القائمون بها كانوا من العارفين بحق الإمام عليه السلام ، ولا خططهم المعلنة كانت أساسية ، ولا أهدافهم كانت واضحة أو مدروسة ، وأهم ما كانت عليه خطورة الموقع الذي اختاروه للتحرك ، وهو ( المدينة ) فقد عرضوها للجيش الشامي الملحد ، ليدنس كرامتها ويستهين بمقدساتها . وقد عرفنا أن الإمام عليه السلام اتخذ موقف المنجي للمدينة المنكوبة ولأهلها الذين استباح حرماتهم الجيش الأموي . ولم تكن حركة الحرة تتبع أمر الإمام عليه السلام ولا قيادته بل ولا إشرافه ، بل كان الإمام عليه السلام يومها في فترة لملمة قواه وتهيئة وضعه ، والتأهب لخطته المستقبلية . كما سبق حديث عن ذلك كله في الفصل الأول ( 1 ) . وأما فتنة ابن الزبير : فمع أن ابن الزبير لم يكن بأولى من ابن مروان ، في الحكم والسيطرة ، وأن طموحاته المشبوهة كانت مرفوضة لدى أهل الحق ، وخاصة للعلويين وعلى رأسهم الإمام زين العابدين عليه السلام . ومع ما كان عليه من الحقد والعداء لآل علي عليه السلام ( 2 ) ذلك الذي بدأه في حياته بدفع أبيه في أتون حرب الجمل ، وقد حمله الإمام الصادق عليه السلام ذلك الوزر في كلمته ‹ صفحة 234 › الشهيرة : ( ما زال الزبير منا أهل البيت حتى أدرك فرخه فنهاه عن رأيه ) ( 1 ) . وبدأ في عهد سطوته العداء لآل محمد عليهم السلام بصورة مكشوفة لما هدد مجموعة منهم بالإحراق عليهم في شعب أبي طالب بمكة ( 2 ) . وبلغ به حقده أن منع الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلا : ( إن له ( أهيل سوء ) يشمخون بأنوفهم ) حسب تعبيره الوقح ( 3 ) . وكان - بحكم معرفته بموقعية الإمام السجاد عليه السلام - يضع العيون على الإمام يراقبون تصرفاته ( 4 ) . وقد قتل أخوه مصعب الشيعة بالعراق ، حتى النساء ( 5 ) . فلذلك كان الإمام يظهر التخوف من فتنته ( 6 ) . ولعل من أوضح مبررات الإمام في تخوفه من فتنة ابن الزبير أنه اتخذ مكة موقعا لحركته ، مما يؤدي عند اندحاره إلى أن يعتدي الأمويون على هذه البلدة المقدسة الآمنة ، وعلى حرمة البيت الحرام والكعبة الشريفة ؟ وقد حصل ذلك فعلا . مع أن علم الإمام عليه السلام بفشل حركته لضعفه وقلة أنصاره بالنسبة إلى جيوش الدولة الجرارة ، كان من أسباب امتناع الإمام ومعه كل العلويين من الاعتراف بحركة ابن الزبير . وهو كان يؤكد على أخذ البيعة منهم لكسب الشرعية أولا ، ولجرهم معه إلى هاوية الفناء والدمار في ما لو اندحر ، وقد كان متوقعا ذلك ، فيقضي على آل ‹ صفحة 235 › محمد عليهم السلام فيكون قد وصل إلى أمنيته القديمة . إن الإمام عليه السلام بإظهاره التخوف من فتنة ابن الزبير ، كان قد أحبط كل أهداف ابن الزبير وأمانيه الخبيثة تلك . كما أن في هذا التصرف تهدئة لوغر صدور الأمويين ضد آل محمد عليهم السلام وشيعتهم ، تمهيدا لتثبيت العقيدة وترسيخ قواعدها . وبهذا حدد الإمام عليه السلام موقفه من الحركات البعيدة عن خط الإمامة ، والتي لم تنتهج اتباع الإسلام المحمدي الخالص الذي يحمله أئمة أهل البيت عليهم السلام . فهو لم يظهر تجاهها ما يستفيده الأمويون ، كما لم يؤيدها بحيث تكون ذريعة للأمويين على محاسبة الإمام عليه السلام . ولا قام بما يعتبر وسيلة يتشبث بها أولئك المتحركون غير الأصيلين في الفكر والعقيدة ، والمشبوهون في الأهداف والمنطلقات . فاتخذ الإمام من هذه الحركات موقف الحزم والحيطة ، فهي وإن لم تكن على المعلوم من الحق إلا أنها كانت معارضة للمعلوم من الباطل الحاكم ، ومؤدية إلى تضعيفه وزعزعته ، وتحديد سطوته . والإمام عليه السلام لا يهدف إلى مجرد إحداث البلبلة ، وتعويض فاسد بفاسد ، أو نقل السلطة من ابن مروان ، إلى ابن الزبير ، أو ابن الأشعث ، أو غيرهم من المتصدين للحكم بالباطل ، فتركهم الإمام عليه السلام يشتغل بعضهم ببعض حتى ينكشف للأمة زيف دعواهم الإمامة والخلافة ، ويظهر للأمة أنهم - جميعا - لا يطلبون إلا الحكم والسلطة ، دون صلاح الإسلام وإصلاح ما فسد من أمور المسلمين . وأما موقفه من الحركات الأخرى : فهي بفرض أنها قامت بشعارات حقة . كحركة التوابين في عين الوردة ، وشعارهم ( يا لثارات الحسين ) ( 1 ) وهم الذين تحالفوا على بذل نفوسهم وأموالهم في الطلب بثأر الحسين عليه السلام ومقاتلة قتلته وإقرار ‹ صفحة 236 › الحق مقره في رجل من آل بيت نبيهم صلوات الله عليه وسلامه ( 1 ) . وكحركة المختار الذي كتب إلى الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام يريده على أن يبايع له ، ويقول بإمامته ، ويظهر دعوته ، وأنفذ إليه مالا كثيرا ( 2 ) وتتبع قتلة الحسين عليه السلام فقتلهم ( 3 ) . ولكن الإمام عليه السلام كان حكيما في تعامله مع المتحركين أولئك ، فلم يعلن عن ارتباطه المباشر بهم ، وكذلك لم يعلن عن رفض حركتهم كما واجه ابن الزبير ، بل أصدر بيانا عاما ، يصلح لتبرير الحركات الصالحة ، من دون أن يترك آثارا سيئة على الإمام عليه السلام : فقال لعمه محمد بن الحنفية : ( يا عم ، لو أن عبدا تعصب لنا أهل البيت ، لوجب على الناس مؤازرته ، وقد وليتك هذا الأمر ، فاصنع ما شئت ) ( 4 ) . إن تولية الإمام عليه السلام لعمه في القيام بأمور الحركات الثورية تلك كان هو الطريق الأصلح ، حيث أن محمد بن الحنفية لم يكن متهما من قبل الدولة بالمعارضة ، ولم يعرف منه ما يشير إلى التصدي للإمامة لنفسه ، بينما الإمام عليه السلام كانت الدولة تتوجس منه خيفة باعتباره صاحب الدم في كربلاء ، والمؤهل للإمامة ، لعلمه وتقواه وشرفه ، ولم يخف على عيون الدولة أن جمعا من الشيعة يعتقدون الإمامة له . وبذلك كان الإمام عليه السلام قد حافظ على وجوده من أذى الأمويين واستمر على رسم خططه والتأكيد على منهجه لإحياء الدين وتهيئة الأرضية للحكم العادل . وهو مع ذلك لم يقطع الدعم عن تلك الحركات التي انتهجت الثأر لأهل البيت عليهم السلام . فلما أرسل المختار برؤوس قتلة الإمام الحسين عليه السلام إلى الإمام السجاد عليه السلام ، خر الإمام ساجدا ، ودعا له ، وجزاه خيرا ( 5 ) . ‹ صفحة 237 › وقام أهل البيت كافة بإظهار الفرح ، وترك الحداد والحزن ، مما يدل على تعاطفهم - عمليا ، وعلنيا - مع المختار وحركته . ولو نظرنا إلى هذا العمل ، نجده لا يثير من الأمويين كثيرا من الشكوك تجاه الإمام ، إذ من الطبيعي أن يفرح الموتور بقتل ظالمه ، ويدعو لمن قتله وانتقم منه وثأر لدماء الشهداء ! خصوصا ، إذا اقترن مع رفض الإمام عليه السلام لقبول هدايا المختار المادية ( 1 ) . فإن ذلك يدل بوضوح على أن الإمام عليه السلام لا يريد التورط سياسيا مع حركة بعيدة عنه جغرافيا ، ولم تلتق مع أهدافه البعيدة المدى حضاريا وتاريخيا . ولا تعدو أن تكون فوزا أو بروزا مقطعيا فقط . وأما ما ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام من أحاديث في ذم المختار أو لعنه : فالذي يوجهه أن الحكام الظلمة - عامة - وبني أمية - خاصة - استعملوا أساليب التزوير والاتهامات الباطلة ضد معارضيهم بغرض إسقاط المعارضة في نظر العامة . قد استهدفوا شخص المختار و أصحابه بأشكال من الاتهامات التي تعبر على أذهان العوام ، مثل السحر والشعوذة ، كما اتهموه بدعوى النبوة ، والألوهية ، وما أشبه ذلك من الخرافات ، سعيا في إبطال مفعول حركته ، وإبعاد الناس عنه ، والتشويش على نداءاته وشعاراته بالطلب بثارات الحسين عليه السلام وتأسفه على قتله ، وإعلانه عن هوية القاتلين ، وحمايته لبني هاشم من الأذى . ولقد تواترت أخبار البلاطيين ، واتهامهم إياه على طريقة ( إكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس ) وقد ملئت الصحف والكتب والأخبار بتلك الأكاذيب ، حتى صدقها الناس فعلا ! ! وإذا كان المختار بتلك المنزلة التي أبداها الحكام والنقلة والرواة والمؤرخون ، وكان من أخبارهم الموحشة عنه ما ملأ مسامع الناس وأفكارهم : أنه ساحر ، كذاب على الله ورسوله ، مدع للنبوة ، وما إلى ذلك من الترهات والأكاذيب . إذا كان المختار عند العامة بهذه المنزلة ، فهل يجوز للإمام عليه السلام أن يدافع - علنا - عن ‹ صفحة 238 › حركته ؟ ! أو أن يسكت إذا سئل عنه ؟ ! إن إظهار التعاطف معه ، ولو بأدنى شكل ، كانت الدولة تستغله لضرب الإمام عليه السلام وتشويه سمعته عند العامة العمياء . فلا نستبعد أن يكون الإمام عليه السلام قد أصدر ضد ما يعرفه الناس عن المختار ، ما يبرئ ساحة الإمام عليه السلام من الموافقة عليه ، أو السكوت عنه ، ففي الخبر : قام الإمام عليه السلام على باب الكعبة ! يلعن المختار ! فقال له رجل : يا أبا الحسين ، لم تسبه ؟ وإنما ذبح فيكم ؟ ! قال الإمام عليه السلام : إنه كان كذابا ، يكذب على الله ورسوله ( 1 ) فلو صح هذا الخبر ، فإن وقوف الإمام عليه السلام على باب الكعبة ، وإعلانه بهذا الشكل عن ذم المختار ولعنه ، لا يخلو من قصد - أكثر من مجرد اللعن - حيث أن في ذلك دلالة واضحة على إرادة مجرد الإعلان بذلك وتبيينه للناس . وفي قول المعترض : ( ذبح فيكم ) الهدف السياسي من تلطيخ سمعة أهل البيت عليهم السلام وتوريطهم بما لطخوا به سمعة المختار . إذ لا يصدر مثل هذا الاعتراض ، وهذا الإعلان ، عن شخص غير مغرض في مثل ذلك الموقف . ثم إن ما ورد من أمثال هذه الأحاديث ، المشتملة على ذم المختار من قبل أهل البيت عليهم السلام ورواتهم ، إنما رواها رجال الدولة وكتابهم ومؤرخو البلاط ، مما يدل على أن المستفيد الوحيد من ترويجها هم أولئك الذين يرتزقون من الارتباط بالدولة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 232 › ( 1 ) الإمام السجاد عليه السلام لحسين باقر ( ص 98 ) . ‹ هامش ص 233 › ( 1 ) لاحظ ( ص 65 - 72 ) من هذا الكتاب . ( 2 ) فقد قال لابن عباس : إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة . مروج الذهب ( 3 : 84 و 89 ) وانظر تاريخ اليعقوبي ( 2 : 261 ) . ‹ هامش ص 234 › ( 1 ) أرسله الصدوق في الخصال ( ص 157 ) باب الثلاثة ح 199 . ( 2 ) تاريخ اليعقوبي ( 2 : 261 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 118 ) وطبقات ابن سعد ( 5 : 100 ) ومروج الذهب ( 3 : 85 ) . ( 3 ) تاريخ اليعقوبي ( 2 : 261 ) مروج الذهب ( 3 : 88 ) . ( . ( 4 ) شرح رسالة الحقوق ، لعبد الهادي المختار ( ص 102 ) . ( 5 ) مروج الذهب ( 3 : 107 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 / 264 ) . ( 6 ) الكافي ( ) التوحيد للصدوق ( ص 374 ) وشرح الأخبار ( 3 : 261 ) وبحار الأنوار ( 46 : 37 و 145 ) . وحلية الأولياء ( 3 / 134 ) . ‹ هامش ص 235 › ( 1 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 436 ) . ‹ هامش ص 236 › ( 1 ) الفخري في الآداب السلطانية ( ص 104 ) . ( 2 ) مروج الذهب ( 3 : 83 ) . ( 3 ) مروج الذهب ( 3 : 84 ) ( 4 ) بحار الأنوار ( 45 / 365 ) وانظر أصدق الأخبار للسيد الأمين ( ص 39 ) والمختار الثقفي ، لأحمد الدجيلي ( ص 39 ) ( 5 ) رجال الكشي ( ص 125 و 127 ) وشرح الأخبار ( 3 : 270 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 : 259 ) . ‹ هامش ص 237 › ( 1 ) مروج الذهب ( 3 : 83 ) ورجال الكشي ( ص 126 ) رقم ( 200 ) . ‹ هامش ص 238 › ( 1 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 17 : 243 ) . ( 2 ) مروج الذهب ( 3 : 107 ) وانظر تاريخ اليعقوبي ( 2 : 264 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 238 - 248 ا لو صحت تلك الأحاديث والنقول . وإلا ، فهل يشك أحد من دارسي التاريخ في أن المختار تحرك بشعار الأخذ بثارات الحسين عليه السلام وقد وصفه زوجتاه - بعد قتله - بأنه ( رجل يقول ربي الله ، كان صائم نهاره ، قائم ليله ، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله وشيعته ، فأمكنه الله منهم حتى شفى النفوس ) ( 2 ) . ‹ صفحة 239 › وقتل معه سبعة آلاف رجل كلهم طالبون بدم الحسين ( 1 ) . أليس ما قام به المختار من أخذ الثار ، مكرمة تدعو إلى السكوت عنه ، على الأقل ؟ ! ولقد ذكر الإمام الباقر عليه السلام بمثل هذا في حديثه عن المختار لما دخل عليه أبو الحكم ابن المختار ، فتناول يد الإمام ليقبلها فمنعه ، ثم قال له : أصلحك الله ، إن الناس قد أكثروا في أبي وقالوا ، والقول - والله - قولك ! . . . ولا تأمرني بشئ إلا قبلته . فقال الإمام : سبحان الله ! أخبرني أبي - والله - أن مهر أمي كان مما بعث به المختار . أولم يبن دورنا ، وقتل قتلتنا ، وطلب بدمائنا ، فرحمه الله . وأخبرني - والله - أبي : أنه كان ليسمر عند فاطمة بنت علي يمهدها الفراش ويثني لها الوسائد ، ومنها أصاب الحديث . رحم الله أباك ، رحم الله أباك ، ما أصاب لنا حقا عند أحد إلا طلبه . . . . ( 2 ) وعلى حد قول ابن عباس - لما طلب منه سب المختار - : ذاك رجل قتل قتلتنا ، وطلب ثأرنا وشفى غليل صدورنا ، وليس جزاؤه منا الشتم والشماتة ( 3 ) . إن خروج الإمام زين العابدين عليه السلام من أزمة الحركات المعارضة للدولة ، على اختلاف مواقفها تجاه الإمام ، من موالية ، ومحايدة ، ومعادية ، وبالشكل الذي لا يترك أثرا سلبيا عليه ، ولا يحمله مسؤولية ، ولا تستفيد الأطراف المتنازعة من موقعه كإمام ، وككبير أهل البيت عليه السلام ، ولا تتضرر أهدافه وخططه التي رسمها لإحياء الدين . إن الخروج من مثل هذا المأزق ، وبهذه الصورة ، عمل جبار لا بد أن يعد من أخطر مواقف الإمام السياسية ، ويستحق دراسة معمقة لمعرفة أسسه ، وأبعاده . وبعد : إن ما بذله الإمام السجاد عليه السلام من جهود وجهاد في سبيل الله ، وما قام به من ‹ صفحة 240 › فرض الإمامة وواجب الولاية تجاه الدين والأمة ، مع اقتران المهمة بظروف صعبة وحرجة للغاية ، حيث ملئت الأجواء بالرعب والردة والانحراف عن القيم والموازين والأعراف ، سواء الدينية ، أم الأخلاقية ، بل حتى الإنسانية ! إن ما بذله الإمام عليه السلام في سبيل القيام بالمهمة تم بأفضل ما يتصور ، فقد رسم لمخططاته خطة عمل ناجحة بحيث مهد الأرضية لتجديد معالم التشيع ، ممثلا لكل ما للإسلام من مجد وعدل وعلم وحكمة ، لهو عمل عظيم ، يدعو إلى الإعجاب والفخر والتمجيد ، ويجعل من الإمام عليه السلام في طليعة القواد السياسيين الخالدين . ولقد حق له عليه السلام أن يكلل تلك الحياة العظيمة بالطمأنينة التي ملأت وجوده الشريف عندما حضر ، فأغمض عينيه حين الوفاة ، وفتحهما ليقول كلمته الأخيرة ، فيقرأ * ( الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الأرض ، نتبوأ من الجنة حيث نشاء ، فنعم أجر العاملين ) * . [ سورة الزمر ( 39 ) الآية 74 ] ثم قبض من ساعته ( 1 ) . فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا . وكما كانت نتائج الثورة الحسينية في كربلاء تتبلور في انتصار الإسلام باستمرار شعائره وعدم تمكن الأعداء من القضاء عليها ، بالرغم من استشهاد الصفوة من خيرة المسلمين وعلى رأسهم الإمام أبو عبد الله الحسين السبط الشهيد عليه السلام وأهل بيته وشيعته ، فإن الظلمة لم يتمكنوا من محو الإسلام ، بل بقي مستمرا ، ممثلا في أذانه وصلاته وكعبته وسائر أصوله وضرورياته . وقد أعلن الإمام السجاد عليه السلام عن هذه الحقيقة ، وأبرز هذه النتيجة في ما أجاب به إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله ، حين قدم علي بن الحسين عليه السلام وقد قتل الحسين صلوات الله عليه استقبله إبراهيم وقال : يا علي بن الحسين ، من غلب ؟ وهو مغط رأسه وهو في المحمل - فقال له علي بن الحسين : إذا أردت أن تعلم من غلب ، ودخل وقت الصلاة ، فأذن ثم أقم ( 2 ) . فإن الإمام عليه السلام جعل استمرار الشعائر التي تذكر فيها شهادة التوحيد والرسالة ‹ صفحة 241 › علنا وعلى رؤوس الأشهاد دليلا على انتصار الحسين عليه السلام وغلبته ، وهذا من أعظم العبر لمن اعتبر ! فكذلك تبلورت نتائج مخططات الإمام السجاد عليه السلام في إحياء التشيع من جديد ، والتمهيد لقيام أولاده الأئمة عليهم السلام بالحركات التجديدية المتتالية . ‹ صفحة 243 › |
الخاتمة نتائج البحث ‹ صفحة 245 › وبعد هذا التجوال الذي قمنا به خلال مصادر حياة الإمام زين العابدين عليه السلام ، وأعماله وأفكاره ، وأدعيته وأحاديثه ، تمكنا من جمع شتات المؤشرات إلى الأبعاد السياسية في حياة الإمام عليه السلام . وبعد فرزنا لها في فصول الكتاب علمنا : أن الإمام زين العابدين عليه السلام قد قام بأعمال سياسية كبيرة في سبيل الأهداف الكبيرة التي من أجلها شرع الدين . وإذا لاحظنا صعوبة المهمة التي قام بها في الظروف الحرجة والخطيرة التي عايشها ، وعلى طول المدة حتى وفاته عليه السلام ، عرفنا عظمة تلك الجهود التي بذلها في خصوص هذا المجال وحده . وهو عليه السلام - وإن لم يمد يدا إلى السلاح الحديدي - إلا أنه التزم النضال بكل الأسلحة الأخرى التي لا تقل أهمية وخطورة عن السلاح الحديدي . فشهر سلاح اللسان بالخطب والمواعظ ، وسلاح العلم بالتثقيف والإرشاد ، وسلاح الأخلاق بالتربية والتوجيه ، وسلاح الاقتصاد بالإعانات والإنفاق ، وسلاح العدالة بالإعتاق ، وسلاح الحضارة بالعرفان . حتى وقف سدا منيعا في وجه أخطر عملية تحريف تهدف إبادة الإسلام من جذوره ، في الحكم الأموي الجاهلي . وبقيت الخطوط الأخرى لسياسة الإمام عليه السلام غير معلنة ولا واضحة ، أو غير مشروحة ، حتى عصرنا الحاضر ، فلذلك وقع كثير من كتاب العصر في وهم فظيع ، ‹ صفحة 246 › تجاه الموقف السياسي للإمام عليه السلام حتى نسبت إليه تهمة الانعزال عن السياسة ، بل ممالأة الظالمين ، مما لا يقبله أي شريف فضلا عمن يعتقد في زين العابدين عليه السلام أنه إمام منصوب من قبل الله تعالى ، ليلي أمور المؤمنين ! إن الإمام عليه السلام كان مسؤولا - ومن خلال منصبه الإلهي - عن كل ما يجري في العالم الإسلامي ، وقد أنجز الإمام عليه السلام بتدابير دقيقة ما يلزم من دور قيادي ، وبكل سرية وذكاء ، فشن على الطغاة الحاكمين ، وأمثالهم من الطامعين ، حربا شعواء ، لكنها باردة صامتة بيضاء في البداية ، أصبحت معلنة صبغتها دماء طاهرة من شيعته في النهاية . ولم ينقض القرن الأول ، إلا أخذت آثار سياسية الإمام زين العابدين عليه السلام تبدو على الساحة ، بشكل أشعة تنتشر من أفق مظلم طال مائة عام من الانحراف والظلم والتعدي على الإسلام بمصادره : القرآن الذي منع تفسيره وتأويله من المصادر الموثوقة . والحديث الذي منع تدوينه ونشره ، وأحرق كثير منه . ورجاله الذين نفوا ، وأخرجوا من ديارهم ، أو قتلوا تقتيلا . ومكارمه وأخلاقه وفقهه وتراثه الذي طالته أيدي التزوير والدس والتحريف . فشوهت سمعته ، وسود وجه تاريخه . لكن الإمام السجاد بمواقفه العظيمة ضمن خطط حكيمة ، تمكن من الوقوف أمام كل هذه التحديات الرهيبة ، تلك المواقف التي قدم لها حياته الكريمة . ولم تنقض فترة على وفاة الإمام عليه السلام حتى بدأ العد التنازلي للحكم الجاهلي ، وبدأ الحكام الأمويون بالتراجع عن كثير من ملتزماتهم ، وتعنتهم ، ولم تطل دولتهم بعيدا ، إلا انمحت آثارها حتى من عاصمتهم دمشق الشام . وأما أهداف الإمام السجاد عليه السلام فقد تولاها بعده ابنه الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين عليه السلام ، ثم من بعده الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام ، فاستفادا من وهن الأمويين في تلك الفترة ، وتمكنا من تثبيت دعائم الإسلام والفكر الإمامي بأفضل ما بإمكانهما . ‹ صفحة 247 › فكونا أكبر جامعة علمية إسلامية ، تربى فيها آلاف من العلماء المبلغين للإسلام بعد استيعاب معارفه ، على أيدي الإمامين العظيمين . وقد تمكن الإمامان من رفع الغشاوة عن كثير من الحقائق المطموسة تحت أكداس من غبار التهم والتشويه والتحريف في شؤون الإسلام ، عامة ، وفي ما يرتبط بحق أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإمامة والحكم ، خاصة . وعندما نرى تصدي الحكام - من أمويين وعباسيين - للإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ومن كان على خطهما ، نجد أن ما قاما به يعد فتحا عظيما في المعيار السياسي ، وإنجازا في قاموس الحركات الاجتماعية ، خاصة في تلك العصور المظلمة . لقد قام الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام بتهيئة الكوادر الكفوءة ، وتعميق الثقافة الإسلامية في المجتمع الإسلامي ، وتسليح الأمة بالعلم ، وتثبيت قواعد العقيدة والإيمان ، لتكوين جيش عقائدي منيع ، لصد التيارات الإلحادية المبثوثة بين الأمة ، والقضاء على الطلائع الملحدة المبعوثة من قبل الحكام مثل علماء البلاط ووعاظ السلاطين . وبكل ذلك تميزت الآيولوجية الإسلامية المتكاملة ، وعلى مذهب الشيعة ، المأخوذة من ينابيع الحق والصدق ، أئمة أهل البيت عليهم السلام ، والمعتمدة على أصفى المصادر الحقة : القرآن الكريم ، والسنة الصحيحة الموثوقة ، والمتخذة من العقل الراجح منارا لتمييز الحق ، على أساس من التقوى والورع والاجتهاد ، والإيمان . فكان هذا العمل تحديا معلنا ضد الحكومات الفاسدة التي كانت تروج للتيارات العقائدية الملحدة ، والخارجة عن إطار العقائد الإسلامية ، وتدعو إلى حياة التفسخ ، والترف ، واللهو ، والفساد ( 1 ) . كما استفاد ابنه العظيم زيد الشهيد عليه السلام من الأرضية التي مهدها الإمام زين العابدين عليه السلام للثورة ، فكان عمله دعما لموقف الإمامين عليهما السلام في تنفيذ خطط الإمام ‹ صفحة 248 › زين العابدين عليه السلام واستثمار جهوده ، والاستمرار بأهدافه ( 1 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 238 › ( 1 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 17 : 243 ) . ( 2 ) مروج الذهب ( 3 : 107 ) وانظر تاريخ اليعقوبي ( 2 : 264 ) . ‹ هامش ص 239 › ( 1 ) مروج الذهب ( 3 : 107 ) . ( 2 ) رجال الكشي ( اختيار معرفة الرجال ) ( ص 126 ) رقم ( 199 ) . ( 3 ) الكامل في التاريخ لابن الأثير ( 4 / 278 ) . ‹ هامش ص 240 › ( 1 ) الكافي ( 1 / 468 ) و ( 3 / 165 ) وانظر عوالم العلوم ( ص 299 ) . ( 2 ) أمالي الطوسي ( ص 677 ) المجلس ( 37 ) الحديث 1432 / 11 . ‹ هامش ص 247 › ( 1 ) إقرأ كتاب ( الأغاني ) للوقوف على جانب منقول من هذه الحياة العابثة التي عاشها الخلفاء ! ولاحظ : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي . ‹ هامش ص 248 › ( 1 ) إقرأ عن زيد الشهيد بحار الأنوار ( 46 : 168 - 209 ) وعوالم العلوم الجزء ( 18 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 248 - 257 ن تلك التدابير ، التي اتبعها الإمام السجاد وابناه الإمام الباقر وزيد الشهيد ، وحفيده الإمام الصادق عليهم السلام ، وشيعتهم المجاهدون على خطهم ، وتلك المواقف الجريئة التي اتخذوها من الحكام الظالمين والحكومات الفاسدة ، من أجل العقيدة ، لا ولن تصدر ممن يركن إلى الدعة والراحة ، أو أذهلته المصائب والفجائع . بل ، إن ما قاموا به يعد في العرف السياسي ، أهم من حمل السلاح في مثل تلك المرحلة بالذات . وأما مجموع ما أنتجته تلك الجهود والتدابير ، فهو أكبر مما تؤثره البسالة والبطولة في ميادين الحروب . وهو عمل لا يقوم به إلا أصحاب الرسالات من العلماء بالله الذين يفوق مدادهم فضلا وأثرا من دماء الشهداء . وإن من يعرف أوليات النضال السياسي ، وبديهيات التحرك الاجتماعي ، وخصوصا عند المعارضة ، ليدرك أن سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام السياسية التي عرضناها في فصول هذا الكتاب ، هي مشاعل تنير الدرب للسائرين على طريق الجهاد الشائك ، ممن يلتقي مع الإمام عليه السلام في تخليد الأهداف الإلهية السامية . وأي مناضل يعرض عن كل هذه الجهود ، ولا يعدها ( جهادا سياسيا ) ؟ ! والغريب ، أن أصحاب دعوى النضال والحركة ، في هذا العصر - وفيهم من اتهم الإمام بالانعزال السياسي - يتبجحون باسم النضال والمعارضة السياسية ، لمجرد إصدار بيان ، أو إعلان رفض ، ولو من بعد أميال عن مواقع الخطر ، ومواقف المواجهة ! ثم هم لا يعتبرون تلك التصريحات الخطيرة ، وتلك المواجهات والمواقف الحاسمة ، التي قام بها الإمام عليه السلام ، نضالا سياسيا ؟ ! وهم ، يقيمون الدنيا ، لو وقعت خدشة في إصبع لهم ، ويعتزون بقطرة دم ‹ صفحة 249 › تراق منهم ! بينما لا يحسبون لذلك الجرح الذي أثخن به الإمام عليه السلام في كربلاء ، وذلك النزيف من الدم والدمع الذي أريق منه على أثر وجوده في الساحة ، قيمة وأثرا ؟ ! مع أن الآلام التي تحملها الإمام عليه السلام في جهاده ، ومن خلال جهوده العظيمة ، والأخطار التي اقتحمها في سبيل إنجاح مخططه ، أكثر ألما ، وأعمق أثرا ، من جرح ظاهر يلتئم ، وقرح يندمل ! لكن الإمام السجاد زين العابدين عليه السلام ظهر على الساحة ببطولة وشجاعة تختص به كإمام للأمة ، فتحمل آلام الجهاد وجروحه ، وصبر على آلام الجهود المضنية التي بذلها . وانفرد في الساحة في تلك الفترة الحالكة ، كألمع قائد إلهي في مواجهة أحلك الظروف وأصعبها ، وأكثر الهجمات ضراوة ، وأكثر الحكومات حقدا وبعدا عن الإسلام ، وباسم الخلافة الإسلامية . وخرج من ساحة النضال بأعمق الخطط وأدقها ، وبأبهر النتائج وأخلدها . وأما نحن - الشيعة في الوقت الحاضر - : فإنا نواجه - اليوم - حملة شرسة من أعداء المذهب ، مدعومة بحملة ضارية من أعداء الإسلام . ويشبه وضع التشيع في هذا العصر - في كثير من الجهات - ما كان عليه في القرن الأول ، إذ يعايش أجواء سياسية ونفسية متماثلة . فاليأس والقنوط يعمان الجميع ، حتى العاملين في حقل الحركات الإسلامية ، والمنضوين تحت ألوية الأحزاب والمنظمات والمجالس والمكاتب . والارتداد ، المتمثل بابتعاد عامة الناس عن خط الإمامة والولاية ، وفي ظروف غيبة الإمام عليه السلام ، التي معها تزداد الحيرة وتتأكد الشبهة . وتعدد الاتجاهات والآراء والأهواء ، التي اقتطعت أشلاء الأمة ، وفرقتها أيدي سبأ . ‹ صفحة 250 › والحكومات الجائرة ، بما تمتلك من أجهزة القمع ، وأساليب الفتك والهتك ، والسجن والقتل ، وبأحدث أساليب التعذيب ، خصوصا تلك الحاملة لسيوف التكفير ومشانق الاتهام بالردة ، وبدعوى شعارات إسلامية مزيفة . والاختراق الثقافي الهدام ، لصفوف الأمة الإسلامية وعقولها ، وبوسائل الإعلام الحديثة ، المقروءة والمسموعة والمرئية ، وباستخدام الأثير والأشعة والأقمار الصناعية ! والغزو الفكري المخلخل للوجود الديني من الداخل ، بالأفكار والشبهات المضللة ، والحملات الكاذبة ، الطائشة ضد المقدسات الإسلامية ، التي تروجها الدول الاستعمارية الحاقدة ، ويزمر لها الحكام العملاء في البلدان الإسلامية . والتصرفات العشوائية المشبوهة التي يقوم بها الضالون من رجال الدين ، والبلاطيون من وعاظ السلاطين ، والمتزلفون إلى المناصب والأموال والفخفخة والعيش الرغيد في القصور ، والمتطفلون على الموائد وفي السهرات ، والمتكؤون على أرائك الحكم وأسرة الإدارة ، والراكنون إلى الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي ، وحكموا الناس بالجور . وأصحاب الدعاوى الزائفة بالاجتهاد والمرجعية ، مع فقدان أوليات المعارف اللازمة ، والفراغ من الالتزام الصحيح بأصول العقيدة ، والانتماء المذهبي ، وإنما بالركون إلى الحزبية الضيقة ، وبدعوى الانطلاق لمسايرة الجيل المتطلع وادعاء مصادمة الواقع بالفتاوى التي لا أساس لها في الفقه ومصادره ، وبالأفكار المخالفة لضرورات الدين والمذهب ، باسم التجديد ، والتوعية ، والتوحيد ، والتأليف ! وغير ذلك من العناوين العصرية الغارة لأفكار الشباب ! وبالأموال التي توزع بأرقام كبيرة ، من مصادر مجهولة ! أو معلومة ! ! إن كل هذه الحقائق الجارية في عصرنا ، تمثل - بالضبط - الفصول التي عاصرها الإمام زين العابدين عليه السلام لكن بشكلها العصري . لكن الحق الناصع وهو ( الإسلام ) المتأصل في قلوب المؤمنين ، يتجلى أكثر مما مضى بفضل الثقافة الواسعة حول المعارف الإسلامية ، وظهور حقائق القرآن والسنة ، ‹ صفحة 251 › وفضل أهل البيت عليهم السلام ، ذلك الذي لم يعد اليوم مكتوما ولا ممنوعا . وأساليب عمل الإمام السجاد عليه السلام وجهاده وتعاليمه السياسية والاجتماعية ماثلة أمام من يطلب الحق ! فعلى كل من يريد النضال والحركة في سبيل الله ، أن يقتدي بإمامه ، ويجعل عمله مشعلا يهتدي بنور إرشاده ، ويسير على منهجه في النضال والتحرك السياسي والاجتماعي ، فيكون على بصيرة من أمر دينه ، ويصل إلى أفضل النتائج المتوخاة في أمر دنياه . والله المستعان والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله المصطفى الأمين وآله الطاهرين ‹ صفحة 253 › الملاحق الملحق الأول : رسالة الحقوق الملحق الثاني : من تقاريظ الكتاب نثرا ونظما الملحق الثالث : تقرير موجز عن المباراة الكتابية عن الإمام السجاد عليه السلام . ‹ صفحة 255 › الملحق ( 1 ) رسالة الحقوق عن الإمام السجاد عليه السلام برواية أبي حمزة الثمالي بسم الله الرحمن الرحيم توثيق الرسالة : اتفقت المصادر الحديثية - كافة - على نسبة هذا الكتاب إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام . برواية أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار الشهير بابن أبي صفية الأزدي الكوفي ، صاحب الدعاء المشهور باسمه الذي يتلى في أسحار شهر رمضان المبارك ، وقد توفي عام ( 150 ) لقي من الأئمة السجاد والباقر والصادق والكاظم عليهم السلام . قال النجاشي : كان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث ، وروى عنه العامة ( 1 ) . وقد نسبه إليه النجاشي باسم ( رسالة الحقوق ) عن علي بن الحسين عليه السلام ، ثم أسند روايتها إليه ( 2 ) . لكن المنقول عن الكليني أنه أوردها في ما جمعه باسم ( رسائل الأئمة عليهم السلام ) مما يدل على كون لكتاب ( رسالة ) بعثها الإمام عليه السلام إلى بعض أصحابه ( 3 ) ، وبهذا جاء ‹ صفحة 256 › التصريح في بعض أسانيد الرسالة ( 1 ) . ولعل المرسل إليه هو أبو حمزة نفسه وبذلك يوجه اختصاص روايتها به ، وانتهاء الأسانيد كلها إليه . مصادر الرسالة : تعددت مصادر هذه الرسالة : فأوردها من القدماء الشيخ الصدوق في العديد من كتبه : أعظمها كتاب من لا يحضره الفقيه ، الذي هو من الأصول الحديثية الأربعة ، وأوردها في الخصال ، والأمالي . والشيخ الصدوق أسند رواية الكتاب إلى أبي حمزة الثمالي في الخصال والأمالي ، إلا أنه حذف الإسناد في الفقيه ، على دأبه فيه حيث أنه يحذف الأسانيد ويحيل على المشيخة التي أعدها لذكرها ، فلا يعد الحديث - في هذا الفرض - مرسلا . وقد أورد أسانيده إلى أبي حمزة الثمالي في المشيخة وقال : وطرقي إليه كثيرة ولكنني اقتصرت على طريق واحد منها ( 2 ) . وأما الكليني : فالمنقول عن ابن طاوس في فلاح السائل من قوله : ( روينا بإسنادنا في كتاب ( الرسائل ) عن محمد بن يعقوب الكليني ، بإسناده إلى مولانا زين العابدين عليه السلام ) ( 3 ) يدل على كون الحديث مسندا عند الكليني . إلا أن كتاب ( الرسائل ) مفقود ، وابن طاوس نقل عنه هكذا بحذف الإسناد . ومن المحتمل قويا أن يكون الكليني قد رواه عن شيخه علي بن إبراهيم ، الذي يروي الرسالة كما في سند النجاشي ، كما سيأتي . وقد أورد ابن شعبة الحراني الحسن بن علي بن الحسين أبو محمد هذه ( الرسالة ) في كتابه العظيم ( تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي مرسلة شأن كل ما ‹ صفحة 257 › في الكتاب . إلا أن من المطمأن به كون رواياته في الأصل مسندة ، لأمرين : الأول : لقوله في مقدمة الكتاب : وأسقطت الأسانيد ، تخفيفا وإيجازا ، وإن كان أكثره لي سماعا ، ولأن أكثره آداب وحكم تشهد لأنفسها ( 1 ) . فقد حذف الأسانيد تخفيفا ، وهذا أمر متداول عند المؤلفين ، بعد عصر التدوين ، لثبوت الأسانيد في مواضعها من الأصول المنقول منها ، وإن كانت المحافظة على الأسانيد وإثباتها أحوط ، لما يتعرض له التراث من الآفات . وكذلك حذف الأسانيد ، لأن الحاجة إليها إنما هي ماسة في باب الأحكام ومسائل الشريعة ، وأما الآداب والحكم فلا تكون الأحاديث فيها إلا مرشدة إلى ما يقتضيه العقل والحكمة والتدبير ، والمضامين تشهد بصحة الأحاديث من دون تأثير الأسانيد في ذلك . فأحاديث الكتاب وإن كانت على ظاهر الإرسال إلا أنها مسندة واقعا . الثاني : إن أحاديث الكتاب مروية بأسانيدها في المصادر المتقدمة ، ولا يرتاب الناظر إلى كتاب ( تحف العقول ) في كون مؤلفه على جانب كبير من العلم والمعرفة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 248 › ( 1 ) إقرأ عن زيد الشهيد بحار الأنوار ( 46 : 168 - 209 ) وعوالم العلوم الجزء ( 18 ) . ‹ هامش ص 255 › ( 1 ) رجال النجاشي ( ص 115 ) رقم 296 . لكنهم انهالوا عليه قدحا وجرحا ، وبما أنا لم نجد في ما روي عنه ، وبطريقه ما يقتضي ذمه ، فضلا عن جرحه ، نعرف أنه لا سبب لموقفهم منه إلا التعصب المذهبي والطائفية البغيضة ، وإلا فالرجل كما وصفه النجاشي وغيره من علماء الرجال الإمامية ، وقد حرم العامة أنفسهم من معارف أهل البيت عليهم السلام بمثل هذه المواقف الظالمة . ( 2 ) المصدر ( ص 116 ) . ( 3 ) نقله في مستدرك الوسائل ( 11 / 169 ) عن فلاح السائل ابن طاوس ، وسيأتي . ‹ هامش ص 256 › ( 1 ) الخصال ( ص 564 ) رقم ( 1 ) . ( 2 ) شرح مشيخة الفقيه ( ص 36 ) من المطبوع مع الفقيه ، الجزء الرابع . ( 3 ) مستدرك الوسائل ( 11 / 169 ) . ‹ هامش ص 257 › ( 1 ) تحف العقول ( ص 3 ) . ( 2 ) لاحظ مستدرك الوسائل ( 11 / 169 ) . ( 3 ) تحف العقول ( ص 255 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 257 - 264 الحديث وشؤونه ، مما يربأ به من إثبات ما لا سند له في كتابه مع تصريحه بنسبة ما أثبته إلى الأئمة عليهم السلام ، ومن المعلوم أن النسبة لا يمكن الجزم بها إلا مع ثبوت الأسانيد . وفي خصوص رواية ( رسالة الحقوق ) فإن ما أثبته من النص موافق لما نقله ابن طاوس عن ( رسائل ) الكليني ( 2 ) وقد عرفت كون روايته مسندة . وقد سماها ابن شعبة ب ( رسالة الحقوق ) ( 3 ) وهو الاسم الذي ذكره النجاشي لها ، عندما أسند إليها ، كما مر . ‹ صفحة 258 › مجموعة الأسانيد : 1 - سند الصدوق في الخصال : قال الصدوق : حدثنا علي بن أحمد بن موسى رضي الله عيه ، قال : حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، قال : حدثنا جعفر بن محمد بن مالك الفزاري ، قال : حدثنا خيران بن داهر ، قال : حدثني أحمد بن علي بن سليمان الجبلي ، عن أبيه ، عن محمد بن علي ، عن محمد بن فضيل ، عن أبي حمزة الثمالي ، قال : هذه رسالة علي بن الحسين عليه السلام إلى بعض أصحابه ( 1 ) . 2 - سند الصدوق في الأمالي : قال الصدوق : حدثنا علي بن أحمد بن موسى ، قال حدثنا محمد بن جعفر الكوفي الأسدي ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : حدثنا إسماعيل بن الفضل ، عن ثابت بن دينار الثمالي ، عن سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال : ( 2 ) 3 - سند النجاشي : قال : أخبرنا أحمد بن علي ، قال : حدثنا الحسن بن حمزة ، قال : حدثنا علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، عن علي بن الحسين عليهما السلام ( 3 ) أما سند الصدوق في ( الفقيه ) : فقد ذكر في موضع الحديث ما نصه : روى إسماعيل بن الفضل ، عن ثابت بن دينار ، عن سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال ( 4 ) مما يدل على كون سنده إليه هو سند الأمالي المنتهي إلى إسماعيل بن الفضل ، لكنه ‹ صفحة 259 › قال في المشيخة : ( وما كان فيه : عن أبي حمزة الثمالي ، فقد رويته عن أبي رضي الله عنه ، عن سعد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، ثابت بن دينار الثمالي ( 1 ) . وهذا السند يختلف عن أسانيد الصدوق السابقة ، فيظهر الاختلاف بين ما أثبته في الكتاب ، وبين السند المثبت في المشيخة . ولو كان إرجاع الصدوق في المشيخة على طريقه إلى ( إسماعيل بن الفضل ) وهو الهاشمي ، فقد قال : رويته عن جعفر بن محمد بن مسرور رضي الله عنه عن الحسين بن محمد ابن عامر ، عن عمه عبد الله بن عامر ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عبد الرحمان بن محمد ، عن الفضل بن إسماعيل بن الفضل ، عن أبيه إسماعيل بن الفضل الهاشمي ( 2 ) . وهذا السند لا يجتمع مع أسانيده السابقة في شئ ، فالأمر كما قلنا مرتبك ، إلا أن يتدارك بما أفاده بقوله : ( وطرقي إليه كثيرة ولكنني اقتصرت على طريق واحد منها ) ( 3 ) وجعل ذلك دالا على التزامه بنظرية ( التعويض ) بين الأسانيد . وقد صرح المجلسي الأول المولى محمد تقي في قول الصدوق في الفقيه ( روى إسماعيل بن الفضل بإسناده ) بقوله : ( القوي كالصحيح ) ( 4 ) . والظاهر حكمه على سند الصدوق في الأمالي المنتهي إلى إسماعيل . وقال النوري في سند النجاشي : إنه أعلى وأصح من طريق الصدوق في الخصال إلى محمد بن الفضيل ( 5 ) . ويظهر من المشجرة التي رتبناها أن سند النجاشي ليس أعلى من سند الصدوق في الأمالي ، لاستواء عدد الرواة من كل منهما إلى أبي حمزة . مع أن سند النجاشي ليس سالما من النقد ، من جهة رواية ( إبراهيم بن هاشم ) مباشرة عن ( محمد بن الفضيل ) فإن المعروف مكررا روايته عن البزنطي ، ورواية ‹ صفحة 260 › البزنطي عن ( محمد بن الفضيل ) كما ورد في سند الصدوق في المشيخة إلى أبي حمزة . ومع ذلك فإن السيد الإمام البروجردي قال في ( طبقات رجال النجاشي ) عند ذكر محمد بن الفضيل : ( عن أبي حمزة ، عنه إبراهيم بن هاشم ، كأنه من السادسة ) وعلق : وروايته عن أبي حمزة محل ريب ( 1 ) . ومهما يكن ، فإن تعدد الأسانيد والطرق إلى أبي حمزة ، لم يدع مجالا للبحث السندي في هذا الكتاب ، خصوصا على المنهج المختار من عدم اللجوء إلى المعالجات الرجالية إلا في مواقع استقرار التعارض بعدم المرجحات ، والمفروض هنا عدم وجود ما يعارض مضامين هذه الرواية أصلا . مضافا إلى ما عرفت من أن أمثال هذه المضامين ، الدائرة حول الآداب والحكم ليست بحاجة إلى الأسانيد ، لشهادة الوجدان بما فيها . والأهم من كل ذلك تلقي كبار المحدثين لها بالقبول بإيرادها في كتبهم ، المؤلفة للعمل ، خصوصا كتاب الفقيه الذي وضعه المؤلف على أن يكون حجة بينه وبين الله تقدس ذكره ، وأن جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع ( 2 ) وهذا كاف في تجويز النسبة المعتبرة في الكتب . ‹ صفحة 261 › محتوى المتن : تحتوي الرسالة على ( خمسين حقا ) . وقد جاء التصريح بهذا العدد ، في خاتمة المتن الذي أورده في تحف العقول ، فقال : ( فهذه خمسون حقا محيطا بك ) ( 1 ) والصدوق لم يورد هذه الخاتمة في رواياته ، إلا أنه التزم بكون عدد الحقوق ( خمسين حقا ) في كتابه الخصال حيث عنون للباب الذي أورد الرسالة فيه بأبواب الخمسين فما فوقه ، وذكر الرسالة في أول حديث في الباب ، وقال : الحقوق الخمسون التي كتب بها علي بن الحسين سيد العابدين عليه السلام إلى بعض أصحابه ( 2 ) . وقد التزم أكثر المعاصرين الذين أوردوا متن الرسالة في مطبوعاتهم بترقيم الحقوق ، فزاد بعضهم رقما واحدا فكان العدد ( 51 ) . والسبب في ذلك أن الصدوق ذكر في رواياته ( حق الحج ) وهذا لم يرد في رواية تحف العقول ، فلما جمع المؤلفون بين الروايتين ، اعتقادا بوحدة الرسالة ، زاد عندهم هذا العدد الواحد . ووجود ( حق الحج ) ضروري : 1 - لأنه من فروع الدين الهامة ، ومما بني عليه الإسلام من العبادات الخمس الواجبة ، كما في روايات كثيرة ( 3 ) فلا بد من ذكره ، كما ذكرت بقية العبادات . 2 - أن الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه ، أورد هذه الرسالة في ملحقات كتاب الحج ، ولا ريب في لزوم وجود ارتباط بينها وبين الحج ، ولو بهذا المقدار ، فليلاحظ . ثم إن المؤلفين المعاصرين ارتبكوا كثيرا في ترقيم سائر الحقوق ، فلم يرقموا ما هو ‹ صفحة 262 › حق من جهة ، ورقموا ما ليس بحق من جهة أخرى ، وإليك بيان ذلك : 1 - عد جميع المؤلفين ( حق نفسك ) بالرقم [ 2 ] مع أنه ليس حقا مستقلا ، وإنما المراد منه حق أعضاء نفس الإنسان ، بقرينة قوله - في المقدمة - في جوامع الحقوق : ( [ ب ] ثم ما أوجبه الله عز وجل لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك ، فجعل للسانك . . . ) ( 1 ) وهذا واضح في كون المراد بحق النفس ، حق ما لنفس الإنسان ، أي في جوارحه ، في مقابل قوله بعد ذلك : ( ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك ) ( 2 ) ثم إنه ذكر عند تفصيل حقوق الأعضاء : ما نصه : ( وأما حق نفسك عليك أن تستعملها في طاعة الله : فتؤدي إلى لسانك حقه ) ( 3 ) ، فوجود الفاء في ( فتؤدي ) يقتضي كون ما بعدها تفريعا وتفصيلا لما قبله . ومن الواضح أنه لم يذكر للنفس حقا غير استعمال الجوارح ، فيدل على أن المراد بالنفس ( شخص الإنسان ) لا النفس الناطقة ، فليس المراد وضع حق خاص لها ، دون الجوارح حتى يضاف على حقوقها . والغريب أن طابع ( تحف العقول ) عد هذا الحق برقم [ 2 ] بينما لم يذكر ( حق الحج ) فأخل بالحقين كما سيتضح . 2 - ذكر في مقدمة الرسالة ، في جوامع الحقوق : ( [ ج ] ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقا ) ثم ذكر الواجبات وقال في آخرها : ( ولأفعالك عليك حقا ) ( 4 ) فتكون الحقوق المذكورة ( ستة ) آخرها ( حق الأفعال ) . وقد ذكر في تحف العقول ( حق الأفعال ) بعد [ 13 ] ( حق الهدي ) بقوله : ( واعلم أن الله يراد باليسير ولا يراد بالعسير . . . ) إلى آخره ( 5 ) . ‹ صفحة 263 › فلا بد أن يكون حق الأفعال ، مستقلا ، غير حق الواجبات الخمسة المذكورة أولا ، ويؤيده أن محتواه لا يرتبط بما سبقه بشكل مستقيم ، بل هو أمر عام لها ولغيرها . والظاهر أن المراد بحق الأفعال هو حد العمل الذي يجب على الإنسان القيام به في كل مجال ، حتى في غير الواجبات الخمسة المذكورة أولا ، وهذا أصل عظيم له دور كبير في حياة الإنسان . لكن جميع المؤلفين أهملوا هذا الحق في الترقيم ، كما أن روايات الصدوق لم تورده إطلاقا ، وهو الحق [ 14 ] بترقيمنا . 3 - اعتبر المؤلفون ( حق المملوك ) برقم مستقل [ 21 ] بينما هو داخل في حق الرعية بالملك ، وله موردان : ( الزوجة والمملوك ) وهذا هو ثالث حقوق الرعية : بالسلطان ، وبالعلم ، وبالملك ، وقد صرح في المقدمة - في أصول الحقوق - بعنوان [ ه ] بأن حقوق الرعية ثلاثة . بينما تصير حسب ترقيمهم ، أربعة ! والظاهر أن الموجب لهذا الارتباك هو ملاحظتهم لكلمة ( حق ) وعدهم لها - حيث وقعت - برقم مستقل ، من دون تأمل في المعاني . وقد وفقنا الله لتلافي كل هذا الارتباك فرتبنا النص إلى أصول الحقوق ، وهي السبعة المعلمة برموز من حروف ( أ ، ب ، ج ، د ، ه ، و ، ز ) . وإلى فروع الحقوق ، وهي الخمسون ، مرقمة بالأعداد ، ومطبوعة بالحروف البارزة . وإلى بنود الحقوق ، وهي موادها المذكورة تحت عنوان كل حق ، ذكرنا كل مادة منها في سطر مستقل مبدوءا بشريط في أول السطر : ( - : ) . وبما أن النص الذي أثبتناه هو جامع بين كل الروايات الواردة وملفق منها ، وهي رواية تحف العقول التي اتخذناها أصلا ، وروايات الصدوق . * فقد وضعنا المعقوفين ليحتويا ما ورد في روايات الصدوق زيادة على ما في تحف العقول . * ووضعنا بين القوسين ما اختصت به رواية تحف العقول ، ولم يرد في ‹ صفحة 264 › روايات الصدوق . * وما خرج عن المعقوفين والقوسين ، فهو مشترك بين النصين ووارد في جميع الروايات . * وما أضفناه من العناوين وغيرها ، فقد نبهنا على وجه إضافته . اختلاف النسخ : ثم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 257 › ( 1 ) تحف العقول ( ص 3 ) . ( 2 ) لاحظ مستدرك الوسائل ( 11 / 169 ) . ( 3 ) تحف العقول ( ص 255 ) . ‹ هامش ص 258 › ( 1 ) الخصال ( ص 564 ) رقم ( 1 ) . ( 2 ) الأمالي للصدوق ( ص 302 ) وهو تمام المجلس ( 59 ) في ربيع الآخر سنة ( 368 ) . ( 3 ) رجال النجاشي ( ص 116 ) رقم ( 296 ) . ( 4 ) من لا يحضره الفقيه ( 2 / 376 ) . ‹ هامش ص 259 › ( 1 ) مشيخة الفقيه ( ص 36 ) طبع مع الجزء الرابع من ( من لا يحضره الفقيه ) . ( 2 ) مشيخة الفقيه ( ص 102 ) . ( 3 ) مشيخة الفقيه ( ص 36 ) . ( 4 ) روضة المتقين ( 5 / 500 ) . ( 5 ) مستدرك الوسائل ( 11 / 169 ) ‹ هامش ص 260 › ( 1 ) الموسوعة الرجالية ( 6 ) رجال أسانيد فهرست الشيخ النجاشي ( ص 613 ) السطر الأول . ( 2 ) من لا يحضره الفقيه ( 1 / 3 ) . ‹ هامش ص 261 › ( 1 ) تحف العقول ( ص 272 ) . ( 2 ) الخصال ( ص 564 ) . ( 3 ) راجع وسائل الشيعة ( 1 / 14 - 29 ) الباب الأول ( وجوب العبادات الخمس ) من أبواب مقدمة العبادات . ‹ هامش ص 262 › ( 1 ) لاحظ الرسالة ( ص 271 ) . ( 2 ) لاحظ الرسالة ، المقدمة ( ص 271 ) . ( 3 ) لاحظ الرسالة ( ص 273 ) . ( 4 ) لاحظ الرسالة ( ص 271 ) . ( 5 ) تحف العقول ( ص 255 ) لاحظ الرسالة الحق رقم [ 14 ] . ‹ هامش ص 264 › ( 1 ) مستدرك الوسائل ( 11 / 170 ) . ( 2 ) لاحظ الخلاصة ، رجال العلامة الحلي ( ص 147 ) رقم ( 44 ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 264 - 272 إن من الملاحظ وجود اختلاف بين ما أورده في تحف العقول وبين روايات الصدوق ، من جهة ، وبين رواية الصدوق في بعض كتبه وبين ما أورده في بعضها الآخر ، في عبارات من متن الحديث زيادة وحذفا تارة ، وإجمالا وتفصيلا أخرى . ووقوع مثل هذا الاختلاف في الأحاديث الطوال أمر غير عزيز ، يعود ذلك أساسا إلى اعتماد الرواة على النقل بالمعنى ، لأن أمثال هذه الروايات تهدف إلى إبلاغ معانيها ، وأداء مضامينها ، ولا يدخل في القصد منها ما يوجب المحافظة على ألفاظها بنصوصها ، وليست كما هو المفروض في الكلمات القصار ، والخطب البلاغية المبتنية على إعمال الصناعات اللفظية والمحسنات البديعية المؤثرة في نفوس السامعين إلى جانب المعاني والمؤديات . ومن المحتمل أيضا أن يلجأ بعض الرواة إلى الاختصار لأمثال هذه الأحاديث الطوال ، والاقتصار على الجمل المهمة فقط . وقد حمل بعض المتأخرين الشيخ الصدوق مسؤولية القيام بالاختصار ، قائلا : ( إنه يختصر الخبر الطويل ، ويسقط منه ما أدى نظره إلى إسقاطه ) ( 1 ) . لكن هذا تحامل على الشيخ الصدوق المعترف له بكثرة النقل للأخبار والحفظ والمعرفة بالحديث والرجال والآثار ( 2 ) . ومع احتمال النقل بالمعنى كما ذكرناه ، لم تصل النوبة إلى احتمال الاختصار أصلا . مع أن أصل الاختصار أمر جائز لا مانع منه ، إذ هو عبارة عن تقطيع الحديث ، المعمول به ، والمقبول من دون نزاع ، لتعلق غرض المحدث ببعض الحديث ‹ صفحة 265 › فيقتصر عليه . مضافا إلى أنه لا دليل على نسبة الاختصار - المفروض - إلى الشيخ الصدوق . فمن المحتمل - قويا - أن يكون بعض الرواة السابقين على الصدوق ، قد اختصر النص ، ورووه له مختصرا . ويشهد لهذا الاحتمال : أن روايات الصدوق في كتبه المختلفة هي في نفسها متفاوتة . مع أن الأصل هو رواية اللفظ . إلا أن المقارنة بين النصين تعطي اطمئنانا بأن الرواة مع اختصارهم للنص ، عمدوا إلى نقل مقاطع بطريق رواية المعنى ، فالنصان لا يختلفان في المعنى عند اختلافهما في اللفظ ، وعند اتفاقهما في اللفظ فالاختصار ملحوظ . وأما وحدة النص الصادر من الإمام عليه السلام ، فالدليل عليه أمران : الأول : الاستبعاد الواضح في أن توجه رسالة بنصين مختلفين إلى شخص معين ، ويرويهما راو واحد ، من دون ذكر التفاوت بينهما . الثاني : تطابق أكثر عبارات النصين لفظا من دون أدنى تفاوت مما يدل على وجود أصل مشترك بينهما ، وعلى أخذ المختصر من المفصل . النص المختار : ومهما يكن ، فإنا تمكنا بالمقارنة الدقيقة بين النصين من انتخاب نص جامع ، بالتلفيق بينهما ، بحيث لا يشذ عنه شئ من عبارتيهما ، ولا كلمة واحدة مؤثرة في المعنى . وبما أن نص ( تحف العقول ) هو أوفى ، وأجمع ، وأسبك ، وأكثر تفصيلا فقد جعلناه ( الأصل ) وأوعزنا إلى ما في روايات الصدوق من الفوائد والزوائد ، بما لا يفوت معه شئ مما له دخل في جميع أبعاد النص . وقد أشرنا إلى الرموز المستعملة في عملنا سابقا . ولم نشر إلى الأخطاء الواضحة ، ولا الاختلافات المرجوحة ، تخفيفا للهوامش . نسخ الرسالة : لقد تداول الأعلام هذه الرسالة القيمة بالرعاية والعناية ، وتناقلوها على طولها في ‹ صفحة 266 › مؤلفاتهم ، فقد وردت في الكتب التالية مخطوطها ومطبوعها ، كما نشرت مستقلة أيضا ، وإليك ما وقفنا عليه من طبعاتها : 1 - كتاب من لا يحضره الفقيه ، للشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين ( ت 381 ) وقد أوردها في نهاية كتاب الحج ، بعنوان ( باب الحقوق ) فلاحظ ( ج 2 ص 371 - 381 ) من طبعة النجف . 2 - روضة المتقين شرح الفقيه ، للمحدث المولى محمد تقي المجلسي الأول ( ت 1070 ) في ( ج 5 ص 500 - 527 ) مشروحة . 3 - الخصال ، للشيخ الصدوق ، في أبواب الخمسين فما فوقه ( 564 - 570 ) . 4 - الأمالي ، للشيخ الصدوق ، في المجلس ( 59 ) ( ص 301 - 306 ) . 5 - تحف العقول ، لابن شعبة الحراني ( ق 4 ) ( ص 255 - 272 ) . 6 - مكارم الأخلاق ، للطبرسي صاحب مجمع البيان ( ق 6 ) ( ص 455 ) . 7 - بحار الأنوار ، للعلامة المجلسي محمد باقر بن محمد تقي ( ت 1110 ) في الجز ( 74 ) . 8 - عوالم العلوم والمعارف ، للشيخ عبد الله البحراني ( ق 12 ) في الجز ( 18 ) . 9 - مستدرك الوسائل ، للمحدث النوري حسين بن محمد تقي ( ت 1320 ) في ( 2 / 274 ) من الطبعة الأولى و ( 11 / 154 ) من الطبعة الحديثة . 10 - أعيان الشيعة ، للإمام السيد محسن الأمين العاملي ( ج 4 ص 215 - 230 ) . 11 - بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ، للشيخ جعفر عباس الحائري ( المعاصر ) ( ص 130 - 163 ) . 12 - الإمام زين العابدين عليه السلام للسيد عبد الرزاق المقرم الموسوي ( ت 1391 ه ) ( ص 118 - 135 ) . 13 - حياة الإمام زين العابدين عليه السلام للشيخ باقر شريف القرشي ( المعاصر ) ( ص 477 - 511 ) . 14 - شرح رسالة الحقوق ، للخطيب السيد حسن القبانچي الحسيني فقد شرح الرسالة في مجلدين ، طبعا في النجف ، وأعيدا في قم ( 1406 ) وبيروت . ‹ صفحة 267 › 15 - وتنسب إلى الإمام زيد الشهيد باسم ( الرسالة الناصحة والحقوق الواضحة ) وتشبه أن تكون مختصرة من رسالة الحقوق المروية عن والده الإمام زين العابدين عليه السلام كما جاء في مؤلفات الزيدية ( 2 / 44 ) رقم ( 1608 ) لصديقنا العلامة السيد أحمد الحسيني . وذكر صديقنا الكاتب المعجمي الشيخ عبد الجبار الرفاعي كتاب الحقوق للإمام زيد بن علي ، في كتابه : معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام ( ج 8 ص 181 ) برقم ( 20453 ) وقال : مخطوط في الجامع الكبير في صنعاء برقم 2364 . كما ذكرها في هذا الجزء بعنوان ( رسالة الحقوق ) برقم ( 20491 ) وأورد طبعاتها ، ومنها : بغداد 1369 هج ( 179 ص ) تحقيق عبد الهادي المختار ، سلسلة حديث الشهر ( 6 ) . والأعمال المؤلفة حول ( رسالة الحقوق ) ضمن ما أورده الشيخ الرفاعي مما كتب عن الإمام السجاد عليه السلام في هذا المجلد هي بالأرقام : * 20372 : رسالة إمام زين العابدين ( بالاردو ) . * 20399 رسالة حقوق إخوان ( ترجمة فارسية ) . * 20400 : رسالة حقوق ( ترجمة فارسية ) . * 20489 : رسالة الحقوق ( ترجمة فارسية ) . * 20490 : رسالة الحقوق ( بالاردو ) . * 20742 : النهجين في شرح رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين عليه السلام ، للشيخ صالح بن مهدي الساعدي . . . سندنا إلى رواية الرسالة : لقد من الله على الأمة الإسلامية ببذل الجهد والعناية في حفظ التراث الإسلامي ، وخصوص الحديث الشريف ، بالمراقبة التامة عليه ، وتحمله بكل دقة وأدائه بكل احتياط ، وقد وفقنا الله تعالى للسلوك في السلسلة الشريفة لرواة الحديث بطريقة الإجازة المتداولة بين الأعلام والمتعارف عليها بين علماء الإسلام ، وبذلك تتصل ‹ صفحة 268 › = = بطرق مشايخنا الكرام إلى رواية هذه الرسالة . فأروي عن مشايخي الكرام وهم عدة ممن لقيتهم من المشايخ ، وأولهم وأعلاهم سندا شيخ مشايخ الحديث في القرن الرابع عشر الإمام الشيخ آقا بزرك الطهراني ( 1293 - 1389 ) وآخرهم سيد مشايخ العصر الحجة النسابة السيد شهاب الدين الحسيني المرعشي ( 1315 - 1411 ) بطرقهما المتصلة بالعنعنة المقدسة ، إلى ابن طاوس ، وابن شعبة ، والنجاشي ، والصدوق ، والكليني ، أئمة الحديث الذين أثبتوا هذه الرسالة في مؤلفاتهم ، بأسانيدهم التي أثبتناها سابقا . وقد فصلنا ذكر الطرق والمشايخ إلى المؤلفات والأصول والكتب في ثبتنا الكبير ( ثبت الأسانيد العوالي من مرويات الجلالي ) والحمد لله على توفيقه . وبعد : فإن ما نقدمه اليوم هو أوثق ما طبع حتى الآن لهذه الرسالة من النصوص - سواء ما جاء ضمن المؤلفات أم ما طبع مستقلا ؟ - بالنسبة إلى المقارنة الدقيقة بين جميع النسخ والمرويات ، وإلى انتخاب النص الموحد الجامع لكل ما جاء فيها ، وإلى إخراجه وتنظيمه وترقيمه . وأملنا أن نكون بتقديمه ، قد أدينا بعض ما يجب علينا تجاه التراث الإسلامي العزيز ، من واجبات التحمل والصيانة ، والضبط والتحقيق ، والأداء والتبليغ . والحمد لله على نعمه المتواترة ، حمدا كما هو أهله وكما يحب أن يحمد ، ونصلي ونسلم على سيدنا رسول الله محمد ، وعلى الأئمة الأطهار من آله الأخيار أولي العدل والفضل والمجد . حرر في السابع عشر من ربيع المولود عام 1417 ه . وكتب السيد محمد رضا الحسيني الجلالي ‹ صفحة 269 › وهذه مشجرة الأسانيد ، ويظهر منها مدى الارتباط بينها ، وقرب الإسناد وبعده في كل منها ، ومدى أخذ بعض المصادر من الآخر . * * * إطبع المشجرة بالإسكنر ملاحظة : الخطوط المنقوطة تدل على أن السند مستخرج ولم نجده في ثبت أو مصدر ، وتبدأ الأسانيد من الأسفل إلى الأعلى . |
رسالة الحقوق بسم الله الرحمن الرحيم [ المقدمة ] إعلم - رحمك الله - أن لله عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها [ أو حال حلتها ] أو منزلة نزلتها أو جارحة قلبتها أو آلة تصرفت بها ( بعضها أكبر من بعض ) : [ ا ] فأكبر حقوق الله عليك : ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من [ 1 ] حقه الذي هو أصل الحقوق ( ومنه تفرع ) . [ ب ] ثم ما أوجبه الله عز وجل لنفسك ، من قرنك إلى قدمك ، على اختلاف جوارحك : فجعل [ 2 ] للسانك عليك حقا ( 1 ) و [ 3 ] لسمعك عليك حقا ، و [ 4 ] لبصرك عليك حقا ، و [ 5 ] ليدك عليك حقا ، و [ 6 ] لرجلك عليك حقا ، و [ 7 ] لبطنك عليك حقا ، و [ 8 ] لفرجك عليك حقا . فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال . [ ج ] ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقا : فجعل [ 9 ] لصلاتك عليك حقا ، و [ 10 ] لحجك عليك حقا ( 2 ) ، و [ 11 ] لصومك عليك حقا ، و [ 12 ] لصدقتك عليك حقا ، و [ 13 ] لهديك عليك حقا ، و [ 14 ] لأفعالك عليك حقا . ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك ، من ذوي الحقوق الواجبة عليك ، وأوجبها ‹ صفحة 272 › عليك : [ د ] حقوق أئمتك ، ثم [ ه ] حقوق رعيتك ، ثم [ و ] حقوق رحمك ، فهذه حقوق يتشعب منها حقوق . [ د ] فحقوق أئمتك ثلاثة : أوج
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 264 › ( 1 ) مستدرك الوسائل ( 11 / 170 ) . ( 2 ) لاحظ الخلاصة ، رجال العلامة الحلي ( ص 147 ) رقم ( 44 ) . ‹ هامش ص 271 › ( 1 ) في التحف ، أخر ذكر اللسان عن السمع والبصر ، هنا ، لكنه قدمه عليهما في ذكر تفصيل الحقوق ، فكان ما أثبتناه هنا أنسب . ( 2 ) الحق رقم [ 10 ] لم يذكر في رواية التحف ، لا هنا ولا في تفصيل الحقوق ، وإنما ورد في روايات الصدوق ، فقط ، فلاحظ ما ذكرناه عند التفصيل عن الحق [ 10 ] . ‹ هامش ص 272 › ( 1 ) في غير التحف : الأولى فالأولى . ( 2 ) ما بين المعقوفين هنا زيادة منا ، لتحديد عناوين أصول الحقوق السبعة ، والمعبر عنها ب ( الحقوق الجارية . . . ) في آخر هذه المقدمة ، فلاحظ . ( 3 ) أضاف في النسخ هنا : ( ثم حق غريمك الذي تطالبه ) وهذا غير مذكور في تفاصيل الحقوق ، لا في الصدوق ولا التحف ، وبدونه تتم الحقوق : خمسين حقا ، فالظاهر كونه زائدا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 272 - 280 ها عليك [ 15 ] حق سائسك بالسلطان ، ثم [ 16 ] حق سائسك بالعلم ، ثم [ 17 ] حق سائسك بالملك . وكل سائس إمام . [ ه ] وحقوق رعيتك ثلاثة : أوجبها عليك [ 18 ] حق رعيتك بالسلطان ، ثم [ 19 ] حق رعيتك بالعلم ، فإن الجاهل رعية العالم ، ثم [ 20 ] حق رعيتك بالملك : من الأزواج وما ملكت الأيمان . [ و ] وحقوق رحمك كثيرة ، متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة فأوجبها عليك [ 21 ] حق أمك ، ثم [ 22 ] حق أبيك ، ثم [ 23 ] حق ولدك ، ثم [ 24 ] حق أخيك ، ثم الأقرب فالأقرب ، والأول فالأول ( 1 ) . [ ز ] ثم [ حقوق الآخرين ] ( 2 ) : [ 25 ] حق مولاك المنعم عليك ، ثم [ 26 ] حق مولاك الجارية نعمتك عليه ، ثم [ 27 ] حق ذي المعروف لديك ، ثم [ 28 ] حق مؤذنك لصلاتك ، ثم [ 29 ] حق إمامك في صلاتك ، ثم [ 30 ] حق جليسك ، ثم [ 31 ] حق جارك ، ثم [ 32 ] حق صاحبك ، ثم [ 33 ] حق شريكك ، ثم [ 34 ] حق مالك ، ثم [ 35 ] حق غريمك الذي يطالبك ( 3 ) ، ثم [ 36 ] حق خليطك ، ثم [ 37 ] حق خصمك المدعي عليك ، ثم [ 38 ] حق خصمك الذي تدعي عليه ، ثم [ 39 ] حق مستشيرك ، ثم [ 40 ] حق المشير عليك ، ثم [ 41 ] حق مستنصحك ، ثم [ 42 ] حق الناصح لك ، ثم [ 43 ] حق من هو أكبر منك ، ثم [ 44 ] حق من هو أصغر منك ، ثم [ 45 ] حق سائلك ، ثم [ 46 ] حق من سألته ، ثم [ 47 ] حق ‹ صفحة 273 › من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل ، عن تعمد منه أو غير تعمد [ ثم [ 48 ] حق من جرى على يديه مسرة من قول أو فعل ] ( 1 ) ثم [ 49 ] حق أهل ملتك عامة ، ثم [ 50 ] حق أهل ذمتك . ثم ( 2 ) الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال وتصرف الأسباب . فطوبى لمن أعانه الله على قضاء ما أوجب عليه من حقوقه ، ووفقه لذلك وسدده ( 3 ) . [ ا - حق الله ] ( 4 ) [ 1 ] فأما حق الله الأكبر عليك : - فإن تعبده لا تشرك به شيئا ، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة ( ويحفظ لك ما تحب منها ) . [ ب - حقوق الأعضاء ] ( 5 ) وأما حق نفسك ( 6 ) عليك : أن تستعملها ( 7 ) في طاعة الله : ( فتؤدي إلى لسانك حقه ، وإلى سمعك حقه ، وإلى بصرك حقه ، وإلى يدك حقها ، وإلى رجلك حقها ، وإلى بطنك حقه ، وإلى فرجك حقه ، وتستعين بالله على ذلك ) : ‹ صفحة 274 › [ 2 ] وأما حق اللسان : - فإكرامه عن الخنى . - وتعويده على الخير [ والبر بالناس ، وحسن القول فيهم ] . ( - وحمله على الأدب - وإجمامه إلا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا . - وإعفاؤه عن الفضول الشنيعة ، القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلة فائدتها . ( 8 ) - ويعد شاهد العقل ، والدليل عليه ، وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه . ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) ( 9 ) [ 3 ] وأما حق السمع : - فتنزيهه عن أن تجعله طريقا إلى قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيرا ، أو تكسب خلقا كريما ، فإنه باب الكلام إلى القلب ، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر . ولا قوة إلا بالله ( 10 ) ‹ صفحة 275 › [ 4 ] وأما حق بصرك : - فغضه عما لا يحل لك . ( - وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل بها بصرا ، أو تستفيد بها علما ، فإن البصر باب الاعتبار ) ( 1 ) [ 5 ] وأما حق يدك : - فأن لا تبسطها إلى ما لا يحل لك ( فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل ، ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل . - ولا تقبضها عما افترض الله عليها . ولكن توقرها : بقبضها عن كثير مما يحل لها ، وبسطها إلى كثير مما ليس عليها ، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل وجب لها حسن الثواب من الله في الآجل ) ( 2 ) . [ 6 ] وأما حق رجلك ( 3 ) : - أن لا تمشي بها إلى ما لا يحل لك . [ فبها تقف على الصراط ، فانظر أن لا تزل بك فتردى في النار ] ( - ولا تجعلها مطيتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها ، فإنها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين ، والسبق لك . ولا قوة إلا بالله ) . [ 7 ] وأما حق بطنك : - فأن لا تجعله وعاءا ( لقليل من ) الحرام ( ولا لكثير . - وأن تقتصد له في الحلال ، ولا تخرجه من حد التقوية إلى حد التهوين ، ‹ صفحة 276 › وذهاب المروءة . - وضبطه إذا هم ، بالجوع والعطش ( 1 ) . - [ ولا تزيد على الشبع ] فإن الشبع المنتهي بصاحبه إلى التخم مكسلة ومثبطة ومقطعة عن كل بر وكرم ، وإن الري المنتهي بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروءة ) . [ 8 ] وأما حق فرجك : - ( فحفظه مما لا يحل لك [ أن تحصنه عن الزنا ، وتحفظه من أن ينظر إليه ] - والاستعانة عليه بغض البصر ، فإنه من أعون الأعوان ، وكثرة ذكر الموت ، والتهدد لنفسك بالله والتخويف لها به . وبالله العصمة والتأييد ، ولا حول ولا قوة إلا به ) . [ ج ] ثم حقوق الأفعال ( 2 ) [ 9 ] فأما حق الصلاة : - فأن تعلم أنها وفادة إلى الله ، وأنك قائم بها بين يدي الله ، فإذا علمت ذلك كنت خليقا أن تقوم فيها مقام العبد ، الذليل [ الحقير ] ، الراغب ، الراهب ، الخائف ، الراجي ، المسكين ، المتضرع ، المعظم من قام بين يديه بالسكون والإطراق ( 3 ) ( وخشوع الأطراف ، ولين الجناح ، وحسن المناجاة له في نفسه . والطلب إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت بها خطيئتك ، واستهلكتها ذنوبك ) . - [ وتقبل عليها بقلبك . - وتقيمها بحدودها وحقوقها ] . ولا قوة إلا بالله . ‹ صفحة 277 › [ 10 ] [ وحق الحج : - أن تعلم أنه وفادة إلى ربك ، وفرار إليه من ذنوبك ، وفيه قبول توبتك ، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك ] ( 1 ) [ 11 ] وأما حق الصوم : فأن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ، ليسترك به من النار [ فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك ] . ( وهكذا جاء في الحديث : ( الصوم جنة من النار ) فإن سكنت أطرافك في حجبتها رجوت أن تكون محجوبا ، وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها ، وترفع جنبات الحجاب فتطلع إلى ما ليس لها ، بالنظرة الداعية للشهوة ، والقوة الخارجة عن حد التقية لله ، لم تأمن أن تخرق الحجاب وتخرج منه . ولا قوة إلا بالله ) [ 12 ] وأما حق الصدقة : - فأن تعلم أنها ذخرك عند ربك ، ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد [ عليها ] ( فإذا علمت ذلك ) كنت بما استودعته سرا أوثق [ منك ] بما استودعته علانية ( وكنت جديرا أن تكون أسررت إليه أمرا أعلنته ، وكان الأمر بينك وبينه فيها سرا على كل حال ، ولم تستظهر عليه في ما استودعته منها بإشهاد الأسماع والأبصار عليه بها كأنك أوثق في نفسك لا كأنك لا تثق به في تأدية وديعتك إليك . - [ وتعلم أنها تدفع البلايا والأسقام عنك في الدنيا ، وتدفع عنك النار في الآخرة ] - ثم لم تمتن بها على أحد ، لأنها لك ، فإذا امتننت بها لم تأمن أن تكون بها مثل تهجين حالك منها إلى من مننت بها عليه ، لأن في ذلك دليلا على أنك لم ترد نفسك بها ، ولو أردت نفسك بها لم تمتن بها على أحد . ‹ صفحة 278 › ولا قوة إلا بالله ) [ 13 ] وأما حق الهدي : - فأن تخلص بها الإرادة إلى ربك ، والتعرض لرحمته وقبوله ، ولا تريد عيون الناظرين دونه ، فإذا كنت كذلك لم تكن متكلفا ولا متصنعا ، وكنت إنما تقصد إلى الله ( 1 ) [ 14 وأما حق عامة الأفعال ] ( 2 ) - واعلم أن الله يراد باليسير ، ولا يراد بالعسير ، كما أراد بخلقه التيسير ولم يرد بهم التعسير . - وكذلك التذلل أولى بك من التدهقن ، لأن الكلفة والمؤونة في المتدهقنين ، فأما التذلل والتمسكن فلا كلفة فيهما ، ولا مؤونة عليهما ، لأنهما الخلقة ، وهما موجودان في الطبيعة . ولا قوة إلا بالله . [ د ] ( ثم حقوق الأئمة ) ( 3 ) [ 15 ] فأما حق سائسك بالسلطان : - فأن تعلم أنك جعلت له فتنة ، وأنه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان . ( - وأن تخلص له في النصيحة . - وأن لا تماحكه ، وقد بسطت يده عليك ، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه . ‹ صفحة 279 › - وتذلل وتلطف لإعطائه من الرضا ما يكفه عنك ولا يضر بدينك ، وتستعين عليه في ذلك بالله . - ولا تعازه ، ولا تعانده ، فإنك إن فعلت ذلك عققته ، وعققت نفسك ، فعرضتها لمكروهه ، وعرضته للهلكة فيك ، وكنت خليقا أن تكون معينا له عليه نفسك ) ( 1 ) وشريكا له في ما أتى إليك [ من سوء ] . ولا قوة إلا بالله . [ 16 ] وأما حق سائسك بالعلم : - فالتعظيم له . - والتوقير لمجلسه . - وحسن الاستماع إليه ، والإقبال عليه . ( - والمعونة له على نفسك في ما لا غنى بك عنه من العلم ، بأن تفرغ له عقلك ، وتحضره فهمك ، وتزكي له قلبك ، وتجلي له بصرك : بترك اللذات ، ونقص الشهوات . - وأن تعلم أنك - في ما ألقى إليك - رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل ، فلزمك حسن التأدية عنه إليهم ، ولا تخنه في تأدية رسالته ، والقيام بها عنه إذا تقلدتها ) . [ - وأن لا ترفع عليه صوتك . - وأن لا تجيب أحدا يسأله عن شئ حتى يكون هو الذي يجيب . - ولا تحدث في مجلسه أحدا . - ولا تغتاب عنده أحدا . - وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء . - وأن تستر عيوبه . - وتظهر مناقبه . - ولا تجالس له عدوا . - ولا تعادي له وليا . ‹ صفحة 280 › فإذا فعلت ذلك شهدت ملائكة الله عز وجل بأنك قصدته وتعلمت علمه لله جل وعز اسمه ، لا للناس ] ( 1 ) . ولا حول ولا قوة إلا بالله . [ 17 ] وأما حق سائسك بالملك : - فنحو من سائسك بالسلطان ، إلا أن هذا يملك ما لا يملكه ذاك ، تلزمك طاعته في ما دق وجل منك إلا أن تخرجك من وجوب حق الله ، فإن حق الله يحول بينك وبين حقه وحقوق الخلق ، فإذا قضيته رجعت إلى حقه فتشاغلت به . ولا قوة إلا بالله ( 2 ) [ ه ] ( ثم حقوق الرعية ) [ 18 ] فأما حق رعيتك بالسلطان : ( - فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم ، فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم ، وذلهم ، فما أولى من كفاكه ضعفه وذله - حتى صيره لك رعية ، وصير حكمك عليه نافذا ، لا يمتنع عنك بعزة ولا قوة ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلا بالله - بالرحمة والحياطة والأناة ! ) ( 3 ) [ - فيجب أن تعدل فيهم ، وتكون لهم كالوالد الرحيم . ] - وتغفر لهم جهلهم . - ولا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 272 › ( 1 ) في غير التحف : الأولى فالأولى . ( 2 ) ما بين المعقوفين هنا زيادة منا ، لتحديد عناوين أصول الحقوق السبعة ، والمعبر عنها ب ( الحقوق الجارية . . . ) في آخر هذه المقدمة ، فلاحظ . ( 3 ) أضاف في النسخ هنا : ( ثم حق غريمك الذي تطالبه ) وهذا غير مذكور في تفاصيل الحقوق ، لا في الصدوق ولا التحف ، وبدونه تتم الحقوق : خمسين حقا ، فالظاهر كونه زائدا . ‹ هامش ص 273 › ( 1 ) هذا الحق مذكور في المتن في النصين ، لكنه لم يذكر هنا في مقدمة الصدوق في الخصال . ( 2 ) كذا جاءت كلمة ( ثم ) هنا في الروايات والنسخ كلها وأظنها مصحفة عن ( هي ) إشارة إلى جميع الحقوق المذكورة في [ ز ] ويؤيد هذا ، أن الرسالة - في كل نسخها - تنتهي عند ذكر ( حق أهل الذمة ) ولم يذكر فيها عن حقوق أخرى أي شئ ، فليلاحظ . ( 3 ) هذه المقدمة لم يوردها الصدوق في الفقيه ولا الأمالي ، وإنما أوردها في الخصال كما في التحف . ( 4 - 5 ) ما بين المعقوفين أضفنا لتوحيد النسق مع العناوين التالية المثبتة في أصل التحف . ( 6 ) اعتبر كثير من الذين طبعوا رسالة الحقوق في عصرنا ( حق النفس ) حقا منفصلا وأعطوه رقما مستقلا ، فأدى بهم ذلك إلى زيادة عدد الحقوق إلى ( 51 ) بينما هي ( خمسون ) قطعا كما عرفت في المقدمة ، مع أن هذا هو عنوان جامع لما تحته من ( حقوق الأعضاء ) كما سجلنا فلاحظ ، وقد عدها في تحف العقول المطبوع مستقلا بينما لم يورد ( حق الحج ) الآتي برقم [ 11 ] وسيأتي أن من الضروري إيراده . ( 7 ) في نسخة : تستوفيها . ‹ هامش ص 274 › ( 8 ) في روايات الصدوق : وترك الفضول التي لا فائدة فيها . ( 9 ) روى الكليني بسنده عن إبراهيم بن مهزم الأسدي عن أبي حمزة [ الثمالي ] عن علي بن الحسين عليه السلام قال : إن لسان بني آدم يشرف على جميع جوارحه ، فيقول : كيف أصبحتم ؟ فيقولون : بخير ، إن تركتنا . ويقولون : الله ، الله فينا . ويناشدونه ويقولون : إنما نثاب [ بك ] ونعاقب بك . الكافي ( 2 / 115 ) كتاب الإيمان والكفر ، باب الصمت وحفظ اللسان ، ورواه في الاختصاص المنسوب إلى المفيد ( ص 230 ) وما بين المعقوفات منه . ( 10 ) في الصدوق : فتنزيهه عن سماع الغيبة ، وسماع ما لا يحل سماعه . ‹ هامش ص 275 › ( 1 ) في الصدوق - بدل ما بين القوسين - : وتعتبر بالنظر به . ( 2 ) ما بين القوسين ليس في روايات الصدوق . ( 3 ) في أكثر النسخ ( رجليك ) مع تثنية الضمائر العائدة إليها في الفقرة الأولى . وقد أفردنا الجميع لوروده في نسخ أخرى ، كما أنه الأنسب بسائر الفقر . ‹ هامش ص 276 › ( 1 ) في نسخة التحف : والظمأ . ( 2 ) هذا العنوان لم يرد في الصدوق . ( 3 ) في الصدوق : والوقار ، بدل ( والإطراق ) . ‹ هامش ص 277 › ( 1 ) حق الحج هذا لم يرد في تحف العقول ، ووجوده ضروري ، كما شرحنا في المقدمة . ‹ هامش ص 278 › ( 1 ) في الصدوق : وحق الهدي : أن تريد به الله عز وجل ، ولا تريد خلقه ، ولا تريد به إلا التعرض لرحمة الله عز وجل ونجاة روحك يوم تلقاه . ( 2 ) هذا العنوان من وضعنا ، وقد أوضحنا أن عد هذا الحق ضروري ، لقوله في مقدمة الرسالة بعد حق الهدي : ( ولأفعالك عليك حقا ) وقد شرحنا ذلك في المقدمة ، وذكرنا أن المؤلفين لم يرقموا هذا الحق ، وهو ساقط من روايات الصدوق بالكلية . ( 3 ) العنوان الأصلي لم يرد في الصدوق ، وكذا جميع العناوين الأصلية التالية . ‹ هامش ص 279 › ( 1 ) في الصدوق بدل ما بين القوسين قوله : وأن عليك أن لا تتعرض لسخطه ، فتلقي بيدك إلى التهلكة ، وتكون شريكا له في ما يأتي إليك من سوء . ‹ هامش ص 280 › ( 1 ) ما بين المعقوفين ورد في الصدوق ، وأكثر المذكورات من حقوق المعلم مذكور في حديث مسند إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، لاحظ آداب المتعلمين ( ص 74 - 77 ) الفقرة [ 21 ] . ( 2 ) في الصدوق بدل هذا الحق : فأن تطيعه ، ولا تعصيه ، إلا في ما يسخط الله عز وجل ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ( 3 ) في الصدوق : فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 280 - 289 تعاجلهم بالعقوبة ] ( وما أولاك - إذا عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزة والقوة التي قهرت بها - أن تكون لله شاكرا ! [ وتشكر الله عز وجل على ما آتاك من القوة عليهم ] ومن شكر الله أعطاه في ما أنعم عليه . ‹ صفحة 281 › ولا قوة إلا بالله ) . [ 19 ] وأما حق رعيتك بالعلم : - فأن تعلم أن الله قد جعلك قيما لهم في ما آتاك من العلم ، وولاك ( 1 ) من خزانة الحكمة . فإن أحسنت في [ تعليم الناس ] ( ما ولاك الله من ذلك ، [ ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم ] وقمت لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبيده ، الصابر المحتسب الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه [ زادك الله من فضله ] كنت راشدا ، وكنت لذلك آملا معتقدا . وإلا ( 2 ) كنت له خائنا ، ولخلقه ظالما ، ولسلبه وغره متعرضا ) [ كان حقا على الله عز وجل أن يسلبك العلم ، وبهاءه ، ويسقط من القلوب محلك ] . [ 20 وأما حق رعيتك بالملك ] ( 3 ) وأما حق رعيتك بملك النكاح ( 4 ) - فأن تعلم أن الله جعلها لك سكنا ( ومستراحا ) وأنسا ( وواقية . - وكذلك كل واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه ) ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه ( ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ) . - فتكرمها وترفق بها . - وإن كان حقك عليها أوجب ( 5 ) ( وطاعتك لها ألزم في ما أحببت وكرهت ، ما لم تكن معصية ) فإن لها [ عليك ] حق الرحمة والمؤانسة ) [ أن ترحمها ، لأنها أسيرك . - وتطعمها ، وتسقيها ، وتكسوها . - فإذا جهلت عفوت عنها ] ‹ صفحة 282 › ( - وموضع السكون إليها قضاء اللذة التي لا بد من قضائها ، وذلك عظيم . ولا قوة إلا بالله ) . وأما حق رعيتك بملك اليمين ( 1 ) : - فأن تعلم أنه خلق ربك [ وابن أبيك وأمك ] ولحمك ودمك ، وأنك تملكه ، لا أنت صنعته دون الله ، ولا خلقت له سمعا ولا بصرا ، ولا أجريت له رزقا ( 2 ) ، ولكن الله كفاك ذلك ، ثم سخره لك ، وائتمنك عليه ، واستودعك إياه ( لتحفظه فيه ، وتسير فيه بسيرته ، فتطعمه مما تأكل ، وتلبسه مما تلبس ، ولا تكلفه ما لا يطيق ) ( 3 ) - فإن كرهته ( خرجت إلى الله منه و ) استبدلت به ، ولم تعذب خلق الله عز وجل . ولا قوة إلا بالله . [ و ] ( وأما حق الرحم ) [ 21 ] فحق أمك : - أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحدا ، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحدا ، وأنها وقتك ب ( سمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها ) و ) جميع جوارحها ( مستبشرة بذلك فرحة ، موابلة محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمها ، حتى دفعتها عنك يد القدرة ، وأخرجتك إلى الأرض . - فرضيت أن تشبع , وتجوع هي ( 4 ) ، وتكسوك وتعرى ، وترويك وتظمأ ، وتظلك وتضحى ، وتنعمك ببؤسها ، وتلذذك بالنوم بأرقها ، ( وكان بطنها لك وعاءا ، وحجرها لك حواءا ، وثديها لك سقاءا ، ونفسها لك وقاءا ) تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك ‹ صفحة 283 › - ( فتشكرها على قدر ذلك ) : [ فإنك لا تطيق شكرها ] ( ولا تقدر عليه ) إلا بعون الله وتوفيقه . [ 22 ] وأما حق أبيك : - فتعلم أنه أصلك ، ( وأنك فرعه ) وأنك لولاه لم تكن ، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه . - فأحمد الله واشكره على قدر ذلك . ولا قوة إلا بالله . [ 23 ] وأما حق ولدك : - فتعلم أنه منك ، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره . - وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب ، والدلالة على ربه ، والمعونة له على طاعته ( فيك وفي نفسه ، فمثاب على ذلك ومعاقب ) . - فاعمل في أمره عمل [ من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه ، معاقب على الإساءة إليه ] ( المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا المعذر إلى ربه في ما بينك وبينه بحسن القيام عليه ، والأخذ له منه . ولا قوة إلا بالله ) . [ 24 ] وأما حق أخيك - فأن تعلم أنه يدك التي تبسطها ، وظهرك الذي تلتجئ إليه ، وعزك الذي تعتمد عليه ، وقوتك التي تصول بها ( 1 ) - فلا تتخذه سلاحا على معصية الله . - ولا عدة للظلم لخلق الله ( 2 ) - ولا تدع نصرته على ( نفسه ، ومعونته على ) عدوه ( والحؤول بينه وبين شياطينه ) و ( تأدية ) النصيحة إليه ، ( والإقبال عليه في الله ) . ‹ صفحة 284 › - فإن انقاد لربه وأحسن الإجابة له ، ( 1 ) وإلا فليكن الله ( آثر عندك و ) أكرم عليك منه . ولا قوة إلا بالله . [ ز - حقوق الآخرين ] [ 25 ] وأما حق المنعم عليك بالولاء : فأن تعلم أنه أنفق فيك ماله ، وأخرجك من ذل الرق ووحشته إلى عز الحرية وأنسها ، وأطلقك من أسر الملكة ، وفك عنك قيد ( 2 ) العبودية ( وأوجدك رائحة العز ) وأخرجك من سجن القهر ( 3 ) ( ودفع عنك العسر ، وبسط لك لسان الإنصاف ، وأباحك الدنيا كلها ) فملكك نفسك ، ( وحل أسرك ) وفرغك لعبادة ربك ( واحتمل بذلك التقصير في ماله ) - فتعلم أنه أولى الخلق بك ( بعد أولي رحمك ) في حياتك وموتك ، وأحق الخلق بنصرك ( 4 ) ( ومعونتك ، ومكانفتك في ذات الله ، فلا تؤثر عليه نفسك ) ما احتاج إليك . [ 26 ] وأما حق مولاك الجارية عليه نعمتك : - فأن تعلم أن الله جعلك حامية عليه ، وواقية ، وناصرا ، ومعقلا ، وجعله لك وسيلة وسببا بينك وبينه ، فبالحري أن يحجبك عن النار ، فيكون ذلك ثوابك منه في الآجل . - ويحكم لك بميراثه في العاجل - إذا لم يكن له رحم - مكافأة لما أنفقته من مالك عليه وقمت به من حقه بعد إنفاق مالك ، فإن لم تقم بحقه خيف عليك أن لا يطيب لك ميراثه . ‹ صفحة 285 › ولا قوة إلا بالله ( 1 ) [ 27 ] وأما حق ذي المعروف عليك : - فأن تشكره - وتذكر معروفه . - وتنشر له ( 2 ) المقالة الحسنة . - وتخلص له الدعاء في ما بينك وبين الله سبحانه . فإنك إذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرا وعلانية . - ثم إن أمكنك مكافأته بالفعل ( 3 ) كافأته ( وإلا كنت مرصدا له موطنا نفسك عليها ) . [ 28 ] وأما حق المؤذن : - فأن تعلم أنه مذكرك بربك ، وداعيك إلى حظك ، وأفضل أعوانك على قضاء الفريضة التي افترضها الله عليك . - فتشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك . - ( وإن كنت في بيتك مهتما لذلك ، لم تكن لله في أمره متهما ، وعلمت أنه نعمة من الله عليك ، لا شك فيها ، فأحسن صحبة نعمة الله بحمد الله عليها على كل حال . ولا قوة إلا بالله ) . [ 29 ] وأما حق إمامك في صلاتك - فأن تعلم أنه قد تقلد السفارة في ما بينك وبين ( الله ، والوفادة إلى ) ربك . - وتكلم عنك ولم تتكلم عنه . - ودعا لك ولم تدع له ‹ صفحة 286 › - ( وطلب فيك ولم تطلب فيه ) - وكفاك هم ( 1 ) المقام بين يدي الله ( والمسألة له فيك ، ولم تكفه ذلك ) فإن كان في شئ من ذلك تقصير ( 2 ) كان به دونك [ وإن كان تماما كنت شريكه ] ( وإن كان آثما لم تكن شريكه فيه ) . - ولم يكن له عليك فضل ، فوقى نفسك بنفسه ، و ( وقى ) صلاتك بصلاته . - فتشكر له على [ قدر ] ذلك . ( ولا حول ولا قوة إلا بالله ) . [ 30 ] وأما حق الجليس : - فأن تلين له ( كنفك ، وتطيب له ) جانبك - وتنصفه في مجاراة اللفظ . ( - ولا تغرق في نزع اللحظ إذا لحظت . - وتقصد في اللفظ إلى إفهامه إذا لفظت ) . - وإن كنت الجليس إليه كنت في القيام عنه بالخيار ، وإن كان الجالس إليك كان بالخيار ، ولا تقوم إلا بإذنه ( 3 ) - [ وتنسى زلاته . - وتحفظ خيراته . - ولا تسمعه إلا خيرا ] ( ولا قوة إلا بالله ) [ 31 ] وأما حق الجار : - فحفظه غائبا . - وإكرامه شاهدا . ‹ صفحة 287 › - ونصرته ( ومعونته في الحالين جميعا ) [ إذا كان مظلوما ] . - ولا تتبع له عورة ( ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها ، فإن عرفتها منه - من غير إرادة منك ولا تكلف - كنت لما علمت حصنا حصينا وسترا ستيرا ، لو بحثت الأسنة عنه ضميرا لم تتصل إليه لانطوائه عليه ) ( 1 ) . [ وإن علمت أنه يقبل نصيحتك نصحته في ما بينك وبينه ] . ( - لا تستمع عليه من حيث لا يعلم ) . - ولا تسلمه عند شديدة . ( - ولا تحسده عند نعمة ) . - وتقيل عثرته ، وتغفر زلته ( 2 ) ( ولا تدخر حلمك عنه ) إذا جهل عليك . - ولا تخرج أن تكون سلما له ، ترد عنه لسان الشتيمة ، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة ( 3 ) ) - وتعاشره معاشرة كريمة . ( ولا حول ) ولا قوة إلا بالله . [ 32 ] وأما حق الصاحب : - فأن تصحبه بالفضل ( ما وجدت إليه سبيلا ) و ( إلا فلا أقل من ) الإنصاف ( 4 ) - وأن تكرمه كما يكرمك ( ولا يسبقك في ما بينك وبينه إلى مكرمة ، فإن سبقك كافأته ) ( 5 ) - ( وتحفظه كما يحفظك ) - [ وتوده كما يودك ] ( ولا تقصر به عما يستحق من المودة ‹ صفحة 288 › - تلزم نفسك نصيحته وحياطته . - ومعاضدته على طاعة ربه ) - ومعونته على نفسه في ما لا يهم ( 1 ) به من معصية ( ربه ) . - ثم تكون ( 2 ) عليه رحمة ، ولا تكون ( 3 ) عليه عذابا . ولا قوة إلا بالله . [ 33 ] وأما حق الشريك : - فإن غاب كفيته . - وإن حضر ساويته ( 4 ) . - ولا تعزم على حكمك دون حكمه . - ولا تعمل برأيك دون مناظرته . - تحفظ عليه ماله . - وتنفي عنه خيانته ( 5 ) في ما عز أو هان ، ف ( إنه بلغنا ) ( أن يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا ) . ولا قوة إلا بالله . : [ 34 ] وأما حق المال : - فأن لا تأخذه إلا من حله . - ولا تنفقه إلا في حله ( 6 ) ( ولا تحرفه عن مواضعه ، ولا تصرفه عن حقائقه ، - ولا تجعله - إذا كان من الله - إلا إليه ، وسببا إلى الله ) . ‹ صفحة 289 › - ولا تؤثر به على نفسك من لا يحمدك ( وبالحري أن لا يحسن خلافته ( 1 ) في تركتك ، ولا يعمل فيه بطاعة ربك ، فتكون معينا له على ذلك ، أو بما أحدث في مالك أحسن نظرا ، فيعمل بطاعة ربه فيذهب بالغنيمة ) . [ - فاعمل فيه بطاعة ربك ، ولا تبخل به ] فتبوء ب ( الإثم و ) بالحسرة والندامة مع التبعة . ولا قوة إلا بالله . [ 35 ] وأما حق الغريم الطالب لك : - فإن كنت موسرا أوفيته ( 2 ) ( وكفيته وأغنيته ، ولم تردده وتمطله ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( مطل الغني ظلم ) ) - وإن كنت معسرا أرضيته بحسن القول ( وطلبت إليه طلبا جميلا ) ورددته عن نفسك ردا لطيفا . ( ولم تج . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ‹ هامش ص 280 › ( 1 ) ما بين المعقوفين ورد في الصدوق ، وأكثر المذكورات من حقوق المعلم مذكور في حديث مسند إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، لاحظ آداب المتعلمين ( ص 74 - 77 ) الفقرة [ 21 ] . ( 2 ) في الصدوق بدل هذا الحق : فأن تطيعه ، ولا تعصيه ، إلا في ما يسخط الله عز وجل ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ( 3 ) في الصدوق : فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك . ‹ هامش ص 281 › ( 1 ) في الصدوق : وفتح لك ، بدل ( وولاك ) . ( 2 ) في الصدوق : وإن أنت منعت الناس علمك ، أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك . ( 3 ) هذا العنوان منا لتوحيد النسق ، ولكن المؤلفين جعلوا ما تحته حقين : حق الزوجة ، وحق ملك اليمين ، وهو سهو كما شرحنا في المقدمة . ( 4 ) في الصدوق : وأما حق الزوجة . ( 5 ) في تحف العقول : أغلظ ، بدل : أوجب . ‹ هامش ص 282 › ( 1 ) في الصدوق : وأما حق مملوكك . ( 2 ) في بعض نسخ الصدوق : ( لم تملكه ، لأنك صنعته دون الله ! ولا خلقت شيئا من جوارحه ولا أخرجت له رزقا ) . ( 3 ) بدل ما بين القوسين في الصدوق : ليحفظ لك ما تأتيه من خير إليه ، فأحسن إليه كما أحسن الله إليك . ( 4 ) في الصدوق : ولم تبال أن تجوع وتطعمك . . . وهكذا إلى آخر الفقرة ، باختلاف يسير . ‹ هامش ص 283 › ( 1 ) في الصدوق : فأن تعلم أنه يدك وعزك وقوتك . ( 2 ) في تحف العقول : بحق الله . ‹ هامش ص 284 › ( 1 ) في الصدوق : فإن أطاع الله تعالى . ( 2 ) في التحف : حلق ، بدل قيد . ( 3 ) في الصدوق : من السجن . ( 4 ) في الصدوق : وأن نصرته عليك واجبة بنفسك ما احتاج إليه منك . ‹ هامش ص 285 › ( 1 ) في الصدوق : فأن تعلم أن الله عز وجل جعل عتقك له وسيلة إليه ، وحجابا لك من النار ، وأن ثوابك في العاجل ميراثه ، إذا لم يكن له رحم ، مكافأة بما أنفقت من مالك وفي الآجل الجنة . ( 2 ) في الصدوق : وتكسبه ، بدل وتنشر له . ( 3 ) في الصدوق : يوما ، بدل ( بالفعل ) . ‹ هامش ص 286 › ( 1 ) في الصدوق : هول . ( 2 ) في الصدوق : نقص . ( 3 ) في الصدوق ، اختلاف في ألفاظ هذه الفقرة ، والمعنى واحد . ‹ هامش ص 287 › ( 1 ) في الصدوق - بدل ما بين القوسين - : فإن علمت عليه سوءا سترته عليه . ( 2 ) في الصدوق : ذنبه . ( 3 ) كذا ، ولعلها : ( النميمة ) لأنها أنسب بما قبلها وما بعدها سجعا ، ولأن حامل النصيحة لا كيد له ظاهرا ، فلاحظ . ( 4 ) في الصدوق : فأن تصحبه بالتفضل والإنصاف . ( 5 ) هذه الجملة مؤخرة في التحف عن الجملة التالية . ‹ هامش ص 288 › ( 1 ) في الصدوق : وتزجره عما يهم ، إلى آخره . ( 2 ) في الصدوق : وكن . ( 3 ) في الصدوق : ولا تكن . ( 4 ) في الصدوق : رعيته ، بدل ( ساويته ) . ( 5 ) في الصدوق : ولا تخنه . ( 6 ) في الصدوق : في وجهه . ‹ هامش ص 289 › ( 1 ) في بعض نسخ التحف ، خلافتك . ( 2 ) في الصدوق : أعطيته . ( 3 ) هنا موضع ( حق الغريم الذي تطالبه ) الذي ذكر في المقدمة مع فروع الحقوق ، لكنه لم يعنون هنا في أي من النصين لا في تحف العقول ، ولا في كتب الصدوق . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 289 - 298 مع عليه ذهاب ماله ، وسوء معاملته ، فإن ذلك لؤم . ولا قوة إلا بالله ) ( 3 ) [ 36 ] وأما حق الخليط : - فأن لا تغره . - ولا تغشه . ( - ولا تكذبه . - ولا تغفله ) - ولا تخدعه . ( - ولا تعمل في انتقاضه عمل العدو الذي لا يبقي على صاحبه . - وإن اطمأن إليك استقصيت له على نفسك ، وعلمت : ( أن غبن المسترسل ربا ) . ‹ صفحة 290 › [ - وتتقي الله تبارك وتعالى في أمره ] ولا قوة إلا بالله ) . [ 37 ] وأما حق الخصم المدعي عليك : - فإن كان ما يدعي - عليك حقا [ كنت شاهده على نفسك ] ( لم تنفسخ في حجته ) [ ولم تظلمه ] ( ولم تعمل في إبطال دعوته ) [ وأوفيته حقه ] ( وكنت خصم نفسك له ، والحاكم عليها ، والشاهد له بحقه ، دون شهادة الشهود ، فإن ذلك حق الله عليك ) . - وإن كان ما يدعيه باطلا رفقت به ) وردعته ( 1 ) وناشدته بدينه ) [ ولم تأت في أمره غير الرفق ، ولم تسخط ربك في أمره ] ( وكسرت حدته بذكر الله ، وألغيت حشو الكلام ولغطه الذي لا يرد عنك عادية عدوك ، بل تبوء بإثمه ، وبه يشحذ عليك سيف عداوته ، لأن لفظة السوء تبعث الشر ، والخير مقمعة للشر . ولا قوة إلا بالله ) . [ 38 ] وأما حق الخصم المدعى عليه : - فإن كان ما تدعيه حقا ( 2 ) أجملت في مقاولته ( بمخرج الدعوى فإن الدعوى غلظة في سمع المدعى عليه ) [ ولم تجحد حقه ] . ( - وقصدت قصد حجتك بالرفق ، وأمهل المهلة ، وأبين البيان ، وألطف اللطف . - ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال ، فتذهب عنك حجتك ، ولا يكون لك في ذلك درك ) [ وإن كنت مبطلا في دعواك اتقيت الله عز وجل ، وتبت إليه ، وتركت الدعوى ] ( ولا قوة إلا بالله ) ‹ صفحة 291 › [ 39 ] وأما حق المستشير : - فإن حضرك له وجه رأي ، جهدت له في النصيحة و ( 1 ) أشرت عليه ( بما تعلم أنك لو كنت مكانه عملت به . - وذلك ليكن منك في رحمة ، ولين ، فإن اللين يؤنس الوحشة ، وأن الغلظ يوحش موضع الأنس . - وإن لم يحضرك له رأي ، وعرفت له من تثق برأيه وترضى به لنفسك ، دللته عليه وأرشدته إليه ( 2 ) فكنت لم تأله خيرا ، ولم تدخره نصحا . ولا حول ولا قوة إلا بالله ) [ 40 ] وأما حق المشير عليك - أن لا تتهمه في مالا يوافقك عليه من رأيه ( إذا أشار عليك ، فإنما هي الآراء وتصرف الناس فيها واختلافهم ، فكن عليه في رأيه بالخيار ، إذا اتهمت رأيه ، فأما تهمته فلا تجوز لك ، إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة . - ولا تدع شكره على ما بدا لك من إشخاص رأيه ، وحسن وجه مشورته ) - فإذا وافقك حمدت الله ( وقبلت ذلك من أخيك بالشكر والإرصاد بالمكافأة في مثلها ، إن فزع إليك . ولا قوة إلا بالله ) . [ 41 ] وأما حق المستنصح - فإن حقه أن تؤدي إليه النصيحة ( على الحق الذي ترى له أنه يحمل ، وتخرج المخرج الذي يلين على مسامعه ، وتكلمه من الكلام بما يطيقه عقله ، فإن لكل عقل طبقة من الكلام يعرفه ويجتنيه ) ( 3 ) - وليكن مذهبك الرحمة [ له والرفق به ] ‹ صفحة 292 › ( ولا قوة إلا بالله ) . [ 42 ] وأما حق الناصح - فأن تلين له جناحك . - ( ثم تشرئب ( 1 ) له قلبك ، وتفتح له سمعك ، حتى تفهم عنه نصيحته ( 2 ) . - ثم تنظر فيها ) : فإن كان وفق فيها للصواب ( 3 ) حمدت الله ( على ذلك ، وقبلت منه وعرفت له نصيحته ) . - وإن لم يكن وفق له فيها 4 ) رحمته ، ولم تتهمه ، وعلمت أنه ( لم يألك نصحا ، إلا أنه ) أخطأ ، [ ولم تؤاخذه بذلك ] إلا أن يكون ( عندك ) مستحقا للتهمة ، فلا تعبأ بشئ من أمره على ( كل ) حال . ولا قوة إلا بالله . [ 43 ] وأما حق الكبير - فإن حقه توقير سنه . - وإجلال إسلامه ، إذا كان من أهل الفضل في الإسلام ، بتقدمه فيه ( 5 ) - وترك مقابلته عند الخصام . - ولا تسبقه إلى طريق . - ولا تؤمه في طريق ( 6 ) - ولا تستجهله . - وإن جهل عليك ، تحملت ، وأكرمته بحق إسلامه [ وحرمته ] ( مع سنه ، فإنما حق السن بقدر الإسلام . ‹ صفحة 293 › ولا قوة إلا بالله ) . [ 44 ] وأما حق الصغير : - فرحمته ( 1 ) - ( وتثقيفه وتعليمه ) - والعفو عنه ، والستر عليه . - والرفق به . - والمعونة له . - ( والستر على جرائر حداثته ، فإنه سبب للتوبة . - والمداراة له ، وترك مماحكته ، فإن ذلك أدنى لرشده ) [ 45 ] وأما حق السائل : - فإعطاؤه [ على قدر حاجته ] ( 2 ) إذا تيقنت صدقه وقدرت على سد حاجته . - والدعاء له في ما نزل به . - والمعاونة له على طلبته . - وإن شككت في صدقه ، وسبقت إليه التهمة له ، ولم تعزم على ذلك ، لم تأمن أن يكون من كيد الشيطان ، أراد أن يصدك عن حظك ، ويحول بينك وبين التقرب إلى ربك ، فتركته بستره ، ورددته ردا جميلا . - وإن غلبت نفسك في أمره ، وأعطيته على ما عرض في نفسك منه ، فإن ذلك من عزم الأمور . [ 46 ] وأما حق المسؤول - إن أعطى قبل منه ( ما أعطى ) بالشكر له ، والمعرفة لفضله . - وطلب وجه العذر في منعه ( 3 ) ‹ صفحة 294 › ( - وأحسن به الظن . - واعلم أنه إن منع فماله منع ، وأن ليس التثريب في ماله ، وإن كان ظالما ، فإن الإنسان لظلوم كفار ) [ 47 ] وأما حق من سرك ( الله به وعلى يديه ) ( 1 ) - فإن كان تعمدها لك : حمدت الله أولا ، ثم شكرته ( 2 ) على ذلك بقدره ، في موضع الجزاء . - وكافأته على فضل الابتداء ، وأرصدت له المكافأة . - وإن لم يكن تعمدها : حمدت الله وشكرته ، وعلمت أنه منه ، توحدك بها . - وأحببت هذا ( 3 ) إذ كان سببا من أسباب نعم الله عليك . - وترجو له بعد ذلك خيرا ، فإن أسباب النعم بركة حيثما كانت ، وإن كان لم يتعمد . ولا قوة إلا بالله . [ 48 ] وأما حق من ساءك ( القضاء على يديه ، بقول أو فعل ) : - فإن كان تعمدها كان العفو أولى بك ( 4 ) ( لما فيه له من القمع ، وحسن الأدب مع كثير أمثاله من الخلق . - [ وإن علمت أن العفو عنه يضر ، انتصرت ] فإن الله يقول : * ( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ) * ( إلى قوله * ( من عزم الأمور ) * ( 5 ) وقال عز وجل * ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) ( 6 ) هذا في العمد . - فإن لم يكن عمدا ، لم تظلمه بتعمد الانتصار منه ، فتكون قد كافأته في تعمد ‹ صفحة 295 › على خطأ . - ورفقت به ، ورددته بألطف ما تقدر عليه . ولا قوة إلا بالله ) [ 49 ] وأما حق أهل ملتك ( عامة ) : - فإضمار السلامة . - و ( نشر جناح ) الرحمة [ بهم ] - والرفق بمسيئهم . - وتألفهم . - واستصلاحهم . - وشكر محسنهم ( إلى نفسه ، وإليك ، فإن إحسانه إلى نفسه إحسان إليك ، إذا كف عنك أذاه ، وكفاك مؤونته ، وحبس عنك نفسه . - فعمهم - جميعا - بدعوتك . - وانصرهم - جميعا - بنصرتك ) . [ - وكف الأذى عنهم . - وتحب لهم ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ] . - وأنزلهم - جميعا منك منازلهم : كبيرهم بمنزلة الوالد ، وصغيرهم بمنزلة الولد ، وأوسطهم بمنزلة الأخ ( 1 ) [ وعجائزهم بمنزلة أمك ] . ( - فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة . - وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه ) . [ 50 ] وأما حق أهل الذمة - ( فالحكم فيهم ) أن تقبل منهم ما قبل الله . - ( وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده . ‹ صفحة 296 › - وتكلهم إليه في ما طلبوا من أنفسهم ، وأجبروا عليه . - وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك ، في ما جرى بينك وبينهم من معاملة ) . [ - ولا تظلمهم ما وفوا لله عز وجل بعهده ] ( وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله ، والوفاء بعهده وعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حائل ، فإنه بلغنا أنه قال : ( من ظلم معاهدا كنت خصمه ) فاتق الله . ولا حول ) ولا قوة إلا بالله . [ الخاتمة ] ( فهذه خمسون حقا محيطا بك ، لا تخرج منها في حال من الأحوال ، يجب عليك رعايتها ، والعمل في تأديتها ، والاستعانة بالله جل ثناؤه على ذلك . ولا حول ) ولا قوة إلا بالله . والحمد لله رب العالمين [ وصلواته على خير خلقه محمد وآله أجمعين وسلم تسليما ] ( 1 ) ‹ صفحة 297 › |
الساعة الآن 11:56 PM |
Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
Support : Bwabanoor.Com
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010